مالك حافظ

رغم محاولات الأطراف الكردية في سوريا استئناف حوارها، الذي جرت آخر جولاته في أغسطس/آب 2020، إلا أن ذلك لا يزال يصطدم بتباين أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة، إذ تعد واشنطن الراعي الرئيس للحوار بين كل من أحزاب الوحدة الوطنية التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي، من جهة، والمجلس الوطني الكردي، من جهة أخرى.

وكان مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية – قسد، قد أطلق، أواخر العام 2019، مبادرة بدء هذا الحوار بهدف توحيد الخطاب السياسي للأحزاب الكردية في سوريا، بدعم أمريكي وفرنسي. وتعتبر قوات “قسد” (التي تُشكّل وحدات حماية الشعب الكردي عمودها الفقري) الذراع العسكري لـ “الإدارة الذاتية” في مناطق شمال شرق سوريا، والتي يقابلها سياسياً مجلس سوريا الديمقراطية – “مسد” (يسيطر عليه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي)، وتُشكّل هذه القوى مجتمعة، والتي يمثلها الحزب الأخير، الطرف الرئيس في عملية الحوار الكردي – الكردي بموازاة الطرف الثاني المقابل وهو المجلس الوطني الكردي، الذي تدعمه تركيا.

تحديات الحوار

انطلق الحوار الكردي – الكردي، أبريل/نيسان 2020، ودخل كل من المجلس الوطني الكردي في سوريا و”مسد” في مفاوضات حول شكل ونسبة الحكم المحلي في المنطقة، إضافة إلى شكل الوجود العسكري لكلا الجهتين، ومسائل إدارية واقتصادية أخرى، وقد توصل الطرفان إلى رؤية سياسة مشتركة، أُقرّت في منتصف يونيو/حزيران، إلا أن عدم وجود جديّة ورغبة حقيقية في الحوار لدى المجلس الوطني الكردي دفعته، يوليو/تموز 2020، للانضمام إلى “جبهة السلام والحرية” التي تضم عدد من مكونات المنطقة، المدعومة تركياً. ويبدو أن هذا الدعم جاء لقطع الطريق على أية محاولة من قبل “الإدارة الذاتية” وأذرعها السياسية والعسكرية لترتيب البيت الداخلي الكردي، وتعزيز عوامل الاستقرار في المنطقة، والشروع في حوار عربي – كردي، وهو الذي أبدت “مسد” استعدادها لإطلاقه بعد إنجاح الحوار الكردي – الكردي.

ويبرز انضمام المجلس الوطني الكردي لتشكيل سياسي مناوئ للطرف المقابل في الحوار، كعامل معطل لأي تقدم في المفاوضات رغم تدخل واشنطن لتحريك عجلته ودفعه خطوات إلى الأمام، حيث أعلن الطرفان، سبتمبر/أيلول 2020، عن التوصل إلى اتفاق لتشكيل “المرجعية الكردية العليا”، على أساس اتفاقية “دهوك 2014″، وهي المرجعية التي قيل بأنها ستكون بمثابة مظلة تفاوضية تجمع الأطراف المتحاورة، إلا أن المفاوضات توقفت لانشغال الراعي الأمريكي بالانتخابات الرئاسية. وبعد وصول الرئيس جو بايدن للبيت الأبيض، وتعيين ممثلين جدداً لإدارته إلى شمال وشرق سوريا، حاول الممثلون الجدد الذين وصلوا مؤخراً إلى الحسكة، الدفع باتجاه التوصل لموعد جديد لاستئناف الحوار، لكن حالت بعض النقاط الخلافية دون ذلك.

ويبدو أن حضور الجانب التركي يُعرقل استكمال الحوار، خاصة وأن “قسد” تريد تمثيل ذراعها السياسي “مسد” بعد إنجاز الحوار والاتفاق على تفاصيله، في العملية السياسية بسوريا بكافة مفاصلها، وهو أمر لا تريده أنقرة. بالإضافة إلى أن حصول اتفاق بين الأطراف الكردية سينتج عنه توافق يقضي بنشر قوات عسكرية تتبع للمجلس الوطني الكردي تسمى “بيشمركة روج” (توجد حالياً في كردستان العراق) على نقاط التماس مع مناطق النفوذ التركي في الشمال السوري، وهو ما سيمنع أية إمكانية لعمليات عسكرية تركية جديدة داخل مناطق سيطرة “قسد”، على غرار عملية “نبع السلام” أكتوبر/تشرين الأول 2019؛ لذا، فإن تركيا لن تستعجل نجاح حوار كردي – كردي ترعاه الولايات المتحدة ويقع خارج الشروط التركية، خصوصاً وأن العلاقات الأمريكية – التركية، في عهد الرئيس بايدن، قد لا تكون في أحسن أحوالها، في ظل دعم أمريكي أكبر متوقّع لكرد سوريا، وتوتر تشوبه الضبابية في شكل العلاقة بين واشنطن وأنقرة بفعل التقارب الروسي – التركي، خلال فترة حكم الرئيس السابق دونالد ترامب. هذا من جانب.

في جانب آخر، هناك مساعي روسية لاستكمال جولات التفاوض والحوار بين “قسد” وحكومة دمشق المتوقفة منذ فترة طويلة، والتي لم تصل إلى أية نتائج تذكر، في محاولة من موسكو لسحب “قسد” من الوصاية الأمريكية، مع أن أمراً كهذا قد لا يتحقق عملياً في نهاية المطاف، غير أن هذه المساعي الروسية ربما تُسهِم في تضييق مساحة الحركة أمام الكرد؛ بالتالي، قد تقود إلى تعطيل إنتاجية الحوار، فضلاً عن أن المجلس الوطني الكردي، المقرب من أنقرة، لن يتجه إلى تعميق الحوار مع “قسد” في ظل فتْح الأخيرة قناة تفاوض جديدة بوساطة روسية.

وإلى جانب ما سبق، يعد استمرار معضلة تنظيم “داعش” وخلاياه النائمة، وتعقيدات ملف معتقليه وعوائلهم، بمثابة تحد أمني يؤرق “قسد”، إذ يؤثر ملف التحدي الأمني ومدى القدرة على إنهائه في إمكانية البناء على جلسات الحوار، لا سيما أن قوى محلية عربية/عشائرية ما انفكت تعزو أسباب الفلتان الأمني وعدم تثبيت حالة الاستقرار، إلى شكل إدارة المنطقة من قبل “الإدارة الذاتية”، وهو أمر يتفق فيه المجلس الوطني الكردي مع القوى العشائر المحلية.

أيضاً، من المحتمل أن تسعى كل من طهران وحليفتها دمشق إلى تبديد أية فرصة للتقارب الأهلي في المنطقة، من خلال تأجيج الفتن وزيادة الاضطرابات الأمنية فيها، لأن التقارب سيكون من شأنه توحيد الجهود الكردية والعربية على حد سواء لمواجهة النفوذ الإيراني في تلك المناطق هذا من ناحية، ويعد من ناحية أخرى خطوة كبيرة على طريق تغيير شكل الحكم المحلي في البلاد انطلاقاً من مناطق شرقي سوريا وبرعاية أمريكية وغربية، مقابل خسارة دمشق لنفوذها هناك، وكذلك فقدان المكاسب الاقتصادية إلى جانب الخسائر السياسية والإدارية الأخرى.

إمكانات التوافق وانعكاساته السياسية والميدانية

إن تطوير آليات الحوار الكردي ونقله إلى حيز أكثر أهمية، يبدو مرهوناً بتوجهات الولايات المتحدة بشكل رئيس؛ ومن المتوقع أن تولي إدارة بايدن اهتماماً أكبر بالقوات الكردية وجهازها الإداري (الإدارة الذاتية)؛ فهي من ناحية تطمح لإنهاء أي أثر لتنظيم “داعش” الإرهابي، ومن ناحية أخرى تسعى لتمكين القوى المحلية الحليفة اقتصادياً وسياسياً، ما يعني أن أنقرة قد تصطدم بواشنطن إذا ما بقيت مصرة على عدم التقارب مع “قسد” و”الإدارة الذاتية”، ولعل أولى الخطوات التي يمكن تقوم بها تركيا لإبداء حُسن نواياها تجاه الحوار الكردي، تتمثل في دعوة المعارضة السياسية المدعومة من قبلها (الائتلاف السوري المعارض)، للحوار مع “مسد” وعدم وضع قيود على جلسات الحوار المقبلة بين الأخير والمجلس الوطني الكردي، خاصة وأن الأخير يضع عدة شروط لإكمال الحوار خلال الفترة الحالية، أهمها أن تكون هناك شراكة حقيقية في جميع الجوانب السياسية والإدارية والعسكرية، وعد تجزئة أي جانب منها عن الآخر.

كما يُطالب المجلس الوطني الكردي، بوقف التصريحات الإعلامية التي وصفها بـ “الاستفزازية” من قبل قياديين في الطرف المقابل من الحوار، ووقف الممارسات التي تسيء للحوار من اعتقالات وحرق مكاتب المجلس والأحزاب المنضوية تحته، ووقف التجنيد الإجباري من قبل “الإدارة الذاتية”.

إذاً، البحث في تجاوز المعوقات وتقييم إمكانات التوافق يتعلق بمستويات متعددة، أهمها السياسي، وضمان عدم تأليب تركيا لبعض العشائر العربية، التي تدعمها هناك والأطراف المجتمعية والسياسية، ومنع حصول أي اقتتال أهلي للتشويش على الحوار، وكذلك دفع الأطراف السياسية التي تدعمها للتقارب مع الإدارة الذاتية والتأكد من عدم حصول أي تصعيد عسكري وسياسي في المنطقة، وهذا أمر يُمكِن أن تدفع تركيا باتجاهه إذا ما أرادت ضمان استقرار المنطقة، وعدم تأثر مناطق نفوذها الحالية في الشمال السوري، أو تأثرها بأي تصعيد محتمل ينتج عن تعطيل الحوار الكردي.

وفي شق مواز، فإن من شأن إتمام الحوار الكردي – الكردي رسم خارطة جديدة للنفوذ في مناطق شمال شرق سوريا؛ فهو من ناحية يُسهِم من الناحية السياسية في إشراك المكون الكردي وباقي مكونات المنطقة بشكل حقيقي وفاعل. وميدانياً، سيؤدي الحوار والاتفاق المحتمل بين الأطراف إلى نشر قوات عسكرية “حيادية” بالنسبة لتركيا، وتتبع للمجلس الوطني الكردي، ما يُجنب المنطقة أي توتر عسكري محتمل، سواء ضد قوات “قسد” أو ضد مناطق النفوذ التركي والمعارضة العسكرية المدعومة من قبل أنقرة في الشمال السوري.

كذلك، فإن التقارب الكردي – الكردي فيما لو حصل، وما سيتبعه من انفتاح كردي – عربي محتمل في المنطقة، سيؤديانِ إلى توحيد الجهود العشائرية/المحلية لمواجهة خطر تنظيم “داعش”، والالتفات للحضور الإيراني المتنامي الذي جعل المنطقة إحدى أسس مشروعه الاستراتيجي في سوريا.

خلاصة واستنتاجات

تبقى احتمالات نجاح الحوار الكردي – الكردي في سوريا مرتبطة بديناميات العلاقات الأمريكية – التركية وتأثيرها على الملف السوري، ولا يبدو أن أنقرة خلال الفترة الحالية في وارد دعم هذا الحوار؛ فهي على العكس من ذلك تُريد أن يكون الحوار ورقة بيدها للمفاوضة عليها مع الجانب الأمريكي مستقبلاً.

والمتوقع أن يكون للحوار الكردي تأثيراً أوسع من نطاق منطقة شمال شرق سوريا، بحيث سيمتد إلى مفاصل العملية السياسية بعد المشاركة الكردية الواسعة فيها، فضلاً عن إمكانية التقارب بين “الإدارة الذاتية” الكردية والمعارضة السياسية السورية، ما يُسهِم في دعم فرص الحل السياسي في سوريا، كما سُيسهل حصول تفاهمات مشتركة بين القوى المتدخلة في الشأن السوري الداعمة لأطراف الحوار والأطراف المتأثرة بمخرجاته.

المصدر: مركز الإمارات للدراسات.

مصدر الصور: وكالة أنباء هاوار – الميادين

موضوع ذا صلة: أي دبلوماسية أمريكية للكرد في سوريا؟