بعد أن مر الاقتصاد اللبناني بالكثير من الصعوبات خلال السنوات الأخيرة، في ظل ظروف عدم الاستقرار السياسي المزمنة التي تعانيها البلاد، بسبب حالة الشد والجذب بين السياسيين، وبعد أن عانت البلاد مثل غيرها من دول العالم الضائقة الاقتصادية الشديدة، العام 2020، بسبب ظروف “كورونا”، فإن العام الجاري جاء حاملاً معه الكثير من الأنباء السلبية وغير المبشرة للاقتصاد اللبناني، الذي أصبح يواجه أزمة مزدوجة، وأكثر تعقيداً.

وخلال الفترة الماضية، أقدم المصرف المركزي – مصرف لبنان على اتخاذ بعض الإجراءات وفرض بعض الشروط على البنوك، بما من شأنه تعزيز الاستقرار النقدي والمالي في البلاد، لكن ووجهت جهود المصرف بصعوبات كبيرة، حيث لم تتمكن البنوك من الوفاء بالشروط التي طلبت منها، الأمر الذي طرح الكثير من التساؤلات بشأن ما ستؤول إليه الأوضاع في النظام المصرفي خلال الفترة المقبلة.

ضعف مزمن

تتجه العلاقة بين البنوك العاملة في لبنان وعملائها إلى مزيد من التعقيد، في أعقاب انتهاء المهلة التي حددها مصرف لبنان المركزي، 28 فبراير/شباط 2021، لكي تقوم البنوك بزيادة رؤوس أموالها من أجل تعزيز قدرتها على مواجهة الصدمات النقدية التي تمر بها البلاد، ومن أجل الوفاء باحتياجات الاقتصاد، سواءً تعلق الأمر بالاحتياجات التمويلية أو تلبية احتياجات المتعاملين بشأن ضمان ودائعهم، وكذلك تلبية احتياجات السحب اليومي التي تزايدت مع ارتفاع معدل التضخم والتراجع الحاد في قيمة العملة.

وقد قام مصرف لبنان المركزي، أغسطس/آب 2020، بإلزام البنوك العاملة في البلاد بضرورة زيادة رؤوس أموالها بنسبة 20%، وإعادة تكوين حساباتها لدى المصارف المراسلة بنسبة 3%، في موعد أقصاه نهاية فبراير/شباط 2021. ومع انتهاء المهلة المخصصة لذلك، أعلن المصرف بدء مراجعة أوضاع المصارف، ضمن خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، المؤلف من 28 مصرفاً لبنانياً وأجنبياً.

وبالتأكيد، فإنه برغم أن جميع البنوك العاملة في لبنان عملت على الوفاء بالشروط الإلزامية التي فرضها المصرف المركزي، فليس من المؤكد أن جميع هذه البنوك، وخاصة اللبنانية منها، قد تمكنت من استيفاء تلك الشروط. وهناك تقديرات تشير إلى أن ما يتراوح بين 10 – 15 بنكاً فقط هي القادرة على استيفاء تلك الشروط، ما يعني أن ما يتراوح بين 13 – 18 بنكاً لن تتمكن من ذلك.

وبالنسبة لهذه المصارف، فهي أمام احتمالات عدة من بينها الاندماج مع بعضها البعض، لتحسين أوضاعها المالية، لدى تكوين كيانات أكبر، أو أن تضطر لإعلان الإفلاس، أو قد تتعرض لسحب التراخيص التي تعمل بمقتضاها في لبنان.

مهمة صعبة

في ظل هذه الظروف، فإن حالة من الضبابية الشديدة تحيط بمصير ودائع العملاء لدى البنوك العاملة في لبنان. كما أن حدوث حالات تخلف عن الوفاء بشروط المصرف المركزي، وحدوث إفلاسات عدة في القطاع، سيضع المصرف نفسه أمام وضع خطير ومعقد، فهو مطالب أولاً بطمأنة المودعين بشأن أموالهم، والوفاء باحتياجاتهم فيما يتعلق بالسحب اليومي من ودائعهم. كما أنه سيكون مطالباً في الوقت نفسه بإيجاد حل جذري لوقف الانخفاضات المتواصلة وغير المسبوقة في سعر صرف الليرة، التي تراجعت بشكل غير مسبوق، منذ دخول البلاد في أزمتها المالية الأخيرة؛ حيث ارتفع سعر صرف الدولار خلال الأيام الماضية إلى نحو 10700 ليرة لكل دولار واحد، في وقت ظل فيه سعر الصرف الرسمي عند 1510 ليرة للدولار، وهو ما يعبر عن حجم الأزمة النقدية والمالية التي يعيشها الاقتصاد.

وبرغم أهمية مشكلة الليرة، وضرورة قيام المصرف المركزي بإيجاد حل لوقف تدهورها المستمر، لكن الأمر الأكثر إلحاحاً، والذي يجب على المصرف العمل عليه في المقام الأول هو مواجهة أزمة الودائع، لا سيما أنه، ووفقاً للكثير من التقارير والتقييمات الخاصة بالمؤسسات الاقتصادية، فإن جزءاً من أموال المودعين بالدولار لدى البنوك تم منحها كقروض للمصرف المركزي، وقد قام الأخير بدوره بإعادة إقراض هذه الأموال للحكومة، بالليرة، فيما عمل على استخدام الدولارات لمعالجة أزمة العملة، على نحو أدى إلى استنزاف العملات الأجنبية بالجهاز المصرفي.

ولكي تتم معالجة أزمة الودائع الدولارية تلك، فسيجد المصرف المركزي مهمته صعبة للغاية؛ ففي حال قيام الحكومة برد الأموال للمصرف، فإنها ستقوم بسدادها بالليرة، وعلى المصرف أن يسدد الأموال للبنوك بالدولار، وفي ظل الانخفاض الشديد الأخير في قيمة الليرة، فإن الأموال التي ستردها البنوك له ستكون أقل كثيراً مما اقترضتها منه إذا ما تم تقييمها بالدولار، ما يعني أن المصرف المركزي سيتعرض لخسائر كبيرة، ولن يتمكن من رد الأصول الدولارية التي اقترضها من البنوك كاملة، الأمر الذي سيفاقم من مشكلة الودائع بالبنوك، كما أنه قد يخلق حالة من الهلع لدى المودعين بالدولار على وجه خاص.

وتشير هذه المعطيات ليس فقط إلى أن البنوك غير القادرة على الوفاء بشروط المصرف المركزي هي التي ستكون في أزمة، بل إن المصرف المركزي نفسه سيكون أمام أزمة، بل إن أزمته ستكون أكثر تعقيداً من تلك المصارف، فهو من أولى لا بد أن يكون قادراً على تحمل أعباء رد القروض الدولارية للبنوك، وطمأنة المودعين بشأن ودائعهم، كما سيكون مطالباً برد تلك الودائع بنفس عملاتها الأصلية، من ناحية ثانية، وكذلك الدفاع عن الليرة ووقف تدهورها عبر ضخ مليارات الدولارات في السوق، من ناحية ثالثة.

وفي مثل هذه الظروف، فلابد من أن المصرف المركزي سيكون في أمس الحاجة للحصول على مساعدات خارجية، كونه لن يكون قادراً على تحمل تلك الأعباء بمفرده، وسيكون من الضروري حصول لبنان على قروض خارجية كبيرة، سواءً من المؤسسات الاقتصادية الدولية، كصندوق النقد الدولي، أو من الدول الصديقة، أو أن تقوم تلك الدول بوضع ودائع دولارية كبيرة لدى المصرف المركزي، بما يساعده في الوفاء بالتزاماته تجاه المودعين وفي الدفاع عن قيمة العملة، ومحاولة رفع سعر صرفها، ومحاصرة التحديات المالية والنقدية التي تعانيها البلاد، ومنع الاقتصاد من الانزلاق إلى أزمات جديدة لا مخرج منها.

المصدر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

مصدر الصور: إندبندنت عربية – ميدل إيست أونلاين.

موضوع ذا صلة: إنهيار نقدي في لبنان وسوريا والجزائر.. الأسباب والأهداف