إبراهيم شير*

اليوم، ندخل في السنة العاشرة من الحرب المفروضة على سوريا، حرب غيرت مجرى الأمور في المنطقة إن لم يكن في العالم ككل. فقد ساهمت بصعود دول إلى مراتب لم تكن تتوقع أن تصل إليها، وأسقطت مشاريع دول أرادت منها السيطرة على المنطقة وخيراتها من “جاكرتا إلى طنجة”، غير أن صمود الشعب السوري وقيادته ساهم في إحباط هذه المشاريع الهدامة.

في 15 مارس/آذار لعام 2011 اندلعت الشرارة الأولى للحرب على سوريا، ولكن مخطئ تماماً من يظن أنها بدأت منذ ذاك التاريخ، بل على العكس؛ فالأيادي التي حركت الحرب هي نفسها التي عبثت بأمن سوريا منذ الثمانينيات. نفس الممول والمحرض والداعم، ونفس النهج والأسلوب والفكر.

بعد نهاية الثمانينيات، استنتجت الدول العربية أن نهج الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد، هو الصحيح، فقد وقف ضد “رعونة وتهور” نظام الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، في حربه على إيران، كما وقف ضد الإستسلام لكيان الإحتلال الإسرائيلي والإنجرار نحو ما سمي فيما بعد بالـ “سلام”، فهو إستسلام حقيقي لأنه يعطي الأراضي لكيان الاحتلال الإسرائيلي بدون أي مقابل.

على الجهة المقابلة، دعم الرئيس حافظ الأسد حركات المقاومة الفلسطينية بشرط أن لا تحرف عن بوصلتها، أي تحرير الأراضي المحتلة فقط، إضافة إلى دعم حركات المقاومة العربية ضد كيان الإحتلال، لا سيما في لبنان التي خرج منها فيما بعد حزب الله.

في ذلك الوقت، لم تعجب هذه الأمور الأنظمة العربية الأمر الذي دفعها إلى محاربته. ولكن بعد العام 1990 أي بعد الإحتلال العراقي للكويت، ظهر للعلن مصداقية نهج الرئيس حافظ الأسد وفشل أي نهج آخر، ولكن تلك الأنظمة كتمت حقدها على دمشق، وهو حقد “الجمل العربي” الذي لا يقبل أن يهزمه أحد حتى لو كان لمصلحته.

في التسعينيات، وضع تنظيم “القاعدة” الإرهابي، المدعوم من قبل بعض الأنظمة العربية والولايات المتحدة بشكل خاص، وهو ما ثبت مع الأيام أنها خطة لإسقاط دمشق، من خلال “أبو مصعب السوري”. بدأت الخطة في العام 2001 عندما تم جر واشنطن إلى المنطقة، أو إعطاؤها ذريعة لذلك، ومن ثم التحضير لضرب سوريا ليتم إعلانها أرضاً لـ “الجهاد”، بحسب أدبيات التنظيم.

ذلك العام، حضَّرت بعض الدول العربية والغربية بؤراً، في سوريا، شكلت أرضية لـ “غسل” العقول بأفكار دينية متطرفة، هي نفسها التي تمت مواجهتها في الثمانينيات. هذه الأفكار بعيدة كل البعد عن الدين الوسطي، الذي يتبعه السواد الأعظم من الشعب السوري، وهي دخيلة على المجتمع حيث ركزت في الأرياف لأنها وجدت فيها بيئة صالحة للتكاثر إذ تم إغراء الشباب بالمال لإعتناق هذه الأفكار المتطرفة.

بعدها، حمل الجميع فكرة أن الأحداث بدأت “سلمية” بمطالب مشروعة ومن ثم تحولت إلى عسكرية، ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك ويشهد على هذا الأمر شهداء مفرزة الأمن في جسر الشغور، الذين تم قتلهم بعد أقل من أسبوع على انطلاق الأزمة في البلاد؛ بالتالي، هذا الحدث وغيره أسقط ذريعة أن ما جرى كان سلمياً ومن ثم تحول إلى عسكري.

لقد كانت سوريا كـ “الملك” على رقعة الشطرنج حيث كانت الخطة إسقاط مشروع المقاومة في المنطقة واستبداله بنظام يحكمه “الإخوان المسلمون” على غرار الرئيس المصري الراحل، محمد مرسي، الذي كانت أول أوامره بعد تسلمه الحكم إرسال رسالة إلى رئيس كيان الإحتلال، شمعون بيريز، مخاطباً إياه بـ “العزيز بيريز”.

أيضاً وخلال سنوات الحرب الأولى، كانت تركيا، ومن معها، يغيِّرون الزعماء كما يريدون، سواء في تونس أو ليبيا وصولاً إلى مصر، وكل ذلك من أجل إسقاط الرئيس بشار الأسد، الذي يحمل مشروع المقاومة. وبعد الصمود الأسطوري لدمشق أول عامين ووصولاً إلى الثالث، تم الزج بلاعب جديد كان قد تم تحضيره لمثل هذا السيناريو ألا وهو تنظيم “داعش”، الجماعة الإرهابية ذات الصناعة الأميركية بإعتراف الرئيس دونالد ترامب نفسه، ووزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، لكنها وعلى الرغم من إرهابها الكبير، لم تصمد وفشلت وسقطت في كل من سوريا والعراق.

لقد أُريد من الحرب على سوريا تدمير الدولة وفكرتها، إلا أنها بقيت صامدة على الرغم من كل مآسي الحرب؛ أيضاً، كان الهدف إحداث تفرقة طائفية، إلا أن أبناء الشعب السوري الحقيقيين قاموا بوأد الفكرة في مهدها، فالساحل السوري، مثلاً، قام بإستقبال الملايين من كل المحافظات ولم يسجل أي حادث طائفي ما يمكن القول بأن هذه الأمور جميعها ساهمت، بشكل مباشر، في تقوية مناعة المجتمع. لقد أريد من هذه الحرب تدمير نهج الرئيس الراحل حافظ وخلفه، أي الرئيس بشار الأسد، لكن نهجمها صمد لأنه مبني على ركيزة أساسية ألا وهي الشعب السوري.

لقد خلفت الحرب الكثير من الشهداء والجرحى والمفقودين، مدنيين أو عسكريين، وتركت مدناً وقرى وبلدات مهدمة، لكن السؤال هنا: ما البديل عن الحرب؟ هل فكرنا فيه؟ لو إفترضنا بأن الرئيس الأسد قبِل بالشروط الأميركية، التي تم إرسالها مع وزير الخارجية التركي في العام 2011، هل كانت الحرب لتنتهي؟ جاهل من يعتقد هذا، لأن الأموال والمخططات التي وضعت كان من المقرر لها أن تستنزف سوريا. فلو حدث ذلك، لكانت أول غرزة للتوزيع الطائفي زُرعت في مراكز الدولة، كما أرادت تركيا وقتها بأن يكون رئيس الوزراء من الإخوان وكذلك وزيرا الداخلية والتعليم. هذا الأمر لو تم، لأدى إلى شرخ كبير لن يتحمله المجتمع، ما يعني بأن الحرب كانت قادمة لا محالة، ولكانت سوريا، مثل ليبيا الآن، فيها أكثر من طرف يقتتل على السلطة.

إن صمود سوريا، بشعبها وقيادتها، ساهم بتعزيز مكانة أهم حليف لها وهي روسيا. قبل الحرب، لم تكن موسكو بنفس القوة كما هي بعدها، فلقد أعادت دمشق لها الثقة فيما يخص الدول التي تريد التحالف معها. لذلك، نجد ان العديد من الدول وطدت علاقاتها معها، كمصر والسعودية والإمارات وماليزيا.

في الختام، جاءت نتائج الحرب على عكس ما كان مخطط له، حيث رُصت الصفوف وتم وأد الطائفية إلى الأبد، وفرزت المسؤولين بين وطني وعميل، ورفعت سقف الحرية بحيث بات من الممكن لأي فرد توجيه الإنتقادات للمسؤولين، بمن فيهم الوزراء ونواب البرلمان وحتى رئيسي الوزراء والبرلمان إذ باتوا جميعاً تحت سقف القانون والدستور. لقد إنتصر نهج الرئيس حافظ الأسد، في النهاية، على المشاريع الخارجية التي حيكت، فهم لم يفهموا حتى الآن عقلية الدولة والمواطن السوري. بدأت الحرب بكذبة “أطفال درعا” وإنتهت بحقيقة “عُصي” دمشق على الغزاة.

*كاتب واعلامي سوري

مصدر الصور: ميدل إيست أونلاين – موقع عنب بلدي.

موضوع ذو صلة: الحرب السورية.. عرَّت الجميع