د. عبدالله الأشعل*
الظاهر للمراقب أن المواقف الإسرائيلية والأمريكية، بشأن البرنامج النووي الإيراني، تشير الي أن هناك خلافاً عميقاً لدرجة أن بعض المتابعين العرب تمنى أن يكون ملف إيران سبباً للقطيعة بين إسرائيل والولايات المتحدة.
لكني ألخص رأيي ضمن الملاحظات العشرة الآتية:
الملاحظة الأولى: هناك علاقة عضوية ووظيفية بين إسرائيل والولايات المتحدة، وقد شغلت نفسي سنوات لفهم طبيعة هذه العلاقة لأن خلخلتها مصلحة مؤكدة للأمة العربية التي انقض عليها الوحش الصهيوني، بمساعدة ومتابعة واشنطن والتي وضعت كل ثقلها وراء المشروع الصهيوني معتبرة أن إسرائيل ومشروعها هما مصلحة أمريكية مباشرة. للأسف، لم يفهم أحد من قادة العرب هذه الحقيقة لدرجة أن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي فهم بعمق المشروع الصهيوني وتحالفاته، كان يمني النفس بأن العلاقات مع السعودية ليست تراجعاً عن تقسيمه للنظم العربية إلى تقدمية ورجعية. فقد تمنى وأعلن أنه يوافق على العلاقات السعودية – الأمريكية لسبب واحد وهو أن تكون الرياض لسان حال العرب لدى واشنطن.
بالطبع، هذه الرؤية ساذجة كمعظم رؤى الحالمين العرب. في الغالب، كانت تلك من إبداعات الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، “فيلسوف الإستبداد” في مصر، ولم يدرك الرئيس عبد الناصر أن السعودية أضعف من أن تكون عاملاً مؤثراً على القرار الأمريكي في القضايا العربية حتى وقعت مأساة 1967 التى لا تزال تحتاج إلى تحقيق تاريخي مُنصف يوضح مواقف بعض الدول العربية منها وفيها.
من هنا، إن العلاقات السعودية – المصرية عموماً بحاجة إلى دراسة متأنية حول أثر كل منهما على نظام الآخر خصوصاً والنظام العربي عموماً. فقد كان الملك فيصل بن عبد العزيز هو من تعهد، في قمة الخرطوم أغسطس/آب 1967، بالإشراف على معونة الدول الثلاثة مصر والأردن وسوريا لإزالة آثار العدوان. أما مصدر العدوان نفسه فهذه قضية أخرى لم يرقَ الفكر الرسمي، حتى الآن، إلى مستوى التعامل معها وإن كان الفكر الثقافي قد وصل إلى قناعات سجلناها في إنتاجنا العلمي المنشور، والذي صدر فى الوقت الضائع.
الملاحظة الثانية: إن العلاقة العضوية بين واشنطن وإسرائيل لا تكترث للموازين الاقتصادية والاستراتيجية لدولة عظمى ودولة كفاحية، كما كان يسميها أستاذنا د. حامد ربيع، بمعنى أن إسرائيل بُنيت على هباء وتعلم أنها نبتة شيطانية سرطانية تعيش على هزيمة الجسد العربي وعقله.
أما عن مكونات العلاقة العضوية، فهي أن منطق النشأة الأمريكية في العصور الوسطى على جثة ساكني شطر الكرة الأرضية الغربي تحت زعم الكشوف الجغرافية التي رافقت حركة الإستعمار الغربي أيضاً في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، والتي تبنت نظرية دارون، “البقاء للأصلح والأقوى”، وهي نظرية بيولوجية أساساً تفرع عنها شعار الاستعمار في أمريكا وفلسطين، وهو أن المستعمر وجد “أرضاً بلا شعب” يليق بها ويستحقها. فهو المنتصر والأحق بها من الشعوب البائدة، وربما استخلص كارل ماركس من هذا الشعار نظريته في الفعالية، وهي أن الكتاب ملك من يقرأه والأرض ملك من يستغلها وقس على ذلك جميع مظاهر الحياة التي تغفل طبائع الإنسان الفطرية.
لذلك، إزدهرت العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، لأنه التعبير الحديث عن عقلية العصور الوسطى العنصرية الكنسية قبل نشأة الدولة القومية وتحجيم الدين ومؤسساته وإخضاعه للسلطة السياسية. وللأسف، نقل السطحيون من مثقفينا هذه اللحظة خاماً إلى واقعنا، فأحدثوا فيه تشويها خطيراً. وقد بذل أساتذة جامعة هارفرد، وغيرها من الجامعات الأمريكية، جهوداً بحثية رائعة فى بيان العبء الذي تمثله إسرائيل على دافعي الضرائب والمصالح الأمريكية؛ ومع ذلك، لم تؤثر على قناعات صانع القرار الذي يدرك خطورة العلاقة الجينية بين إسرائيل وأمريكا.
الملاحظة الثالثة: بالنسبة إلى العلاقتين المصلحية والوظيفية، فقد غمت على الدارسين لدرجة أنهم اختلفوا بين من يرى أن إسرائيل هي التي توظف أمريكا لمصلحتها ومن يرى العكس حيث تتخذها وكيلاً حصرياً عنها. برأيي، إن نفوذ اليهود الصهاينة في القرار الأمريكي يرجح النظرية الأولى، بينما قدرات الدولة العظمى وتحالفاتها ترجح النظرية الثانية، وأنا مع النظرية الثانية استناداً إلى سببين؛ السبب الأول، أن واشنطن تملك كل أدوات الضغط على إسرائيل. السبب الثاني، أن إسرائيل لا تجرؤ كل الوقت على تحدي واشنطن بل إنها كحالة نفسية لا تستطيع الصمود وحدها في المنطقة التي تغلي بالغضب والقهر بسبب رعاية إسرائيل لكل ما يقهر المواطن العربي ويشل قدراته.
فإذا صح تخلي الولايات المتحدة عن أدوارها في المنطقة بسبب هزائمها المتتالية وأنها تتراجع، فقد يعبر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عن حزنه لهذه الظاهرة ولكنه لن يبكي على “لبن مسكوب” فسوف يبحث عن دعم من القوى الصاعدة، كالهند والصين. وبالفعل، تنامت العلاقات بين إسرائيل وهذه الدول.
الملاحظة الرابعة: تشكل إيران عائقاً أمام تمدد المشروع الصهيوني في المنطقة، وليست تهديداً وجودياً كما يزعم نتنياهو. لا تملك إيران القدرة على إزالة إسرائيل، ولكنها تملك أدوات هدم التماسك النفسي لمشروعها لأن كل اليهود فيها يعلمون تماماً أنهم غزاة عابرون، وأن قوة إسرائيل الذاتية والحماية الأمريكية لا ضمان لإستمرارهما، وأن الصراع الحالي مؤقت ولن يسفر عن أوضاع دائمة؛ فلا العرب الذين يهرولون إلى إسرائيل مطمئنون حقاً لها ولأمريكا ولم يتخلوا عن عروبتهم لصالح الصهيونية، كما تدرك إسرائيل أن تعاون بعض الحكام العرب هو لصالحهم الشخصي على حساب أوطانهم مسألة عابرة أيضاً، حيث اتخذوا من الرئيسين الراحلين أنور السادات ومحمد حسني مبارك مثالين واضحين، فهما على التحقيق قد أضرا مصر ضرراً بليغاً، ولكني لست واثقاً إذا كانوا فعلوا ذلك عمداً وبوعي لصالح إسرائيل أم جهلاً وغباء وقصوراً عن الفهم بحكم تركبيهم ومهنتهم، بالإضافة إلى أن الرئيس السادات كان مسكوناً بعقدة “عبد الناصر” شكلاً ومضموناً.
الملاحظة الخامسة: تدرك العقلية اليهودية التاريخ جيداً، كما تدرك خطورة الحكمة العربية “ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك”. فقد كشفت دراسة السلوك الإسرائيلي مع واشنطن عن الكثير من الدروس التي تخرج عن سياقنا فى هذه المقالة.
الملاحظة السادسة: إن الخلاف بين واشنطن وإسرائيل حول إيران يتحصل في فهم كل طرف لمصالحه في المعادلة، محمولاً على أن إسرائيل نفسها مصلحة أمريكية موضوعية لاعلاقة لها بمزاج ساكن البيت الأبيض.
فقد بدأت الثورة الإسلامية في إيران، العام 1979، بالعداء لواشنطن وإسرائيل، وتبنت شعارات موالية للأقصى وفلسطين، ثم دخلت مباشرة ضد إسرائيل في لبنان، بجانب حزب الله، ثم بدعم كل مقاومة ضد إسرائيل. لكني لا أصدق أن الصراع بين إيران وإسرائيل صراع إيديولوجي، فهو عندي صراع على المصالح مغلف ببعض الشعارات الإيديولوجية لكسب الشعبية ودغدغة المشاعر الإسلامية، كما أن إسرائيل تعرف جيداً أن إصرار إيران على تعظيم قدراتها هو عمل ضدها بإعتبارها القوة الأخرى المسيطرة عسكرياً في فلسطين وسياسياً في العالم العربي، وأن أي صراع عسكري بينهما لن تقبل به واشنطن، لكنها قد تسمح سراً بتدمير إسرائيل للمنشآت النووية الإيرانية كما ثبت أنها وافقت على غزو إسرائيل لبيروت ثم أرسلت السفير فيليب حبيب، بالتنسيق مع السعودية، لإخراج المقاومة الفسطينية من لبنان مقابل إنسحاب إسرائيل، وهذا كسب كبير في مسيرة المشروع الصهيوني.
أيضاً، تفهم إسرائيل جيدا أن حزب الله له وجهان؛ الوجه الأول، أنه ذراع إيران ومشروعها ضدها وضد غيرها. الوجه الثاني، أنه يدافع عن لبنان ولا يسعده إقامة الدولة اللبنانية التي تملك جيشاً يدافع عنها في إطار التركيبة الطائفية التي حلت محل الدولة فصار لبنان، في نظر فريق داخلي، ساحة للصراع السعودي – الإيراني والإيراني – الإسرائيلي، ثم أن حزب الله أهم قوى ردع لإسرائيل إذا فكرت بمهاجمة إيران. فعداء طهران لإسرائيل أكبر من عداء حزب الله لها، وكل شيء يعتمد على التسويات والصفقات، وليس هذا عيباً في أي طرف.
الملاحظة السابعة: من مصلحة إسرائيل أن تطوي إيران وتنضم إلى “بيت الطاعة” الأمريكي، على غرار الكثير من الحكام العرب، وهذه مصلحة أمريكية أيضاً. ولكن إيران تصر على أنها لاعب رئيسي لا بد من الاعتراف به، وليس صعباً على كل من إسرائيل وواشنطن التوصل إلى صيغة فى نهاية المطاف.
الملاحظة الثامنة: وصل المشروع الصهيوني في تقدمه لمرحلة الإحتكاك بالمشروع الإيراني؛ لذلك، وجب البحث عن حلول وألا ننخدع بالآثار ونترك الجذور.
الملاحظة التاسعة: إن الخلاف الإسرائيلي – الأمريكي حول الملف النووي الإيراني ليس صحيحاً، ذلك أن حماية أمريكا لإسرائيل مؤكدة وتحول دون كل ما يزعج الأخيرة نفسياً؛ لهذا، كانت زيارة قائد القيادة الوسطى الأمريكي لإسرائيل وإدخالها ضمن حماية هذه القيادة.
الملاحظة العاشرة: تستخدم واشنطن الملف النووي والعقوبات الإقتصادية لتقويض القوة الإيرانية حتى تسقط في “بيت الطاعة” الأمريكي، لكن صمود إيران سيحسن شروط أية تسوية مستقبلية.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: الحرة – العربي الجديد.
موضوع ذا صلة: في مبادئ الثقافة السياسية