أثار انتخاب جو بايدن، كرئيس للولايات المتحدة، الآمال في أن تتمكن الولايات المتحدة وإيران من تحقيق انفراجه فورية في إحياء الاتفاق النووي، لعام 2015. لكن ثبت أن استعادة الصفقة أصعب مما قد يبدو، والجانبان في طريق مسدود. وتدعو واشنطن، التي انسحبت من الاتفاق العام 2018، طهران إلى الدخول في محادثات بشأن استعادة الامتثال للاتفاق ومعالجة الأمور الأخرى المثيرة للقلق. رفضت طهران عرضاً أولياً لإجراء محادثات، حيث كررت مطالبتها بضرورة رفع واشنطن للعقوبات أولاً.
لتوضيح وجهة نظرهم، كان المسؤولون الإيرانيون يرددون عبارة محددة “النوايا الحسنة تولد النوايا الحسنة”، ولقد استخدم وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، العبارة في مقال نشر في يناير/كانون الثاني، وقد رددها مسؤولون كبار آخرون.
بالنسبة للعديد من صانعي السياسة الغربيين، قد يكون استخدام إيران لهذا التعبير غير ملحوظ. ولكن في سجلات التاريخ الأميركي – الإيراني، كانت العبارة التي صاغها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب له صدى محدد. لا يقتصر الأمر على اقتباس كبير الدبلوماسيين الإيرانيين عن وعي من رئيس أميركي سابق، بل إنه يستعيد العودة إلى مناورة دبلوماسية أسيء فهمها وفشلت في نهاية المطاف منذ 30 عاماً. إن استدعاء إيران لهذه العبارة يدعو إلى إلقاء نظرة فاحصة على ما تعنيه عبارة “حسن النية يولد حسن النية” كاستراتيجية دبلوماسية، ولماذا فشلت، وكيف يمكن أن تنطبق على الظروف الحالية.
عندما تولى بوش الأب منصبه، يناير/كانون الثاني 1989، لم تكن إيران من أولويات جدول أعماله السياسي. كان برنامج إيران النووي ناشئاً، وكان نفوذها الإقليمي محدوداً، وكانت تترنح من حرب مدمرة استمرت 8 أعوام مع العراق. لكن بوش كان ملتزماً بإطلاق سراح الرهائن الأميركيين المحتجزين في لبنان، وكانت الإدارة تعتقد أن إيران لها نفوذ على الميليشيات التي دبرت عمليات الخطف، لذلك طلب المساعدة من طهران.
في خطاب تنصيبه، أشار بوش إلى المواطنين الأميركيين المحتجزين في الخارج بقوله “يمكن عرض المساعدة هنا وسيظل في الذاكرة طويلاً. النوايا الحسنة تولد النوايا الحسنة”. أراد بوش أن تتخذ إيران الخطوة الأولى في تخفيف حدة التوتر بين البلدين، وبعد ذلك ستعالج الولايات المتحدة مخاوف إيرانية غير محددة في المقابل، وأضاف بوش أن “حسن النية يمكن أن يكون دوامة تتحرك إلى ما لا نهاية”.
طلبت إدارة بوش من الأمم المتحدة نقل الرسالة بشكل خاص إلى إيران أيضاً، وأصدرت توجيهاً سياسياً سرياً يأمر الإدارة بـ “الاستعداد لعلاقة طبيعية مع إيران”. للإشارة إلى جديته، أخبر بوش الحكومة العُمانية، وهي محاورة دائمة مع إيران، أن إطلاق سراح الرهائن كان شرطاً أساسياً لتحسين العلاقات مع طهران.
ووافق الرئيس الإيراني، أكبر هاشمي رفسنجاني، على العرض وخلص إلى أن الأمر يستحق الجهد المبذول لإزالة مصدر إزعاج في العلاقات مع واشنطن. لكن الأمر استغرق وقتاً ومالاً حتى ينجز. على مدار الأعوام الثلاث التالية، تم إطلاق سراح 8 مواطنين أميركيين احتُجزوا كرهائن، وأعيدت جثتا اثنين آخرين توفيا في الحجز، حيث تم إطلاق سراح كل الرهائن في ديسمبر/كانون الأول 1991. مبعوث الأمم المتحدة الخاص، الذي لا يعرف الكلل، جياندومينيكو بيكو، نسب صراحة الفضل إلى طهران والرئيس رفسنجاني لتسهيل عمليات الإفراج. كان للدبلوماسي الإيراني الشاب آنذاك ظريف دور أيضاً. وشكر بوش إيران مراراً على مساعدتها.
حتى اليوم، يؤكد بعض المحللين أن بوش لم يفعل شيئاً مقابل جهود إيران. لكن هذا غير صحيح. قدمت الولايات المتحدة العديد من تدابير “حسن النية” في عامي 1990 و 1991. فقد رفعت الحظر المفروض على الشركات الأميركية التي تستورد النفط الإيراني، وحلت مطالبة معلقة لمعدات عسكرية لم يتم تسليمها في لاهاي، ودعمت إصدار الأمم المتحدة لتقرير نهائي يلقي باللوم على العراق لإشعال الحرب الإيرانية – العراقية. لم يكن الدافع الوحيد للولايات المتحدة هو الرد بالمثل على إطلاق سراح الرهائن، إذ سعت واشنطن أيضاً إلى إقناع إيران بلعب دور مثمر في حرب الخليج بين عامي 1990 – 1991، وهو ما فعلته.
في ذلك الوقت، لم يكن لواشنطن قنوات دبلوماسية مباشرة مع طهران. أخبرني وزير الخارجية السابق، جيمس بيكر، أن الولايات المتحدة حاولت فتح المحادثات، لكن طهران رفضت. ومع ذلك، قررت واشنطن أن طهران تتوقع المزيد من “حسن النية”، وبدأت في مراجعة سياسية سرية في أواخر العام 1991 أو أوائل العام 1992 لتقرير كيفية المضي قدماً.
وعلى وجه الخصوص، أعرب البيت الأبيض عن قلقه من علاقة إيران باغتيال رئيس الوزراء الإيراني السابق، شابور بختيار، في فرنسا وتفجير شاحنة مفخخة في السفارة الإسرائيلية في الأرجنتين. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن إيران سرّعت وتيرة محاولاتها للحصول على مواد وتكنولوجيا نووية من الأرجنتين والصين وألمانيا والهند وروسيا. طرح مسؤول إيراني كبير إمكانية قيام جميع الدول الإسلامية بتطوير أسلحة نووية. أصدرت وكالة المخابرات المركزية – CIA تقييماً علنياً بأن “طهران تسعى لامتلاك قدرة سلاح نووي”. حينها، وعلى الرغم من مساعدة إيران مع الرهائن، تغير الوضع بشكل جذري. بالنسبة لطهران، خانت الولايات المتحدة كلمتها، مدمرة فرصة محتملة.
واليوم، يبدو أن طهران تميل إلى هذه الحادثة لإرسال رسالة واضحة مفادها أن على واشنطن أن تتخذ الخطوة الأولى، تماماً كما أشار بوش إلى أن إيران يجب أن تفعل قبل عقود. ومع ذلك، يجدر بنا أن نتذكر أنه، كما هو الحال مع معظم الطلبات الافتتاحية، من المحتمل أن تكون مرنة بمرور الوقت.
أولاً، تبين أن التدابير الإيجابية غير المنسقة لا تشكل أساس علاقة مستدامة. قد ترغب طهران في عودة الولايات المتحدة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة أولاً أو على الأقل القيام بلفتة أولية. ولكن خارج المفاوضات أو على الأقل التواصل الواضح، يمكن أن يكون تأثير تدابير النوايا الحسنة من جانب واحد محدوداً للغاية ومناسباً لسوء الفهم.
بينما يفكر المسؤولون الأميركيون فيما إذا كانوا سيقدمون لإيران بعض الحوافز للعودة إلى المفاوضات، يجب أن يضعوا في اعتبارهم مخاطر وفوائد مثل هذا النهج، لا سيما فيما يتعلق بكيفية تفسير المسؤولين الإيرانيين لمثل هذا التواصل. قد يُنظر إلى الخطوة الفاترة جداً على أنها إهانة أو ليست بادرة حسن نية على الإطلاق. في مقابلة على موقع المرشد علي خامنئي على الإنترنت، بدا أن علي لاريجاني، رئيس البرلمان السابق، يشير إلى مثل هذا الموقف، محذراً واشنطن من محاولة “خداع إيران بشوكولاتة”. في الأسبوع الماضي، استخدم مسؤول إيراني كبير آخر استعارة مماثلة، محذراً واشنطن من أن التحركات الأصغر ستكون بمثابة “حلوى” لطهران. هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، قد تؤدي الخطوة السخية جداً إلى تقويض الموقف التفاوضي للولايات المتحدة أو إثارة رد فعل محلي كبير. قد تكون التدابير الأصغر، المصممة بعناية والموجهة، جديرة بالاهتمام، ولكن فقط إذا كان الغرض منها تسهيل حوار رسمي، وليس استبداله.
ثانياً، تؤكد تجربة “النوايا الحسنة تولد النوايا الحسنة” على أن خفض التصعيد المستدام بين واشنطن وطهران لا يمكن متابعته ببساطة من خلال التركيز على القضية المطروحة حالياً، سواء كان ذلك رهائن في التسعينيات أو القضية النووية اليوم. يؤكد هذا على أهمية تأمين إدارة الرئيس بايدن من إيران، قبل إعادة الدخول في الاتفاق النووي، التزاماً ليس فقط بالتفاوض على توسيع نطاق الاتفاقية ولكن لمناقشة النطاق الكامل للأنشطة الإيرانية التي تجدها الولايات المتحدة إشكالية. إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن حلقة التسعينيات ستظهر مجدداً. ومرة أخرى، لن تولد النوايا الحسنة النوايا الحسنة.
المصدر: مجلة “فورين بوليسي” الأميركية – تعريب ونشر: جاده إيران
مصدر الصور: United Press International – سي.أن.أن عربية.
موضوع ذا صلة: إدارة بايدن وإيران وتحدي إحياء الإتفاق النووي