في عالم يزداد استقطاباً لجهة ما دون أخرى، أصبح الحياد السياسي بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى، كما توضح مقالة كاترين أمان “إلى أي مدى تُعتبر سويسرا حيادية، فعلياً؟” وتتساءل كاتبة المقال كيف يمكن لسويسرا أن تحافظ على علاقات جيدة مع شركاء تجاريين وهم في حالة صراع مع بعضهم البعض، مثل الولايات المتحدة والصين. أو كيف يمكن أن تظل حليفاً وثيقاً للإتحاد الأوروبي إذا لم تؤيّد بشكل لا لُبس فيه مواقفه بشأن المسائل الرئيسية المطروحة على الصعيد العالمي، مثل تلك المتعلّقة بالعقوبات ضد روسيا أو مطالبته بالتحقيق في قضية إغتيال جمال خاشقجي؟

يُواجه الحياد السياسي لسويسرا تحديات حقيقية وعملية بشكل متزايد. ومن المؤكد أن تحديات الحياد السياسي تتجاوز السياسة الواقعية لتطال المجال الأخلاقي. وإذا تابعنا الإشارة إلى الأمثلة المذكورة أعلاه، يمكن القول: إذا تذرعت سويسرا بحيادها لتبرير ترددها في فرض عقوبات على روسيا أو في رفض انضوائها كدول أخرى، تحت إعلان يدعو إلى إجراء تحقيق شامل في اغتيال صحفي في قنصلية ما، فإن هذا الأمر يثير أسئلة أخلاقية مهمة. وفي مثل هذه الحالات، ألا يكون مفهوم “الحياد” بمثابة تسمية خاطئة، ويكون من الأدق الحديث عن عدم تدخل سويسرا أو تنصّلها من أية التزامات تجاه القضايا العالمية؟

قد ترى سويسرا أنه من الأفضل لها عدم الانحياز إلى طرف ما في مثل هذه الأمور لكن تصرفاتها بالتأكيد غير منوطة بأي مصالح. إن مفهوم الحياد يحمل في طياته التفوق الأخلاقي على الذات أولاً، بينما تُولي سويسرا في المقام الأول أهمية لأجندة مصالحها الخاصة.

لا شك أن سويسرا تشارك بنشاط في بناء السلام الدولي وأن سمعتها كدولة مُحايدة تعزز بشكل كبير هذه الجهود. ومع ذلك، فحياد سويسرا، من الناحية التاريخية، يرتبط في المقام الأول باستراتيجيتها الدفاعية ومصالحها الاقتصادية. أضف إلى ذلك، أن الحياد السياسي كان في الأساس وسيلة لتحقيق غاية، وأصبح مع مرور الوقت، أسطورة سويسرية يتفانى جزء كبير من السكان في الدفاع عنها بشدة. ولعل الرفض الشعبي الواضح للانضمام إلى الأمم المتحدة، العام 1986، لهو خير دليل على هذا الأمر. كما أن الاستطلاع الأخير الذي استشهدت به الكاتبة أمان، والذي أظهر أن 95% من السكان “يؤيدون الحفاظ على الحياد”، يشير بكل وضوح إلى أن التفاني في الدفاع عن هذا المفهوم ما يزال راسخاً لدى المواطنين.

في حالات مثل روسيا أو خاشقجي، فإن تبني الحياد السياسي يواجه خطر التحول إلى ذريعة تحكمها الانتهازية بل وحتى إلى شكل من أشكال التواطؤ المرتبط ارتباطاً وثيقاً بما وصفته الفيلسوفة الألمانية الأمريكية حنا أرندت بـ “تفاهة الشر”.

طوّرت أرندت فكرة “تفاهة الشر” عندما حضرت محاكمة أحد زعماء النازية، الألماني أدولف أيخمان في القدس العام 1961. كان أيخمان مسؤولاً عن تنظيم نقل ملايين اليهود إلى معسكرات الاعتقال. ومع ذلك، وأثناء المحاكمة، فوجئتْ أرندت بأن صورة أيخمان لم تكن لتتوافق مع أية صورة من الصور النمطية الشريرة. ومن وجهة نظر أرندت، كان من الواضح أن أيخمان لم يكن وحشاً سادياً استمتع بارتكاب الشر من أجل الشر، وبدت ملامح شخصيته مغايرة تماماً حيث بدا عادياً بشكل مثير للقلق. صحيح أنه ساهم بتسهيل نقل ملايين اليهود إلى مصيرهم الحتمي بالوفاة، لكنه قام بمقاربة هذه المهمة الرهيبة والمروّعة كمشكلة عملية تواجهه في مجال اختصاصه. وعلى عكس الآخرين، لم يكن مدفوعاً بكراهية متعصبة لليهود؛ لأنه قام بتنفيذ الأوامر التي أملتها السياسات آنذاك وذلك سعياً منه للنجاح في حياته المهنية في المقام الأوّل؛ ولذلك، خلصت أرندت إلى أن أيخمان كان شريراً بمعنى “مُبتذل” وليس بمعنى “راديكالي”.

وتشدد أرندت على أن أيخمان لم يكن غبياً؛ فهو كان يتصرف بذكاء شديد فيما يتعلق بالسعي وراء النجاح في حياته المهنية. ولكن هذه الفيلسوفة تعتبر أن أيخمان كان يُعاني من عدم القدرة على التفكير المرتبط بعدم القدرة على الحكم على الأمور.

وإذا كان تقييم أرندت لأيخمان مثيراً للجدل وكانت مسألة تجسيد أيخمان لـ “تفاهة الشر” تُعتبر من المسائل الخاضعة للنقاش؛ إلا أنه يبقى من المفيد، في كل الأحوال، العودة إلى فكرة أرندت ليس فقط لجهة وجود عدم قدرة على التفكير ولكن أيضاً لجهة عدم الرغبة في الحكم على الأمور.

أصبحت فكرة “تفاهة الشر” شديدة التأثير لأنها تأخذ في الاعتبار أنه من الممكن ارتكاب أفعال شريرة دون نوايا شريرة. إن “تفاهة الشر” قادرة على تفسير كيف يُمكن أن يحدث الهولوكوست بدون حتمية وجود مجموعة من الوحوش الشريرة. كان يكفي أن يكون هناك بعض القادة الفاسدين وجمهور من الناس الذين “يتدبرون أعمالهم الخاصة”.

فيما يلي سؤال مهم ليس له إجابة نهائية ومباشرة، ويتوجّب طرحه مع الأخذ بعين الاعتبار كل حالة على حدة: إلى أي مدى يمكن اعتبار عدم القدرة أو عدم الرغبة في الحكم المرتبطة بمفهوم “تفاهة الشر”، مختلفة عن تعليق الحكم ضمناً عندما تعلن سويسرا الحياد؟

من المؤكد أن سويسرا ليست أيخمان في أوروبا، والادعاء بذلك سيكون بمثابة ادعاء غير مسؤول. ولكن، ومن خلال الإصرار على حيادها، تواصل سويسرا وبشكل متزايد، ممارسة عملية توازن غير مستقرة.

إن الارتباط المفرط بمثل الحياد من شأنه أن يُسهم بسهولة في حجب حقيقة أن الحياد السياسي ليس قيمة أو موقفاً مطلقاً. أولاً، إن الحياد نسبي وهو محافظ بطبيعته، إذ نادراً ما يُعتبر اتخاذ إجراءات ما أو إحداث تغيير ما، بمثابة موقف محايد.

ثانياً، إن الحياد ليس قضية أن تكون حيادياً في كل الأمور أو لا تكون، بل من الممكن اتخاذ موقع محايد في بعض الأمور دون غيرها. ومن وجهة نظر أخلاقية، هناك بالتأكيد فرق كبير بين التزام الحياد فيما يتعلق بنزاع تجاري ما، من ناحية، والرد على الضم الوقح للأرض أو اغتيال صحفي في القنصلية، من ناحية أخرى.

في عالم سياسي يزداد استقطاباً، قد لا يُصبح الحياد بعيد المنال فحسب، بل قد يصبح أيضاً غير مقبول بشكل مُطرد. وبالنظر إلى التطورات العالمية الأخيرة مثل صعود نجم القادة القوميين المتطرفين، في بلدان مثل الهند والبرازيل وحتى وقت قريب الولايات المتحدة، ومثل الإبادة الجماعية، في الصين وميانمار، أو التخريب المتزايد للهياكل والقيم الديمقراطية حتى في بعض البلدان الأوروبية، يبدو من المؤكد أن على سويسرا أن تنتبه أكثر إلى الحدود الخطيرة الفاصلة بين الحياد وتفاهة الشر.

ملاحظة:

أثناء كتابتي لهذا المقال، جاء صندوق النقد الدولي لاتفاق الترحيل المنتهي الصلاحية بين سويسرا والصين ليوضح، وبشكل لافت للنظر، السهولة المقلقة التي يمكن أن يتطور بها حياد سويسرا إلى شكل من أشكال التواطئ. نشرت أسبوعية “نويه تسورخر تسايتونغ أم زونتاغ” NZZ am Sonntag القصة في 22 أغسطس/آب 2020 وانتقدت صحيفة “الغارديان” صفقة الترحيل في مقالات نُشرت في 9 و 12 ديسمبر/كانون الأول 2020. كما أظهر تقرير نشرته مجموعة حقوق الإنسان Safeguard Defenders في 9 ديسمبر/كانون الأول 2020 بشكل لا لبس فيه، أن هذا الاتفاق بين سويسرا والصين يثير العديد من الأسئلة الجدية. وهي أسئلة لم تتم الإجابة على الكثير منها حتى الآن.

المصدر: إذاعة سويسرا الدولية.

مصدر الصور: إذاعة سويسرا الدولية – ىرابيان بزينس.

موضوع ذا صلة: هل تحتاج سويسرا حقاً إلى مبادرة لحظر إرتداء النقاب؟

د. سايمون تروب

باحث مستقل في الفلسفة القارية والأدب الإنجليزي. حصل على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة إدنبرة وحصل على زمالة ما بعد الدكتوراه في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة فريبورغ – ألمانيا.