العميد م. ناجي ملاعب*
القلق الغربي عموماً والأميركي خصوصاً – هل من صدام في الأفق؟
1. تفوق عسكري أمريكي هائل.. ولكن!
المجال العسكري واحد من المجالات القليلة الذي لا يزال الأمريكيون متفوقون فيه على غريمهم الصيني، من حيث التسلح والتكنولوجيا والتحالفات، رغم أن الصين تتقدم وتُطور قدراتها بإطراد. ورغم أن ليس بإمكان الصين تحدي القوة الأمريكية على المستوى العالمي، إلا أنها باتت قوة عسكرية ذات مصداقية وتأثير في محيطها الإقليمي. تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري” بشأن عام 2019 والصادر يوم (27 أبريل/ نيسان 2020) أكد سباقاً عالمياً محموماً غير مسبوق نحو التسلح والإنفاق العسكري. وأوضح نان تيان، الباحث في المعهد، أن الصين “أعلنت بشكل سعيها للتنافس مع الولايات المتحدة كقوة عسكرية عظمى”. لكن النفقات الأمريكية لا تزال هي الأعلى في العالم وتوازي تقريباً مجموع نفقات الدول التالية (الصين، السعودية، الهند، فرنسا، روسيا، بريطانيا، ألمانيا واليابان).
غير أن دراسة لـ “مركز دراسات الولايات المتحدة” في جامعة سيدني الأسترالية، صدرت في 19 أغسطس/آب 2019 أكدت تراجع قوة الجيش الأمريكي في آسيا، وأنه لم يعد في موقع يسمح له بمواجهة الصين. وأكدت الدراسة أن الجيش الصيني يمكنه القضاء على القواعد الأمريكية في آسيا بصواريخه في غضون ساعات قليلة. الدراسة التي لاقت صدىً إعلامياً كبيراً، خلصت إلى أن “الصين أنشأت ترسانة مثيرة من الصواريخ الدقيقة وأنظمة الدفاع الأخرى، مما يقوض الهيمنة العسكرية الأمريكية في المنطقة”. وقالت إن جميع المنشآت العسكرية الأمريكية وتلك التابعة لحلفائها في غرب المحيط الهادئ “في مرمى الهجمات الصاروخية الصينية الدقيقة خلال الساعات الأولى لأي صراع مسلح”.(1)
2. التقرير السري الذي دق ناقوس الخطر!
سيناريو المواجهة العسكرية بين القوتين العظيمتين لم تعد ترسمه دوائر صنع القرار الغربية فقط، ولكنه بات يدخل في حسابات الصين أيضاً، وكان موضوع تقرير سري صيني حذر من موجة عداء غير مسبوقة اتجاه العملاق الآسيوي في أعقاب جائحة “كورونا”، عداء من شأنه أن يؤسس إلى حرب باردة جديدة وربما مواجهة عسكرية في المستقبل. وكالة “رويترز” نقلت في بداية شهر مايو/أيار (2020) عن مطّلعين على التقرير الذي أعدّته وزارة أمن الدولة، بداية شهر أبريل/نيسان 2020، أن “المشاعر العالمية المناهضة للصين وصلت أعلى مستوياتها منذ حملة ميدان تيانانمين عام 1989”. التقرير نصح الصين بالاستعداد “لمواجهة عسكريّة بين القوتين العالميتين في أسوأ سيناريو”.
وتعتقد سلطات بكين بأن الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب باتت مصممة أكثر من أي وقت مضى، على احتواء صعود القوة الصينية بكل الوسائل. التقرير أوضح أن واشنطن تنظر للصعود المتنامي للصين باعتباره تهديداً لأمنها القومي وتحدياً للديمقراطيات الغربية. وأكد أن واشنطن تسعى لإضعاف مكانة الحزب الشيوعي الحاكم من خلال تقويض ثقة الصينيين فيه. وفي أعقاب أحداث ميدان تيانانمين قبل ثلاثين عاماً، فرض الغرب حزمة عقوبات على الصين، شملت حظراً على نقل التكنولوجيا وبيع الأسلحة. غير أن الصين اليوم باتت عملاقاً إقتصادياً وطورت قدرات عسكرية هائلة؛ بحرية وجوية، قادرة على تحدي الهيمنة العسكرية الأمريكية في آسيا. وتعمل الصين على تطوير قوة قتالية مؤهلة للنصر في الحروب الحديثة في تحد واضح لأكثر من سبعين عاما من الهيمنة العسكرية الأمريكية على آسيا.
3. آراء مشككة في سيناريو الصدام العسكري
كتب الخبير والكاتب الأمريكي، ديفيد فيكلنغ، في تحليل نشرته وكالة “بلومبرغ” عن مستقبل العلاقات الأمريكية الصينية، أن إلقاء نظرة على العلاقات المتوترة للصين مع دول أخرى، يظهر أن بكين تعتمد على الواقعية السياسية أكثر مما تركز على “الذات”، مستبعداً بذلك مواجهة عسكرية. وذكًر أنه بعد ثلاث سنوات من الحرب التجارية بين البلدين، فإن قيمة الاستثمارات الأمريكية في الصين خلال 2019، توازي استثمارات العام 2005 بقيمة 14 مليار دولار سنوياً. كتب هو شي جين رئيس تحرير صحيفة “غلوبال تايمز” الشعبية في الصين على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، بأن “خطر المواجهة العسكرية بين الصين والولايات المتحدة يتصاعد رغم أن أياً من الجانبين لا يريد الحرب”. ويرى يورغ لاو في مقال لموقع “تسايت أونلاين” الألماني (20 مايو/ أيار 2020) أن “الصراع بين واشنطن وبكين ليس حرباً باردة جديدة، كل ما هناك هو أن الصين تستخدم بذكاء ضعف القوة الأمريكية المتذبذبة “.(2)
غير أن وتيرة التدهور في العلاقات بين العملاقين باتت مقلقة، خاصة وأن التموقع ضد الصين صار محدداً أساسياً في الخطاب السياسي الأمريكي سواء لدى الجمهوريين أو الديموقراطيين.
المفارقة هو أن التطور الإقتصادي الهائل للصين خلال العقود الثلاثة الماضية تم بمباركة أمريكية. فقد أيد الأمريكيون انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية العام 2001، واستضافت جامعاتهم العديد من الباحثين الصينيين. كما وضعت الشركات الأمريكية الصين في قلب سلاسل إنتاج الاقتصاد العالمي. وكانت واشنطن تراهن في ذلك على تقارب وتكامل النموذجين الاقتصاديين، إلا أن ذلك لم يتحقق بالشكل الذي كانت ترجوه. كل هذا أدى إلى تحول استراتيجي في التصور الأمريكي، ظهر من خلال تراكم العقوبات التجارية والعقوبات المضادة في حرب بدأت في يناير/كانون الثاني 2018. تأثيرات هذه الحرب هائلة، ففي عام 2019، تراجعت الصين من أول إلى ثالث أكبر مورد للولايات المتحدة بينما انخفضت الصادرات الأمريكية إلى الصين.
في الخلاصة
وفقَ قواعد علم الجغرافية السياسية – الجيوبوليتيك، الذي هو علم حديث جداً بالمناسبة وهو في طور التكامل التدريجي، فإن السيطرة والهيمنة والنفوذ في العالم كي تكون قابلة لأن تتجسَّد وتستمر لمدى زمني مناسب، وكي لا تتحلَّل وتتلاشى بسرعة هذا إن حصلت أصلاً، يجب أن تكون سيطرة وهيمنة ونفوذ بالمعنى الحضاري، وليس بالمعنى العسكري أو السياسي فقط. لقد ثبت التاريخ الجيوسياسي للعالم أن تكون “القارة الأوروبية” و”الأرض العربية في غرب آسيا وشمال إفريقيا”، أو جزءاً كبيراً منهما كجغرافيا وكديموغرافيا جزءاً لا يتجزأ من خندق القوة المهيمنة.(3)
وينبغي لتحقيق التفوق أن يكون للقوة المركزية المهيمنة تواجد قوي وفاعل ومؤثر وينطوي على دلالات السيطرة الحقيقية عسكرياً وسياسياً، في البحر الأبيض المتوسط تحديداً، باعتباره بحيرةَ مركزِ الثقلِ في السيطرة العالمية. لذلك وجدنا أن الولايات المتحدة ورغم امتلاكها إطلالتين بحريتين مهمتين جداً على محيطين هما الأطلسي والهادي، وسيطرتها على الكثير من الأقاليم المحاذية لها عبرهما، لم تتمكن من أن تصبح قوة عالمية مهيمنة، إلا بعد أن امتلكت سيطرة حقيقية على البحر المتوسط من خلال اقتحامها الحالة الأوروبية بالحربين العالميتين الأولى والثانية. كما أن عدم قدرة الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة على امتلاك سيطرة ونفوذ في هذا البحر مثلما كان عليه حال الولايات المتحدة، جعله يعاني من الضعف المزمن في حضارة “اليابس” إذا ما قورنت بحضارة “البحر” .(4)
لذلك، نلاحظ أن الولايات المتحدة لم تصبح قوة مهيمنة إلا بعد أن أصبح جزءاً من أوروبا، وجزء من الأرض العربية إما بشكل مباشر وإما بالتبعية لأوروبا، جزءاً لا يتجزأ من جغرافيا وديموغرافيا القوة الأميركية المهيمنة. وهو ما حققه الإتحاد السوفييتي أيضاً، وما كان ليستطيع تحقيقه إلا بعد أن هيمن على جزء من أوروبا هو “أوروبا الشرقية” حتى بقوة الاحتلال العسكري، فضلاً عن جزء من الأرض العربية بمبدأ التحالفات في مصر وليبيا والجزائر والعراق.. إلخ.
اقتبس الخبراء الصينيون رأي المحلل الجيوسياسي البريطاني هالفورد ماكيندر (5)، صاحب نظرية “أوراسيا قلب العالم”، وانطلاقاً من ذلك فهم يعتبرون اندماج الأوراسيا مع الشرق سيعزز من تأثير الصين على العالم، ويحول الولايات المتحدة إلى جزيرة منعزلة، ويسمح لأوراسيا بالعودة إلى مركز الحضارة الإنسانية، وبالتالي إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية العالمية والمشهد العالمي. ومن الواضح أن هذا التوجه يبدو وكأنه لإضعاف الشراكة عبر الأطلسي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، واستبدالها جزئياً بالعلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي .
وهذا ما تنبه له المستشار الأسبق لمجلس الأمن القومي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى”(6) الذي ينصح الولايات المتحدة الأميركية بالقول “إن المهمة الفورية هي التأكد من ألا تصبح أي دولة أو مجموعة دول قادرة علـى طـرد الولايات المتحدة من أوراسيا (قلب آسيا). ولا يحتمـل أن أميركا الديمقراطية سوف ترغب في أن تظل مشتبكة أو منخرطة على نحو دائم في المهمة الـصعبة والمنهكة والمكلفة المتمثلة في إدارة أوراسيا من خلال التلاعب والمناورة المستمرين، وبدعم من الموارد العسكرية الأميركية، لكي تمنع التحكم أو السيطرة الإقليمية من قبـل أي قـوة (دولة) واحدة. وبالتالي يجب أن تؤدي المرحلة الأولى، منطقياً وبشكل متعمد، إلى المرحلة الثانية، أي إلى تلك المرحلة التي تظل فيها الهيمنة الأميركية الحيادية تعمل على عدم تشجيع الآخرين على إثارة التحديات ليس فقط بجعل تكاليف هذه التحديات عالية جداً، ولكن بعـدم تهديـد المـصالح الحيوية للمرشحين الإقليمين المحتملين في أوراسيا.(7)
ومن الشروط التنافسية على الريادة، من خارج التفوق العسكري، وهو الأهم على الإطلاق، كما يصفها عكنان “أن تمتلك القوة المركزية المهيمنة وتخومها بالتبعية طرحاً فلسفياً أيديولوجياً، يعرض على العالم رؤيته للحياة وللتاريخ وللتطور ولسيرورة المجتمعات، فيما يتعلق بالحرية والعدالة.. إلخ، وهو الأمر الذي فعلته الولايات المتحدة عندما سوقت نفسها مدافعة عن الليبرالية الإقتصادية والسياسية، وعن حقوق الإنسان وعن الديمقراطيات في العالم في مواجهة الشموليات.. إلخ، وبالمقابل هو نفسه ما فعله الإتحاد السوفييتي عندما طرح نفسه مدافعاً عن إستقلال الشعوب وعن حقها في تقرير مصيرها، وعن العدالة الاجتماعية ومواجهة الظلم والإستغلال الرأسماليين.”(8)
في هذه العجالة، بحثنا تطور الإنتاج العسكري الصيني في العقد الأخير والذي أوصل البلاد إلى المركز التنافسي الأول. ويأتي هذا التقدم مواكباً بإستثمارات هائلة في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية التي يشار إليها أحياناً بإسم “طريق الحرير الجديد”. فهل سيكون العقد الجديد 2020 – 2030 هو الممهد لعبور الحضارة المشرقية طريق الحرير لنتعرف إلى قيم جديدة تنهي السيطرة الأحادية للعولمة المتوحشة التي حملت شعار “حقوق الإنسان” وكانت بعيدة كل البعد عنه، وابتدعت شعار “الحرب الوقائية” للقضاء على كل من خالف توجهها بحجة “الإرهاب”؟
*خبير أمني وإستراتيجي وباحث أول في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري “إينغما” – لبنان.
المراجع:
1. موقع DW عربية. تاريخ 20/5/2020. على الرابط:
https://bit.ly/2TSXYEp
2. المرجع السابق.
3. أسامة عكنان: محلل سياسي في صحيفة الرأي العام المصرية في حديث لموقع “أجيال القرن 21”. تاريخ 5/5/2020. على الرابط:
https://bit.ly/3mSiJfK
4. المرجع السابق.
5. الجغرافي الإنجليزي الشهير ماكندر (الذي كانت مقالاته تترجم إلى الدورية الجيوبوليتيكية)، خاصة تلك الأفكار التي صاغ من خلالها نظريته عن “قلب العالم”، والتي تقول فحواها: إن من يسيطر على شرق أوروبا يسيطر على العالم. وتنبأ فيها بانتقال السيطرة على العالم من القوى البحرية (إنجلترا وفرنسا) إلى القوى البرية (ألمانيا والاتحاد السوفيتي). محمد حمزة علوان: الأسس والمفاهيم لعلم الجيوبوليتيك. تاريخ 20/12/2014. على الربط:
https://bit.ly/366QRh5
6. زبيغنيو بريجنسكي: رقعة الشطرنج الكبرى. مرجع سبق ذكره. ص: 27.
7. المرجع السابق. ص: 189.
8. أسامة عكنان. مرجع سبق ذكره.
المصدر: مجلة الدراسات الأمنية.
مصدر الصور: قناة المنار – CGTN.
موضوع ذا صلة: الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة.. يضحك طويلاً من يضحك أخيراً