في فبراير/شباط 2021، انتهت العملية العسكرية التركية “مخلب النسر – 2” في شمال العراق بفشل ذريع، أدى إلى مقتل 13 أسيراً تركياً كانوا محتجزين لدى حزب العمال الكردستاني في جبال غارا على بعد 35 كلم من الحدود التركية داخل الأراضي العراقية، بالإضافة إلى مقتل ثلاثة ضباط أتراك شاركوا في العملية، في حدث يُنذر بتداعيات كبيرة، سياسياً وعسكرياً.

وكان الرئيس رجب طيب أردوغان دعا الشعب التركي، 7 فبراير/شباط، إلى انتظار إعلان مهم و”أخبار مفرحة” سيُعلَن عنها بعد يومين، خلال كلمته الشهرية التي يلقيها عبر التلفزيون الرسمي، وفي الموعد المنتظر أعلن الرئبس أردوغان عن مشروع تركيا الفضائي، وأن تركيا تهدف إلى إيصال مركبة فضائية إلى القمر نهاية العام 2023، لكنه لم يعلن عن أي شيء جديد في كلمته الشهرية المسجلة.

وبينما اعتبر كثيرون أن “الأخبار المفرحة” هي مشروع تركيا الفضائي، أعلن الجيش التركي في اليوم التالي عن وقف عملية “مخلب النسر – 2” في شمال العراق، التي أدت إلى قتل 50 عنصراً من حزب العمال الكردستاني، والفشل في تحرير 13 أسيراً تركياً كانوا محتجزين في منطقة غارا في شمال العراق، فقد قام الحزب بإعدامهم جميعاً أثناء عملية تحريرهم، كما أدت إلى مقتل ثلاثة ضباط أتراك.

وهنا، استدركت المعارضة التركية فوراً للقول بأن “الأخبار المفرحة” التي وعد الرئيس أردوغان بتقديمها كانت تتعلق بهذه العملية العسكرية، وأنه كان يتوقع نجاحها والإعلان عن تحرير الرهائن الـ 13 الذين لم يُعلَن سابقاً عن وجودهم محتجزين عند حزب العمال الكردستاني منذ 5 أعوام.

ارتباك حكومي واتهامات من المعارضة

أدت هذه الحادثة إلى ارتباك شديد في صفوف الحكومة التركية، وكان لها تداعيات سياسية مهمة، إذ حاولت السلطة الحاكمة التنصل من المسؤولية عما حدث، وتناقضت التصريحات الرسمية التي حاولت تبرير إخفاق عملية غارا العسكرية. ففيما صرح قائد الأركان، يشار غولار، بأن العملية كان هدفها تحرير الرهائن، وأنها تمت بأمر مباشر من “السلطات” مشيراً إلى مسؤولية وزير الدفاع، خلوصي أكار، فإن الأخير قال في جلسة في البرلمان إن هدف العملية كان السيطرة على منطقة غارا التي علم الجيش التركي بنية حزب العمال الكردستاني استخدامها معقلاً جديداً لقيادات الحزب، وأن العسكريين فوجئوا بوجود الرهائن هناك، مما أدى إلى فشل محاولة تحريرهم بسبب عدم الاستعداد الكافي لعمية التحرير التي جاءت مفاجئة ضمن العملية.

وحاول الرئيس أردوغان تحويل هذا الفشل العسكري إلى مصلحة سياسية له من خلال العمل على توجيه سهام الانتقادات إلى حزب الشعوب الديمقراطية الكردي، واتهامه بدعم حزب العمال الكردستاني، إذ أوفد وزيري الداخلية والدفاع إلى حزبَي “الشعب الجمهوري” و”الجيد” المعارضين، مطالباً بالخروج بموقف قومي موحد بين أحزاب البرلمان يُندد بحزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطية، لكنه فوجئ برد رافض قوي لهذا الطرح من قبل الحزبَين، وخرج كمال كيليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري، ليقول بأن الرئيس أردوغان هو المسؤول عن نتائج هذه العملية، ومقتل 13 أسيراً تركيا لأنه رئيس الدولة وبيده جميع الصلاحيات، وهو من أعطى الأمر بهذه العملية.

وبدا أن موقف المعارضة فاجأ وأحرج الرئيس أردوغان الذي خرج عن طوره وشتم كليجدار أوغلو لأنه حمّله المسؤولية، ورفع قضية قذف وتشهير ضد كيليجدار أوغلو، مطالباً بتعويض مالي قدره نصف مليون ليرة، ثم عاد الرئيس أردوغان ليقول بأن المسؤول عن هذه العملية هو “الدولة” بجميع أجهزتها، وليس هو شخصياً.

وانتقدت زعيمة حزب “الجيد” القومي المعارضة، ميرال أكشنار، إخفاء الحكومة أمر هؤلاء الأسرى لـ 5 أعوام، “وعدم القيام بأي خطوة لتحريرهم خلال الأعوام الخمس الماضية”. كما ذكرت المعارضة بأنه تم تحرير عدد من الأسرى والرهائن من يد حزب العمال الكردستاني سابقاً من خلال التفاوض عبر مؤسسات المجتمع المدني، وأن الحكومة هي التي رفضت الدخول في هذا المسار هذه المرة. وأجمعت المعارضة على أن الرئيس أردوغان تذكَّر أمر هؤلاء الأسرى، وسعى لتحريرهم الآن عن طريق عملية عسكرية كبيرة من أجل رفع شعبيته. وانتقدت المعارضة الإشارة إلى هذه العملية مبكراً من خلال دعوته الشعب إلى انتظار “أخبار مفرحة قريباً”، مما ساعد على الإفشاء بأمر العملية قبل حدوثها.

غموض وتضارب في الروايات

من جانبه، أعلن حزب العمال الكردستاني أن الأسرى قتلوا بسبب القصف التركي على المغارة التي كان هؤلاء الأسرى مسجونين فيها في منطقة غارا، لكن الحكومة أكدت أن تشريح الجثث أثبت أنه تم قتلهم بإطلاق الرصاص على الرأس مباشرة، وعَرضت وزارة الدفاع “اعترافات” لأسيرين من حزب العمال الكردستاني قالوا فيها إن القيادة أمرتهم بإعدام الأسرى.

حتى الآن، تبحث الحكومة التركية عن الطرف الذي سرب خبر العملية العسكرية لحزب العمال الكردستاني، واعتبر نوابٌ من الحزب الحاكم أنه على الأغلب أن الخبر تسرَّب من قبل إدارة إقليم كردستان – العراق، التي أطْلعها وزير الدفاع خلوصي أكار على العملية خلال زيارته أربيل، يناير/كانون الثاني 2021.

لكن عملية غارا ما زالت تحمل الكثير من الغموض والأسرار التي ترفض الحكومة حتى الآن الكشف عنها، وأهمها:

• لماذا لم تُوكَل عملية تحرير الأسرى إلى المخابرات التركية بالتعاون مع الجيش التركي في عملية خاصة يتسلل فيها القوات الخاصة والمخابرات إلى مكان وجود الأسرى والعمل على تحريرهم؟

• لماذا تم استخدام طائرات “إف – 16” والطائرات العمودية التي تكشف عن وجود الجيش التركي في المكان بوقت كاف قبل عملية إنزال القوات الخاصة إلى المكان؟

• هل كانت العملية لتحرير الرهائن كما قال قائد الأركان، أو للسيطرة على المنطقة الاستراتيجية كما قال وزير الدفاع، أو كانت للقبض على أهم قيادات حزب العمال الكردستاني اللذين وصلت أنباء استخباراتية لأنقرة بأنهما سيكونان موجودين هناك في ذلك التوقيت؟

تداعيات فشل عملية غارا

يمكن القول إن أهم نتائج وتداعيات عملية غارا العسكرية والسياسية، تتمثل في الآتي:

• بدلاً من أن يكون نجاح هذه العملية العسكرية دافعاً سياسيا قوياً لاستعادة الرئيس أردوغان شعبيته من جديد، أدّت إلى مزيد من تراجُع شعبيته، ومكّنت المعارضة من مواجهة الرئيس أردوغان الذي رفض تحمّل مسؤولية العملية على الرغم من أنه رئيس الدولة، وصاحب أكبر الصلاحيات فيها. وعليه، فإن هناك ثمناً سياسياً سيدفعه الحزب الحاكم والرئيس أردوغان نتيجة هذا الفشل العسكري.

• هذا الثمن سينعكس على تركيبة الحزب الحاكم الداخلية، إذ إن تطورات الأمور والتصريحات تشير إلى أن وزير الدفاع خلوصي أكار قد يدفع الثمن لاحقاً بتنحيته عن منصبه الوزاري. كما أن محاولة أردوغان التملُّص من المسؤولية وإلقاءها على أجهزة الدولة والمسؤولين، سيؤثر في السباق الحاصل والتنافس داخل حزب “العدالة والتنمية” الحاكم على مقعد الرجل الثاني في الحزب لخلافة وزير المالية السابق صهر الرئيس أردوغان، برات البيرق، الذي خرج من الساحة السياسية. ومن المتوقع أن يكون آثار هذه العملية سلبية على وضع كلّ من وزير الدفاع أكار ووزير الداخلية سليمان صويلو داخل الحزب، وهما من بين المنافسين على مقعد البيرق الفارغ حالياً، خصوصاً مع اقتراب موعد المؤتمر الحزبي للحزب الحاكم، مارس/آذار 2021؛ لذا، فإن كواليس حزب “العدالة والتنمية” بدأت تتحدث عن أن الرئيس أردوغان يفكر في مصالحة صهره وإعادته إلى منصبه في الحزب، وتكليفه إحدى الوزارات، وزارة الطاقة أو وزارة الخارجية، بعد فشل المتنافسين الباقيين على إثبات قدرة أي منهم في أن يكون بديلاً للبيرق.

• شدَد الرئيس أردوغان هجومه على حزب الشعوب الديمقراطية بعد هذه الحادثة، في محاولة للتغطية على أخبار فشل العملية العسكرية، وتوجيه الشارع إلى لوم الحزب السياسي الكردي، من خلال اتهامه له بدعم حزب العمال الكردستاني، وعليه تم اعتقال أكثر من 80 عضواً في حزب الشعوب الديمقراطية الكردي، والتحقيق مع 25 نائباً بتهمة دعم الإرهاب.

• هناك أيضاً تداعيات أخرى في السياسة الخارجية، لا سيما في ضوء البيان الأمريكي حول عملية غارا العسكرية التركية، والذي شكّك في الرواية التركية حول مسؤولية حزب العمال الكردستاني عن قتل الأسرى الأتراك. وقد استدعت أنقرة السفير الأمريكي في أنقرة إلى الخارجية لتبلغه احتجاجها الشديد رسمياً على هذا البيان، الذي خلق أزمة دبلوماسية بين أنقرة وواشنطن، دفعت وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إلى الاتصال بنظيره التركي، مولود شاوش أوغلو، مُباشرة للتعبير عن دعم واشنطن لتركيا في حربها ضد حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه واشنطن تنظيماً إرهابياً. وفيما ركز بيان الخارجية التركية بعد هذا الاتصال الهاتفي على “تقديم الوزير التركي العتب الشديد لنظيره الأمريكي على بيان الخارجية”، فإن البيان الأمريكي أشار إلى أن الوزيرين ناقشا ملف حقوق الإنسان في تركيا. وقد حاولت أنقرة بعد ذلك استغلال ما حصل بشكل أكبر من أجل دفع الإدارة الأمريكية إلى بدء حوار مباشر وتفاوض حول العلاقات بين البلدين، وقبول المقترح التركي بإنشاء لجان مشتركة لبحث قضايا الخلاف، لكن واشنطن رفضت ذلك مجدداً.

المصدر: مركز الإمارات للسياسات.

مصدر الصور: العرب – الدفاع العربي.

موضوع ذا صلة: عملية “مخلب النسر 2”: بين الروايتين التركية والعراقية