لم يعد ضَنَكُ العيش ومصاعب الحياة اليومية مسألة خافية في الشارع السوري، فنتيجة لعدم استقرار سعر الصرف؛ تشهد الأسواق حالة من التوتر غير المسبوق وعدم الاستقرار ونوع من الجمود، متزامنةً مع فوران كبير في الأسعار، مما تسبب بإحداث حالة من الهلع لدى الناس؛ خوفاً من قادم الأيام، وما تحمله من معطيات، قد تكون أخطر حتى من الوضع الحالي، الذي أقل ما يمكن تسميته بأنه خطير للغاية.

فتهاوي سعر الصرف يترك آثاره المباشرة على حركة الأسواق والأسعار السائدة فيها باتجاه مستويات ربما يسميها السوريون خيالية أو جنونية، ويودي بقيمة الليرة نحو منحدرات خطيرة، تترك معدلات تضخم عالية، تصل اليوم إلى أرقام خيالية، توسم آثاراً مؤلمة على بنية الاقتصاد السوري، وتشل من قدرة أفراد المجتمع على تأمين مستلزمات حياتهم اليومية.

معدلات تضخم غير مسبوقة

مع الانحدارات السريعة والمستمرة في قيمة الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي، ارتفعت معدلات التضخم بشكل غير مسبوق وصلت نحو 8400%، لتفقد دخول الأفراد معها الكثير من قيمتها الحقيقية بعد خسارة الليرة لأكثر من 98.75% من قيمتها؛ مقارنة ببداية العام 2011، أي قبل بدء الأزمة السورية؛ التي فقدت معها البلاد جلَّ مقدراتها المالية والاقتصادية، وتوجه معظم الإنفاق العام نحو الاستهلاك والإنفاق العسكري؛ على حساب تراجع الانفاق الاستثماري والإنتاجي، مما كان من شأنه أن يخلق ديناميكية ذاتية لزيادة معدلات التضخم وتهاوي قيمة الليرة، التي باتت تفقد أجزاء متلاحقة من قيمتها بشكل متواتر.

فبالمقارنة مع بداية العام الحالي، تكون الليرة قد فقدت 30% من قيمتها تقريباً خلال شهرين فقط بعد أن كان وسطي سعر الصرف، خلال شهر يناير/كانون الثاني 2021، 2980 ليرة للدولار الواحد؛ أما اليوم، فقد تجاوز سعر الصرف 4250 ليرة للدولار الواحد. وبالمقارنة مع نفس الفترة من العام 2020، تكون الليرة قد فقدت نحو 75% من قيمتها أي يكون معدل التضخم خلال عام واحد قد وصل إلى 400%، بمعنى أن كل سلعة تضاعف سعرها 4 مرات بين منتصف مارس/آذار 2020 ومنتصف مارس/آذار 2021، الأمر الذي يدفع بالقدرات الشرائية لدى الأفراد نحو التآكل المستمر، مما يكون له انعكاسات سلبية واضحة على مستوى المعيشة وكمية السلع والخدمات التي يستطيعون تأمينها باتجاه تناقصها المستمر.

أربعة أسباب رئيسية وراء التهاوي الأخير لسعر صرف الليرة

منذ فبراير/شباط 2021، يشهد سعر صرف الليرة السورية انحداراً متسارعاً، وصل إلى مستويات قياسية، فقد تجاوز، 15 مارس/آذار، عتبة الـ 4250 ليرة للدولار الواحد الأمر الذي يترك حالة من التخوف لدى الناس نتيجة الارتفاعات الشاهقة في أسعار السلع والمواد الغذائية في الأسواق.

وخلال قراءتنا للواقع الحالي، يمكننا تبيان 4 أسباب رئيسية تقف وراء ذلك وهي:

• تلاشي احتياطيات البنك المركزي من العملات الصعبة، وهذا يعني تراجع قدرته في إمكانية تثبيت سعر الصرف والمحافظة عليه. ويعود هذا الأمر بدوره لعدة أسباب أهمها تبخر الموارد المالية للدولة، نتيجة تجفيف معظم مصادر القطع الأجنبي لديها وخاصة بعد خروج أكثر من 90% من الثروة النفطية عن سيطرتها؛ والتي كانت تعد المورد المالي الأساسي للخزينة العامة، إضافة إلى العقوبات الغربية المستمرة على الحكومة السورية والمصرف المركزي، والتي تأزمت بعد قانون قيصر الذي فرضته الحكومة الأمريكية على سوريا. وبذلك فقدت الحكومة جل مقدراتها المالية وإمكاناتها الاقتصادية والتجارية مما لعب دوراً هاماً في إيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم.

• عمليات التمويل بالعجز المستمرة من قبل الحكومة السورية، وإطلاق موازنات تضخمية بأرقام هائلة وصلت العام الحالي إلى 8500 مليار ليرة (ما يعادل اليوم 2 مليار دولار فقط) مع عجوزات كبيرة فيها، وهذا يعكس بلا شك ضعف الإيرادات العامة للدولة واتباعها سياسة توسعية في الإنفاق العام، وخاصة الإنفاق الجاري، والذي يتم تمويله بالاستدانة من المصرف المركزي، بهدف ضخ كميات جديدة من العملة في السوق، لتغطية نفقات الموازنة الضخمة، خاصة وأن الاقتصاد الوطني يعاني من وطأة العقوبات الغربية والأمريكية، ويشهد تراجعاً كبيراً في النشاط الإنتاجي، وفي القدرة التصديرية، وركوداً عاماً في النشاط الاقتصادي بشكل عام، واقتصاره على القطاعات غير الإنتاجية داخل الاقتصاد الوطني؛ كشراء العقارات والمضاربات المالية، وتنشيط القطاع التجاري مقابل انخفاض حجم الاستثمارات داخل القطاعات الإنتاجية، مما أدى إلى انخفاض في حجم العرض الكلي من السلع والخدمات الأمر الذي سبب ارتفاعات جديدة في مستويات الأسعار، وشكل ضغطاً على شراء الدولار، فساهم في ارتفاع سعره مقابل الليرة، كما ساهمت مستويات التضخم العالية، نتيجة تدهور سعر الصرف، في تآكل النسبة العظمى من إيرادات الموازنة العامة للدولة، ووقوعها تحت عبء عجوزات مالية جديدة، أصبحت معها الحكومة عاجزة عن تمويل إنفاقها العام، مما أثر على مستويات المعيشة للمواطنين، وحدوث أزمات خانقة للعديد من المواد الرئيسية من الأسواق، وخاصة المدعومة؛ كالخبز والوقود، وتراجع في حجم ونوعية الخدمات العامة؛ وخاصة الصحة والتعليم.

• إصدار عملة جديدة من فئة الـ 5000 ليرة داخل اقتصاد يعاني ما يعانيه من صعوبات وأزمات تحت وطأة العقوبات الغربية، والتراجع الهائل في القطاع الإنتاجي مما أحدث ارتدادات اجتماعية ونفسية لدى الأفراد تجاه تزعزع الثقة بالعملة المحلية، خاصة وأن الأسعار يتم تقييمها بالدولار في الأسواق، ثم يتم تقريشها إلى الليرة. فلا ريب أن الإصدار النقدي الجديد تسبب بتراجعات جديدة في قيمة العملة المحلية، نتيجة زيادة حجم الطلب الكلي، الذي نجم عن زيادة العرض النقدي، أمام عجز الاقتصاد الوطني عن تلبية احتياجات الأسواق من السلع والخدمات والمنتجات، وخاصة الاستراتيجية منها، والاعتماد المستمر على الاستيراد، مما ساهم في ارتفاع معدلات التضخم، وأثر مباشرة في قيمة الليرة، ودفع بسعر صرفها نحو التهاوي من جديد الأمر الذي ينعكس ولا شك ارتفاعاً في مستوى الأسعار، ويقلل من القدرات الشرائية للأفراد، ويدفع بدخولهم نحو التآكل، وبالنتيجة انخفاضات أكبر في مستويات المعيشة.

• حالة شبه الجمود في نظام لبنان المصرفي، واشتداد حدة الأزمة المالية فيها، مما تسبب في تهاوي سعر صرف الليرة اللبنانية من جديد إلى نحو 12 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد. ولطالما كانت المصارف اللبنانية تشكل الملاذ الآمن للمودعين السوريين، شركات وأشخاصاً، لإيداع أموالهم بالقطع الأجنبي فيها.

وخلال سنوات الأزمة ونتيجة للعقوبات الاقتصادية على الحكومة السورية، شكلت السوق المصرفية اللبنانية الوسيط الأهم للتجار والمستوردين السوريين؛ ولإتمام صفقاتهم التجارية والمالية مع الخارج، وبذلك شكلت متنفساً حقيقياً للاقتصاد السوري ولتجارته الخارجية. ولكن مع استفحال الأزمة المالية، فرضت المصارف اللبنانية قيوداً شديدة على الحصول على الدولار وسحوباته، مما تسبب بأزمة مالية حقيقية للتجار السوريين الذين لم يعودوا من خلالها قادرين على مواصلة أنشطتهم الاقتصادية والتجارية، وتهريب البضائع إلى سوريا، مما تسبب في ضغط كبير على الطلب على الدولار في السوق المحلية، التي تحتاج يومياً ما يقارب 15 مليون دولار لتغطية المستوردات الأمر، الذي ساهم بشكل واضح في ارتفاع سعره، وبالتالي تدهوراً في قيمة الليرة السورية، فضلاً عن أن المصارف اللبنانية، وبعد إقرار قانون “سيزر”، باتت تتخوف من التعامل مع التجار السوريين؛ أو قبول إيداعاتهم، خشية وقوعها في قائمة العقوبات الأمريكية.

تهاوي سعر الصرف سيرفع من معدلات الفقر

يعد الشخص فقيراً إذا قلّ دخله عن مستوى معين يسمى بخط الفقر، الذي حدده البنك الدولي بـ 1.9 دولار يومياً. كما يمكن الاعتماد على بيانات الاستهلاك لتحديد نسبة الفقراء، فجميع الأشخاص الذين يخصصون أكثر من 60% من دخلهم لتأمين الحاجات الاستهلاكية الأساسية لهم يعتبرون فقراء.

أما الأشخاص الذين لا يستطيعون تأمين احتياجاتهم من المواد الغذائية أو يحصلون على أقل من 1.9 دولار يومياً كدخل، فهم يعيشون تحت خط الفقر، ويتم تصنيفهم تحت مسمى حالة الفقر المدقع.

وبالحساب وفق أسعار الصرف (1 دولار = 4250 ليرة)، يعتبر الشخص فقيراً إذا قل دخله عن 8075 ليرة يومياً. وتعد الأسرة المؤلفة من خمسة أشخاص فقيرة إذا قل مدخولهم عن 1211000 ليرة شهرياً.

من هنا يمكننا القول؛ ووفقاً لوسطي الرواتب والأجور لدى الإدارة الذاتية والمقدرة بـ 350000 ليرة، أن هذا يعني أنه يجب أن تتضمن الأسرة الواحدة المؤلفة من 5 أشخاص أكثر من 3 عاملين حتى تعيش عند خط الفقر. أما الأسر التي يعيلها شخص واحد؛ وعلى فرض أن مدخوله الشهري يبلغ 600000 ليرة سورية فتبلغ مقدار الفجوة الاستهلاكية لديها 611000 ليرة.

وهذا يؤكد أن الارتفاع الكبير في أسعار السلع والمواد الحياتية اليومية، سيؤدي إلى عدم تمكن الأسر من تأمين مستلزماتهم الأساسية، وخاصة الحاجات الرئيسية من الطعام والسكن واللباس ونفقات الصحة والتعليم، فضلاً عن الاستغناء عن العديد من السلع والمواد الغذائية التي كانت تعتبر صديقة المائدة اليومية.

كما أن التضخم الحاصل نتيجة تهاوي سعر صرف الليرة، سيؤدي إلى تآكل القدرات الشرائية للمواطنين، وتآكل مداخيل الأسر بشكل مباشر، ويتسبب بتراجعات واضحة في قدراتها الشرائية، مما سيزيد من أعداد الفقراء بكل ما تتضمنه حالة الفقر من كوارث اقتصادية واجتماعية، قد تتسبب في خلخلة البنيان المجتمعي على مختلف الصعد، وتزيد من نسبة التخلف والجريمة فيه. فضلاً عن أن العديد من الأسر؛ وخاصة تلك النازحة، ستضطر تحت وطأة الغلاء الفاحش في الأسعار والارتفاع الكبير في رقم تكاليف الحياة؛ إلى الدفع بأبنائها الصغار نحو سوق العمل ليساعدوهم على تأمين متطلبات معيشتهم، وذلك على حساب تركهم للمدارس والتعليم، الأمر الذي سيترك آثاراً خطيرة على مستقبلهم اقتصادياً واجتماعياً.

بالنتيجة، إذا ما استمر تهاوي سعر الصرف بهذه الوتيرة المتسارعة، فإنه كفيل بإيصال معدلات التضخم إلى مستويات مخيفة، ومن المؤكد أنها ستقود المجتمع إلى منعطفات اقتصادية واجتماعية أخطر بكثير مما نشهده الآن، فتزايد معدلات الفقر والبطالة، وتراجع القدرة على التعليم، وفقدان أسس ومقومات التنمية المستدامة، ستلحق ببنيان المجتمع الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي آثاراً سلبية خطيرة على مستقبله ومستقبل أبنائه.

المصدر: مركز الفرات للدراسات.

مصدر الصور: العربية – العربي الجديد.

موضوع ذا صلة: أزمة المحروقات السورية بين العقوبات والسياسات