بعيداً عن كل حيثيات الإنتخابات التشريعية اللبنانية وما رافقها من مخرجات وانعكاسات ستكون حاضرة على الساحة اللبنانية طويلاً، لا يمكن لأي متتبع أن يقتنع بأن هذه الإنتخابات مبنيَّةٌ على قواعد قانونية وسياسية وإجتماعية ولوجيستية صحيحة. يكفي القول إن انتخابات أجريت في ظل أزمة إقتصادية تكاد تصل إلى مرحلة الإنهيار، وأزمة سياسية تكاد تصل تأثيراتها إلى جوهر وجود الكيان اللبناني، وغياب للقوانين والإجراءات القانونية التي تنظم هذه الإنتخابات، حتى يعرف الآخر أنها عملية تصويت وليست إنتخابات.

لكن، وبما أن الإنتخابات حصلت وأفرَزَت ما أفرزت، من المُلِح إجراء مراجعة بسيطة متجردة من كل العوامل العاطفية والطائفية والمناطقية والسياسية التي تتحكم عادة برأي الناخب اللبناني، من الإنسان العادي البسيط إلى الأكاديمي.

كانت الإنتخابات سياسيَّةً بإمتياز، وبعناوين سياسية تجاوزت حدود لبنان. ولا يخفى على أحد أن العنوان الأبرز فيها كان حزب الله وحلفاؤه ضمن نظرية مواجهة ما سمي بـ “الإحتلال الإيراني”، مع أن السفير السعودي والسفيرة الأميركية حضرا في الإنتخابات أكثر من عدد كبير من مرشحين.

منذ حوالي 4 أعوام، بدأت الإدارة الأميركية تنفيذ مشروع لاستهداف حزب الله من خلال حلفائه، لقناعة ربما بأن القاعدة الشعبية للحزب لا يمكن الإضرار بها بحكم الولاء غير المشروط لما يريده الحزب. بدأت تتضح معالم هذا المشروع مع الوقت وخاصة ما كشفه مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى السابق، ديفيد شينكر، حيث كشف عن أن إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، كانت وراء تسريع الإنهيار المالي في لبنان، وفرض عقوبات على مؤسسات مالية مرتبطة بالحزب، وخفضت وكالة “موديز” للتصنيف الإئتماني للبنان، مع ما أعقب ذلك من سياسات مالية لحاكم مصرف لبنان – المقرب من الأميركيين- والتي أوصلت الوضع إلى ما هو إليه.

إقرأ أيضاً: مقترحات وتوصيات خطة وطنية شاملة للثورة في لبنان (1/2)

هذه الإجراءات لعبت دوراً في تنفيذ البعد الآخر للمشروع الأميركي المتمثل “بشيطنة” حزب الله وحلفائه، والتركيز هنا جاء على التيار الوطني الحر. أعوام من البروباغاندا والترويج والتحريض على المستويات السياسية والإجتماعية والفنية، حيث تم تجنيد إعلاميين وفنانين للهجوم على الحزب وحلفائه، والنتيجة ظهرت في انتخابات العام 2022.

الأهم من كل ذلك هو البُعد المتعلق بخلق معارضة داخل “البيئة الشيعية” بناء على معادلة قد تكون – في حال نجاحها – أساساً لأخذ لبنان إلى منعطف خَطِرٍ في المرحلة المقبلة. هذه المعادلة تقول إن انتقاد حزب الله لا يجب أن يقتصر على سياساته الداخلية التي تفتح الباب أمام جدال ونقاش بحكم فشله في مواضع عديدة في مواجهة الأزمات الإقتصادية والمعيشية – والتي يبررها الحزب بالضغوط الخارجية عليه – بل يجب أن تقترن معارضة الحزب بمعارضة دوره كمقاومة؛ وبالتالي، ربطها بإيران. وعلى هذا الأساس، خرج مصطلح “الإحتلال الإيراني”، بغض النظر عن أنه مصطلح دعائي لا يختلف عن مصطلحات الدعاية الأميركية والغربية المرتطبة بالحرب الروسية في أوكرانيا على سبيل المثال.

هنا، قد يكون من المفيد الحديث بشيء من الموضوعية:
– لدينا حرب إعلامية وسياسية وإقتصادية تُشَنُّ بأدوات لبنانية ورعاية وتمويل إقليمي عربي ودولي.
– لدينا بُعدٌ خَطِرٌ يتمثل بالهجوم على دور حزب الله كمقاومة، ما أدى في مرحلة لاحقة إلى إستخدام رصيد الحزب كمقاومة لتبرير سياسات داخلية.
– أمامنا قوة إعلامية مخيفة تعمل على شيطنة الحزب وحلفائه وتحرص دائماً على الهجوم عليه ضمن عناوين ومصطلحات عديدة.

في المقابل، ماذا فعل حزب الله لمواجهة هذه الحرب ضده؟

لا يمكن إستقراء الكثير من تصرف الحزب في مواجهة هذه الحرب. القاعدة الأساس كانت الإعتماد على رصيده كمقاومة لمواجهة الحملة ضده. هذه الرصيد لم يخدم الحزب كثيراً إلا في إقناع جمهوره – المقتنع أصلاً – بدوره واهميته في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي. لكنها لم تقدم له خدمة كبيرة في إقناع جمهور الطرف الآخر، والسبب في ذلك قد يكون أولاً في أن القوة الإعلامية للحزب وحلفائه موجّهة بالمقام الأول لجمهوره فقط، وثانياً في ضعف القدرة الإعلامية متأثرة بعوامل عدة أكثرها يخص الحزب. إلى جانب ذلك، يبرز دور ما يمكن تسميته “المعارضة الشيعية” للحزب.

أيضاً، لم يُعِرْ حزب الله – ربما – أهمية كبيرة لمشروع خلق معارضة داخل المكوّن الشيعي، وهو ما كشفه أيضاً ديفيد شينكر الذي يُفهَمُ من كلامه أن هذه النقطة شكلت أرضية صلبة لضرب حزب الله.

لعبت “نظرية التخوين” – لكل من ينتقد حزب الله – دوراً في إفقاد الحزب ورقة مهمة لمواجهة مشروع خلق المعارضة الشيعية، المدعومة أميركياً وخليجياً. لم يلتفت الحزب – ربما – إلى أن الكثيرين ممن ينتقدون أداءه داخلياً ومعيشياً، يلتقون معه في العداء للكيان الإسرائيلي، بل كانت النظرة المسيطرة تجاه كل من ينتقدون الحزب داخليا بأنهم “صهاينة ويريدون تجريد المقاومة من سلاحها ويرَوِّجون للتطبيع”، وهذه كانت الهفوة الكبيرة في نظرة الحزب وجمهوره الواسع لمن لا يؤيد عمله داخلياً.

هنا، لا بد من الإشارة إلى أن الحزب لم يستَفد من التجربة الإيرانية في هذا الخصوص. في إيران، يظهر واضحاً أن الناخبين لا يترددون في معاقبة أي رئيس أو مرشح حين يفشل في الوفاء بوعوده، وهذا لا يعني أن الناخبين ضد بلادهم أو يريدون تدخل الأجنبي في شؤونها. كان يكفي أن يهدد الرئيس ترامب بضرب إيران لتجد كل الإيرانيين يرفضون هذه التهديدات ويتوعدون واشنطن، بينما الكثير منهم كانوا ينتقدون حكومتهم على أدائها الإقتصادي والمعيشي. فلقد أدى تعاطي الحزب مع المعارضة الشيعية له إقتصادياً ومعيشياً، إلى خسارته ورقة قوية.

يقول المفكر العماني، علي بن مسعود المعشني، إن وجود معارضة قوية هو حافز للسلطة لتقديم أداء أفضل. المعارضة التي لم يساهم الحزب في إيجادها على قاعدة “صديقك من صَادَقَكَ لا من صَدَّقَك”، و”رحم الله من أهدى إلى عيوبي”. فاعتزل من يؤيدون حزب الله المقاومة ويعارضونه في الداخل في منازلهم، أو هاجروا أو حاولوا التكيف مع الواقع.

إقرأ أيضاً: مقترحات وتوصيات خطة وطنية شاملة للثورة في لبنان (2/2)

في المقابل، كانت الفرصة ذهبية أمام خلق معارضة لا هَمَّ لها ولا مشروعَ لها ولا رؤية لها سوى ضرب حزب الله، لكنها امتلكت أوراقاً مهمة أبرزها المواقع التي فشل فيها الحزب إجتماعياً ومعيشياً، حيث تم الربط بين هذا الفشل ودور الحزب كمقاومة؛ وبالتالي، علاقته بإيران وصولاً إلى تصنيف الشيعة في لبنان على أساس من هم شيعة لبنانيون وشيعة إيرانيون، وهذا التصنيف من الحماقة والغباء بحيث لا يجب الحديث عنه، لكنه وَجَد أساساً ضمن مشروع واشنطن و”المعارضة الشيعية”.

وعلى الرغم من إنكار مسؤولين في الحزب، فإن الخلاف بين حلفائه – وتحديداً التيار الوطني الحر وحركة أمل – لعب دوراً في إضعاف موقعه إنتخابياً، بحيث أنه لا يُخفي كل من التيار وحركة أمل فرحتهما بخسارة الآخر لمقاعد هنا أو هناك. وهذا طبعاً ينعكس سلباً على وضع الحزب في صناديق الإقتراع على المستوى الوطني وليس الشيعي. لقد راهن حزب الله على أن سياسة “تركيب الطرابيش” – بين حليفيه اللدودَيْن وتسوية خلافاتهما على قاعدة “إمسحها بدقني” – قد تنجح في رأب الصدع بينهما، لكن ربما كان من الأفضل أن يتخذ موقفاً واضحاً ومباشراً – ولا بل حتى قاسياً – لإنهاء الخلاف على قاعدة إغضاب الإثنين بدلاً من إرضائهما على حسابه الخاص.

أما الآن والإنتخابات أُغلِقَت صفحَتُها ومع الترويج الإعلامي الضخم لكتلة مسيحية بزعامة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وحلفائه من السنّة (ورثة تيار المستقبل)، لا يجب إخفاء الهاجس المتمثل بعودة الحرب الأهلية إلى لبنان، والأسباب واضحة وعديدة.

أبرز هذه الأسباب هو الإنطباع القوي الذي يعطيه جعجع – المتهم من قبل الحزب بعلاقات مع إسرائيل – إلى طرح موضوع إسقاط صفة العدو عن الكيان الإسرائيلي وذهابه إلى طرح موضوع نزع سلاح المقاومة تحت مسميات متعددة أبرزها أن حزب الله “تنظيم إرهابي – إيراني”، وأن العداوة مع الإسرائيلي لم تعد موجودة. وكل ذلك سيترافق مع ضخ إعلامي وترويج من مشاهير وإعلاميين في لبنان وخارجه ورعاية من سفارات عربية وأميركية.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي يمكن لحزب الله وحلفائه فعله في هذه الحالة؟

قد يكون الجواب قاسياً، لكن لا يبدو أن بيد الحزب الكثير من الأوراق لاستخدامها هنا؛ فأية معارضة لمشروع من هذا النوع تتبناه الأغلبية الجديدة (في حال حصولها)، سيوصَفُ بأنه خروج عن الشرعية ووقوف في وجه سلطة منتخبة من الشعب. وسيكمل الطرف الآخر في مشروعه حتى الأخير بنِيَّةٍ واضحة للذهاب إلى مواجهة، وهو المطلب الأميركي والعربي لضرب حزب الله. هنا، يمكن تصوّر ما سيحصل بكل سهولة. بكل تأكيد، لن يقبل حزب الله نزع سلاحه في ظل الأوضاع الحالية، ولن يقبل نزع صفة العدو عن الكيان الإسرائيلي، والذي يعد مطلباً شعبياً واسعاً وليس مقتصراً على حزب الله. عندها، قد لا يكون أمام الحزب إلا اعتبار ما يحصل مواجهة مباشرة مع الإسرائيلي، والتعامل مع القوات وحلفائها على هذا الأساس. ولك أن تتخيل ما الذي يمكن أن يحصل بعد ذلك.

السؤال الآخر الذي يفرض نفسه هنا: هل كان حزب الله مضطراً للذهاب إلى ملعب الأميركي بنفسه؟ الجواب: بالطبع لا.

من وجهة نظر شخصية، ربما كان أفضل أن لا يتم إجراء الإنتخابات وتأجيل التغيير إلى مرحلة تكون فيها الأمور مغايرة، خاصة ما يتعلق بالعاملين الإقليمي والدولي المتحكمين بقوة في مسارات الحياة السياسية اللبنانية، لا سيما وأن التخوف من اهتزاز حلفاء الحزب إنتخابياً كان واضحاً منذ البداية، ومنها الضغط والعقوبات على التيار الوطني الحر، وضعف حلفاء حزب الله في مناطق أخرى مثل الوزير السابق، وئام وهاب، في الجبل.

كان هناك الكثير من الأسباب التي يمكن أن تساعد في تأجيل الإنتخابات، لكن قد يكون حزب الله أخطأ في السماح بإجرائها، مع علمه بان إجراءها قد ينتج أغلبية مناهضة له؛ وبالتالي، الذهاب إلى السيناريو الذي تكلمنا عنه.

ماذا الآن؟

– من المؤكد أن الحزب يحتاج إلى مراجعة معمقة لما حصل وما يمكن أن يحصل وأسبابه وخلفياته، فتراجع المشاركة في التصويت – هذه المرة – يدعو إلى إعادة حساباته من جديد لفهم أسباب الإمتعاض الشعبي على مستوى لبنان.
– لقد بات ضرورياً أن يعمل حزب الله على ترسيخ قاعدة جديدة في تعاطيه مع الشارع، تفتح الباب أمام أي انتقاد لعمله داخلياً، وتهيئة الظروف للتفريق بين معارضة جدية صادقة لأدائه داخلياً وبين معارضة تستهدفه كمقاومة.
– التخلي عن لغة التخوين في وجه كل من ينتقده، مع ضرورة كشف كل من يغرد داخل السرب الإسرائيلي – الأميركي والبعض العربي، ويستهدف الحزب كمقاومة.
– السماح لمشاريع إنمائية – سواء كانت صغيرة أم كبيرة – بالعمل ضمن البيئة الشيعية. إن حرص الحزب، في مناسبات عديدة، على احتكار الإنجاز منع الكثير من المشاريع المفيدة في مناطق جماهيره؛ وبالتالي، يجب أن ينفتح على أية فكرة أو مشروع من خارج مؤسساته وإداراته لأن ذلك سيكون له مردود إيجابي عليه أيضاً.
– تعزيز وتطوير وتقوية المنطومة الإعلامية المرتطبة بالمقاومة، بعيداً عن الصورة النمطية التي لم تعد تفيد كثيراً في مواجهة الإمبراطورية الإعلامية المناهضة للمقاومة.

ختاماً، يبقى توصيف المشكلة نصف الحل. ولتوصيف المشكلة بشكل صحيح، يجب النظر إليها من بعيد والخروج من دائرة تأثيراتها العاطفية. من المؤكد ألا خوف على حزب الله – كمقاومة – لأنه في ظروف أصعب من هذه بكثير كان قوياً، ولكن لا بد من الإعتراف بوجود هفوات وأخطاء يجب تصحيحها.

وبالنسبة للوضع الحالي وربما ولسخرية القدر، بات من الأفضل الحفاظ على الوضع الذي سبق الإنتخابات وعدم توسيع الشرخ والتفرقة الحاصلة في المجتمع اللبناني، بانتظار ما سيعكسه العامل الخارجي على الوضع اللبناني، كل ذلك لا يعيد التاريخ نفسه، حيث الشعوب تتقدم.. ونبقى نحن في مكاننا.

مصدر الصور: Getty- إندبندنت عربية.

حسين الموسوي

باحث زميل – لبنان