د. عبدالله الأشعل*
الشعوب العربية جميعاً بحاجة إلى الوعي بما يخص المسائل العلمية بكل فروع المعرفة. سنبدأ في هذه المقالة بالحديث عن المبادئ الثقافة السياسية الضرورية، والتي يجب أن يتعرف عليها كل مواطن عربي في أي مكان.
الثقافة السياسية تعني مجموعة المفاهيم ذات الصلة بالسلطة في الداخل والخارج، وكذلك السلوك في المجال السياسي.
السياسة، وعلومها، هي علم السلطة. والسلطة تعني طريقة إدارة الدول والمجتمعات، ومادة العلوم السياسية هي مجموعة الفروع التي تخدم نظرية السلطة وهي فرع من العلوم الإجتماعية. فعلم السياسة، هو الجانب الأكاديمي فيها، لكن الثقافة هي القشور الخارجية التي يجب أن يتعلمها العامة غير المتخصصين. أما عالم السياسة، فهو يختلف عن دارس السياسة، وممارس السياسة، والإعلام السياسي حيث أن جميعها تعتبر مفاهيم مألوفة في مادة العلوم السياسية.
في هذه المقالة، نريد أن نقدم مجموعة من المفاهيم الثابتة علمياً، والتي فاق الواقع العربي مضمونها. لذلك، إن التفاعل بين النظرية والتطبيق مهم للغاية بالنسبة لفهم أبعاد وجوانب الموضوع السياسي، ولا يمكن لمواطن أن يفهم شيئاً في السياسة ما لم يلم بهذه المصطلحات التي إخترناها لهذه المقالة الإفتتاحية، وهي أشبه بعناوين ومعها بعض الشروح الطفيفة والتي يتسح لها المقام.
أول هذه المصطلحات هو “الدولة”، وعليها تعتمد جميع فروع العلوم السياسية؛ لذلك، إن الجميع عامة وخاصة في العالم العربي لا يفهمون معنى الدولة والفرق بينها وبين الحكومة ونظام الحكم والنظام السياسي، ويطلقون أوصافاً يظنون أنها ملائمة ولم ينزل الله بها من سلطان. فالدولة هي التطور الطبيعي للمجتمع المنظم، وهي كيان سياسي وقانوني يضم ثلاثة عناصر؛ العنصر الأول والأساسي والدائم، هو الإقليم. لذلك، نلاحظ حدة المشاكل المتعلقة بالإقاليم والحدود لأنها في الغالب تعد موروثاً تاريخياً للشعوب.
بهذه المناسبة، لم تتغير مصر منذ زمن الفراعنة، وأن التغير الوحيد الذي طرأ عليها هو ما يسمى بـ “إتفاقية الحكم الثنائي المصري – البريطاني للسودان”، العام 1899، وهي ليست حكماً ثنائياً وإنما كانت ستاراً وقعها عن مصر بطرس غالي، رئيس الوزراء، تحت ضغط الإحتلال البريطاني، وكانت تلك أحد الخطايا الأربعة التي سجلها إبراهيم الورداني في إعترفاته بعد إغتيال بطرس غالي، على سلالم وزارة الخارجية بالتحرير، وكان وقتها رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية، في 10 فبراير/شباط 1910.
ويكمن العنصر الثاني بـ الشعب، وأجياله التي تتغير وفقاً لإدارة الدولة وصمود العناصر الأساسية لأصالته. أما العنصر الثالث فهو إدارة الأرض والشعب، وتسمى السلطة السياسية. هذه السلطة تشمل على ثلاثة عناصر أو أجنحة وهي السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
فإن ظهر حاكم يحصر هذه السلطات جميعاً في يده صار النظام دكتاتورياً لا يكترث للشعب بل ويسلب منه أهم مقوماته وهو الجانب الإنساني. أما إن كان الحاكم منتخباً بشكل مباشر من الشعب والمؤسسات المنتخبة والسلطات مستقلة عن بعضها، والقانون هو الفيصل بينها، فيُنعت هذا النظام بالديمقراطي. إتصالاً بهذا الموضوع، تميّز العلوم السياسية بين النظام السياسي ونظام الحكم، فالأخير هو النظام الديكتاتوري الذي يعين السلطات ويتحكم في مقدرات البلاد ولا يسمح بأي نقد أو حرية من أي نوع. أما الأول، فهو الذي يستخدم بصورة خاطئة في الإستخدام العام، وحتى المتخصص، فهو النظام الذي يقوم على المؤسسات المنتخبة إنتخاباً حراً. والحق أن مصر شهدت، منذ العام 1952، كل أصناف التزوير المادي والمعنوي والمصادرة لأشخاص المرشحين والناخبين، وأنها لم تشهد نظاماً سياسياً منذ ذلك العام، وإنما شهدت نظام حكم واحد يتعاقب عليه مجموعة من العسكريين، الذين تولوا السلطة منذ ذاك العام أي أكثر من ستين عاماً. هذا النظام له خصائص معينة لا يمكن أن تساعد على المحافظة على الدولة، ومع ذلك حفل الخطاب السياسي لقياداته بالحرص على الدولة والخوف من هدمها والمبالغة بإستخدام كلمة “الدولة” دون أن يدركوا معناها الحقيقي.
أما المصطلح الخاص بـ “الوطني” وإطلاق هذا الوصف على كل ما هو مصري ويقابله غير الوطني، وليس الأجنبي، حيث يقصد به من يخدم الوطن أو لا يخدم الوطن. معنى ذلك أن السلطة إحتكرت الوطنية والديمقراطية ومعنى الدولة، وكذلك تحدثت باسم الشعب وحدها. ظهر الأمر بشكل خاص في الخطاب السياسي للرئيس الراحل، حسني مبارك، ومن قبله الرئيس أنور السادات. أما الرئيس جمال عبد الناصر، فقد أصرف من إستخدام مصطلحات الشعب والوطنية والوطن، ووضع قاعدة تقول أن مصر لا يصلح لها إلا الحاكم العسكري وأن الجيش هو “الأب الروحي” لهذا الوطن. هذه المفاهيم تحتاج إلى مناقشة وتوضيح، لأنها تبدو غير علمية تماماً كما يلحق بهذا المصطلح المصلحة العامة والخاصة والدولة الوطنية ويقابلها الدولة غير الوطنية، وهي مصطلحات ليست موجودة في اللغات الأجنبية وإنما أجهدوا اللغة العربية بها.
من المعلوم أن الإنتخاب ليس هو الديمقراطية وإنما هو أداة لبناء الديمقراطية، فإذا بالإبداعين المصري والعربي يحولانه إلى أداة لدعم الدكتاتورية. إن الإنتخاب بذاته لا يقدم مفهوماً معيناً لشكل النظام الذي ينبنى عليه، كما ليس هناك في المنطقة العربية إنتخابات حقيقية تماماً طوال العقود الستة الأخيرة وأن التزوير فيها قد تجاوز كل الحدود بحيث أصبحت كلمة إنتخاب لا معنى لها لأن المرشح يعين والناخب يوجه ويتم رشوته وهو أصلا لا وعي له ولا إرادة بعدما تم إفقاره، فقد إختار “سيده” الذي أحسن إليه وليس النائب الذي يتحدث بلسانه، بالإضافة إلى أن كل المؤسسات تدار بالتعليمات.
من هنا، فقدت تلك المؤسسات مضمونها ومعناها. على سبيل المثال، يفترض أن من إختصاص البرلمان مراقبة الحكومة وسن التشريعات ووضع الميزانية، ولكن البرلمان المصري منذ عقود لا علاقة له بـ “البرلمان” بهذا المفهوم، والطريف إحتفاله بمضي قرن ونصف على بدأ الحياة النيابية في مصر، منذ الخديوي إسماعيل. من وجهة نظري، إن تطور الحياة النيابية في مصر قد توقف عند العام 1952، حيث ساد نظام الحكم الفردي المستند إلى القوتين الأمنية والعسكرية؛ لذلك، إن من قبيل الغلو والإساءة إلى مصر أن تحْدث هذه المظاهر الكاذبة.
أخيراً، يحتل مفهوم المواطنة مكانة هامة في الدساتير المصرية دون أن يكون له علاقة بالمفهوم الحقيقي وهو حال الدساتير العربية أيضاً، فالمواطنة الحقيقية تكون وثيقة الصلة بالوطن، أي أن المواطن يتمتع بعلاقة عضوية مع وطنه الذي نشأ فيه، وأن الجنسية بالنسبة له هي مجرد وثيقة تثبت من الناحية الرسمية أنه مصري ولكنها لا تنشئ مصريته.
أيضاً، يترتب على ذلك أنه ما دامت العلاقة بين المواطن ووطنه علاقة طبيعية عضوية، فأنه لا يمكن إسقاط الجنسية عنه أو سحبها منه وإنما يتم حرمان المواطن المتجنس وحده لأن قرار منح الجنسية تتخذه الحكومة وتنشأ به رابطة الإنتماء إلى الجماعة الوطنية، فالجنسية هي التي تدخل الأجنبي أو تخرجه منها. من هنا، يعتبر “المواطن” هو العضو الأصيل في هذه الجماعة الذي يتمتع بالمواطنة قبل أن تعطى له الجنسية، وهو قرار إلزامي كاشف وليس منشئ ودليل وليس حدث. لذلك، أستغرِب أن تقوم بعض الحكومات العربية بسحب الجنسية أو إسقاطها عن مواطنيها الأصلاء. فإذا كانو قد أخطأوا في حق الحكومة، فليس بالضرورة هو خطأ بحق الدولة أو الوطن. وعلى كل حال، لكل خطأ عقوبته في القانون، ولكن لا يجوز أن يكون إسقاط الجنسية أداة بيد أية حكومة عربية للتنكيل بخصومها.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: الحرة – سي.أن.أن عربية.
موذوع ذا صلة: هل يمكن إصلاح العلاقة بين الحاكم والمحكوم العربيين؟