في كتابي الخديعة الرهيبة – L’Effroyable imposture، كتبت، مارس/آذار 2002، أن هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 كانت تهدف إلى جعل الشعب الأمريكي يتقبل فكرتين :
– في الداخل، نظام مراقبة جماعي (قانون باتريوت Patriot Act)؛
– وفي الخارج، إستئناف السياسة الإمبريالية، والتي لم نكن نملك وثائق حولها في ذلك الحين.
ولم تتضح الأمور إلا في العام 2005، عندما نشر الكولونيل رالف بيترز، الذي كان وقتها معلقاً في قناة فوكس نيوز، الخريطة الشهيرة لمجلس رؤساء الأركان حول “إعادة تشكيل” منطقة “الشرق الأوسط الكبير”.(1) كان ذلك بمثابة صدمة في جميع السفارات؛ البنتاغون يخطط لإعادة رسم الحدود الموروثة من الاستعمار الفرنسي – البريطاني (اتفاقيات سايكس – بيكو وسازونوف لعام 1916) دون اعتبار لأية دولة، حتى لو كانت حليفة.
ومنذ ذلك الحين، بذلت كل دولة في المنطقة، كل ما في وسعها لمنع العاصفة من أن تنهال على شعبها. وبدلاً من الاتحاد مع دول الجوار في مواجهة عدو مشترك، حاول كل منهما دفع يد البنتاغون نحو جيرانه. الحالة الأكثر دلالة على ذلك، هي حالة تركيا التي نقلت البندقية من كتف إلى آخر مرات عديدة، مما أعطى انطباعاً مشوشاً عنها وكأنها كلب مجنون.
ومع ذلك، فإن الخريطة التي كشف عنها الكولونيل بيترز – الذي كان يكره وزير الدفاع دونالد رامسفيلد – لم تكن تسمح بفهم المشروع بمجمله.
كان خلال هجمات 11 سبتمبر/أيلول قد نشر مقالًا في مجلة “باراميترز”(2) – التي تصدرها القوات الأرضية التابعة للجيش الأمريكي – وكان يُلمح إلى الخريطة التي لم ينشرها إلا بعد 4 أعوام، ويشير إلى أن لجنة رؤساء الأركان تستعد لتنفيذها من خلال جرائم فظيعة يتعين عليها توكيل المهمة لأطراف أخرى حتى لا تتلطخ أيديهم. كنا نظن حينها أنه كان يشير إلى جيوش خاصة، لكن التاريخ أظهر أنه لا يمكن لهذه الجيوش المشاركة في جرائم ضد الإنسانية.
كانت كلمة سر المشروع داخل مكتب تحويل القوة – Office of Force Transformation، الذي أنشأه دونالد رامسفيلد في البنتاغون في الأيام التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/أيلول، وكان يشغله الأدميرال آرثر سيبروسكي. كان هذا الاستراتيجي الشهير مصمم على أتمتة الجيوش.(3) يمكن للمرء أن يعتقد أن هذا المكتب كان وسيلة لإنهاء عمله، لكن لم يعترض أحد على إعادة التنظيم هذه. لا، لقد كان هناك بهدف تغيير مهمة الجيش الأمريكي كما يتضح من التسجيلات القليلة لمحاضراته في الأكاديميات العسكرية.
قضى آرثر سيبروسكي 3 أعوام في تدريس جميع كبار الضباط الأمريكيين، أي جميع كبار الضباط الحاليين. ما كان يُدرسه كان بسيطاً للغاية. كان الاقتصاد العالمي يتجه نحو العولمة. ولكي تظل الولايات المتحدة القوة الرائدة في العالم، كان عليها أن تتكيف مع الرأسمالية المالية. وأفضل طريقة هي طمأنة البلدان المتقدمة إلى أنها تستطيع استغلال الموارد الطبيعية للبلدان الفقيرة دون مواجهة عقبات سياسية.
وتأسيساً على ذلك، قسّم العالم إلى قسمين؛ الاقتصادات المعولمة من جهة (بما في ذلك روسيا والصين) المقرر لها أن تكون أسواقاً مستقرة؛ ومن جهة أخرى، جميع الاقتصادات الأخرى التي كان من المقرر حرمانها من هياكل الدولة، كي يتسنى للشركات العابرة للأوطان من استغلال ثروات تلك البلدان من دون مقاومة. ولتحقيق ذلك، كان من الضروري تقسيم الشعوب غير المعولمة وفقاً لمعايير عرقية، والأمساك بها إيديولوجياً.
كانت المنطقة الأولى المعنية، هي المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة من المغرب إلى باكستان، باستثناء إسرائيل ودولتين صغيرتين جارتين لها، لمنع انتشار الحريق، وهما الأردن ولبنان. هذا ما أطلقت عليه وزارة الخارجية إسم “الشرق الأوسط الموسع”. ولم يتم تحديد هذه المنطقة على أساس احتياطيات النفط، بل على أساس العوامل الثقافية المشتركة لسكانها.
الحرب التي تصورها الأدميرال سيبروسكي ستغطي في مرحلتها الأولى هذه المنطقة بأكملها. ولا ينبغي لها أن تأخذ في الاعتبار انقسامات الحرب الباردة، لأن الولايات المتحدة لم يكن لها في تلك المنطقة أصدقاء أو أعداء. لم يتم تحديد الأعداء من خلال إيديولوجياتهم (الشيوعيون)، أو معتقداتهم الدينية (“صراع الحضارات”)، ولكن فقط من خلال عدم اندماج تلك البلدان في الاقتصاد العالمي للرأسمالية المالية؛ وبالتالي، لم يكن هناك ما يمكن أن يحمي أولئك الذين كانوا، لسوء حظهم، غير تابعين، وأن يكونوا مستقلين.
كان مقرراً لهذه الحرب ألا تسمح للولايات المتحدة الأمريكية، مثل حروبها السابقة، باستغلال الموارد الطبيعية لوحدها، بل على جميع الدول المعولمة أن تفعل الشيء نفسه. علاوة على ذلك، لم تعد الولايات المتحدة مهتمة حقاً بالاستفراد بالمواد الخام، وصارت تهدف بشكل خاص إلى تقسيم العمل على نطاق عالمي، وجعل الآخرين يعملون لصالحهم.
كانت تتطلب كل هذه الأمور إجراء تغييرات تكتيكية في الطريقة التي تُشن بها الحرب، لأن المطلوب لم يعد تحقيق انتصارات، بل شن “حروب لا نهاية لها”، على حد تعبير الرئيس جورج دبليو بوش. في الواقع، كل الحروب التي بدأت منذ 11 سبتمبر/أيلول لا تزال مستمرة على 5 جبهات مختلفة: أفغانستان، والعراق، وليبيا، وسوريا، واليمن. لا يهم الصفة التي تضفيها حكومات حليفة على هذه الحروب طبقاً لما تقوله الولايات المتحدة: فهي ليست حروباً أهلية، ولكنها تطبيق مراحل خطة وضعها البنتاغون مسبقاً.
هزت “عقيدة سيبروسكي” جيوش الولايات المتحدة. كتب مساعده، توماس بارنيت، مقالًا لمجلة “إسكواير”(4)، ثم نشر كتاباً لتقديمها بمزيد من التفصيل لعامة الناس: الخريطة الجديدة للبنتاغون.(5)
حقيقة أنه في كتابه، الذي نُشر بعد وفاة الأدميرال سيبروسكي، يدعي بارنيت أن أبوته لعقيدة سيبروسكي يجب أن لا يغفل عنها أحد. هذه مجرد طريقة للبنتاغون كي لا يتعامل معها. وقد حدثت نفس الظاهرة، على سبيل المثال، مع كتاب “صراع الحضارات”. كان الكتاب في الأصل “عقيدة لويس”، وهي ذريعة اتصال ابتكرها مجلس الأمن القومي لبيع حروب جديدة للرأي العام، حيث تم عرضها على عامة الناس من قبل مساعد برنارد لويس، صامويل هنتنغتون، الذي قدمها على أنها وصف أكاديمي لواقع لا مفر منه.
واجه تطبيق عقيدة رامسفيلد – سيبروسكي الكثير من الأشياء غير المتوقعة. بعضها جاء من البنتاغون نفسه، والبعض الآخر جاء من الشعوب التي تم سحقها. وهكذا كانت استقالة قائد القيادة المركزية، الأدميرال وليام فالون، بشكل مدبر لأنه تفاوض بمبادرة شخصية منه على سلام منطقي مع إيران التي كان يقودها الرئيس محمود أحمدي نجاد. لا، بل كانت بتحريض من بارنيت نفسه، الذي نشر مقالاً يتهم فالون باستخدام لغة مسيئة ضد الرئيس بوش، أو أن الفشل في خربطة الأوضاع في سوريا مرده إلى مقاومة شعبها، ودخول الجيش الروسي الحرب. بعد ذلك، جاء البنتاغون ليحرق المحاصيل الزراعية، وينظم حصاراً على البلاد لتجويعها، وهي أعمال انتقامية تشهد على عجزه على تدمير بنية الدولة في سوريا.
خلال حملته الانتخابية، شن دونالد ترامب حملة ضد “الحروب التي لا نهاية لها” وعودة الجنود الأمريكيين إلى وطنهم. وتمكن من عدم فتح جبهات جديدة، وإعادة عدد قليل من الرجال إلى أوطانهم، لكنه فشل في ترويض البنتاغون. لقد طوّر هذا الأخير قواته الخاصة من دون “توقيع”، ونجح في تدمير الدولة اللبنانية من دون أن يلجأ بشكل ظاهر للجنود. هذه هي الاستراتيجية التي يطبقها الآن في إسرائيل نفسها، حيث ينظم مذابح ضد العرب، وأخرى ضد اليهود لصالح الصدام بين حركة حماس وإسرائيل.
قام البنتاغون بعدة محاولات لتوسيع عقيدة رامسفيلد – سيبروسكي لتشمل حوض الكاريبي. وخطط للإطاحة، ليس فقط بنظام نيكولاس مادورو، بل للإطاحة بجمهورية فنزويلا البوليفارية؛ وفي النهاية، أجل مشروعه.
تجدر الإشارة إلى أن البنتاغون أصبح قوة مستقلة، ولديه ميزانية ضخمة تبلغ 740 مليار دولار، أي ما يقرب من ضعف الميزانية السنوية للدولة الفرنسية بأكملها. وفي الممارسة العملية، تمتد سلطته إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث إنه يسيطر على جميع الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي – الناتو. أيضاً من المفترض به، أن يقدم تقريراً إلى رئيس الولايات المتحدة، لكن التجربة مع الرئيسين باراك أوباما، ودونالد ترامب تظهر لنا عكس ذلك تماماً.
فالرئيس الأول فشل في فرض سياسته على الجنرال جون ألين فيما يخص مواجهة “داعش”، والرئيس الثاني “ضحكت” عليه القيادة المركزية – Central Command. ولا يوجد ما يشير إلى أن الأمر سيكون مختلفاً مع الرئيس جو بايدن. تظهر الرسالة المفتوحة الأخيرة التي حررها ضباط أمريكيون سابقون(6) أنه ما من أحد يعرف بعد الآن، من يقود فعلاً الجيوش الأمريكية. ومهما كان تحليلهم السياسي للحرب الباردة، إلا أن هذا لا ينفي استنتاجهم التالي: الإدارة الفيدرالية، وجنرالات البنتاغون لم يعودوا متناغمين على موجة واحدة.
أظهر عمل لويليام أركين، نشرته صحيفة “واشنطن بوست”، أن الدولة الفيدرالية نظمت، بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، سلسلة من الوكالات الغامضة التي تشرف عليها وزارة الأمن الداخلي.(7) تقوم هذه الوكالات، وفي أقصى درجات السرية، باعتراض وأرشفة الاتصالات لكل شخص يعيش في الولايات المتحدة. وكشفت أعمال آركين – Arkin مؤخراً في مجلة “نيوز ويك” أن وزارة الدفاع، من جانبها، أنشأت قوات خاصة سرية منفصلة عن تلك التي يرتدي عناصرها الزي العسكري.(8) هذه القوات هي المناط بها الآن تطبيق عقيدة رامسفيلد – سيبروسكي، بغض النظر عن الشخص الذي يسكن البيت الأبيض وسياسته الخارجية.
عندما هاجم البنتاغون أفغانستان والعراق عامي 2001 و2003 على التوالي، استدعى جيوشه التقليدية – لم يكن هناك آخرون – وجيش حليفه البريطاني. بيد أنه في مرحلة “الحرب التي لا نهاية لها” في العراق، قام بإنشاء قوات جهادية عراقية، من السنّة والشيعة لإغراق البلاد في حرب أهلية.(9) إحدى تلك المجموعات المنحدرة من تنظيم “القاعدة”، استخدمت في ليبيا العام 2011، وأخرى في العراق العام 2014 تحت اسم “داعش”. وتدريجياً حلت هذه المجموعات محل الجيوش الأمريكية لتنفيذ المهمات القذرة التي وصفها الكولونيل رالف بيترز، العام 2001.
وفي الوقت الحالي، لم ير أحد جنوداً أمريكيين يرتدون الزي العسكري في كل من اليمن، أو لبنان، أو إسرائيل، لأن البنتاغون كان قد أعلن عن انسحابهم. لكن هناك 60 ألف عنصر من القوات الخاصة السرية الأمريكية، أي بدون زي رسمي، مهمتها نشر الفوضى، من خلال الحرب الأهلية، في تلك البلدان.
المراجع:
(1) أنظر:
“Blood borders. How a better Middle East would look”, Ralph Peters, Armed Forces Journal, June 1, 2006.
(2) أنظر:
“Stability. America’s ennemy”, Ralph Peters, Parameters, #31-4, Winter 2001.
(3) أنظر:
Transforming Military Force. The Legacy of Arthur Cebrowski and Network Centric Warfare, James R. Blaker, Praeger Security International (2007).
(4) أنظر:
“Why the Pentagon Changes Its Maps. And why we’ll keep going to war”, Thomas Barnett, Esquire Magazine, March 2003.
(5) أنظر:
The Pentagon’s New Map: War and Peace in the Twenty-first Century, Thomas P. M. Barnett, Paw Prints (2004).
(6) أنظر:
“Open Letter from Retired Generals and Admirals”, Voltaire Network, 9 May 2021.
(7) أنظر:
Top Secret America: The Rise of the New American Security State, William M. Arkin & Dana Priest, Back Bay Books (2012).
(8) أنظر:
“Exclusive: Inside the Military’s Secret Undercover Army”, William M. Arkin, Newsweek, May 17, 2021.
(9) أنظر:
Sous nos yeux, Chapitre «La fusion des deux Gladios et la préparation de Daesh», p. 122 et suivantes, Thierry Meyssan, Demi-Lune (2017).
المصدر: شبكة فواتير / تعريب: سعيد هلال الشريفي.
مصدر الصور: الحرة – شبيغل.
موضوع ذا صلة: أبعاد السياسات الأمريكية في المشرق
تييري ميسان
كاتب وصحفي – فرنسا