يتجاوز عمر حلف شمال الأطلسي – الناتو حالياً 7 عقود من الزمان، حيث إن هذا الحلف – الذي تأسس في أبريل/نيسان العام 1949 (كحلف دفـاعي) – مرّ بمجموعة كبيرة من التّحديات، خصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفيتي، وانهيار “حلف وارسو”، يوليو/تموز 1991.
خلفية موجزة
إذا أردنا أن نعـطي خلفية موجزة عن تطوّر العلاقات بين حلف الناتو وروسيا الاتحادية، فــإن ذلك يتطلب التركيز على الجوانب أو المراحل الرئيسية التالية:
1. “مجلس تعاون شمال الأطلسي”: تأسست العلاقات بين حلف شمال الأطلسي – الناتو وروسيا العام 1991، في إطار “مجلس تعاون شمال الأطلسي”. وجاء إنشاء هذا المجلس كخطوة لإيجاد علاقة رسمية مع دول شرق ووسط أوروبا، وبدأ التوجه في قمة لندن، يوليو/تموز 1990، بدعوة حكومات الاتحاد السوفيتي السابق وتشيكوسلوفاكيا، والمجر، وبولندا، وبلغاريا، ورومانيا لإقامة علاقة دبلوماسية منتظمة مع الحلف. وفي نوفمبر/تشريت الثاني 1990، وقّع الحلفاء وهذه الدول إعلاناً مشتركاً في باريس أكد على أنهم لم يعودوا ينظرون إلى بعضهم البعض كأعــداء. وفي 20 ديسمبر/كانون الأول 1991، عقد المجلس اجتماعه التأسيسي بمشاركة 25 دولة، هي دول الحلف الـ 16 وممثلي دول شرق ووسط أوروبا والبلطيق. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي – الذي جرى في نفس اليوم – توسعت العضوية في المجلس، لتشمل جميع دول الاتحاد السوفيتي السابق. وكان المجلس يركز بالأساس على القضايا ذات الطابع السياسي والأمني، وبدأت لجان متعددة تنشط في ميادين حفظ السلام، وقضايا التخطيط العسكري والدفاع، ودعم التحولات الديمقراطية في دول شرق ووسط أوروبا.
2. الشراكة من أجل السلام: جاءت سياسة ” الشّراكة من أجل السلام” في اجتماع وزراء خارجية الحلف في ألمانيا، أكتوبر/تشرين الأول 1993، وهو مقترح توفيقي بريطاني لمبادرة أمريكية، وتبنى مؤتمر قمة الحلف ببروكسل الاقتراح، يناير/كانون الثاني 1994، ويمثل خيار الشراكة محاولة للتعامل مع القضايا الرئيسية ذات الصلة بالتوسع، والموقف من روسيا الاتحادية؛ ولذلك، كان من أهـدافه تحقيق الشفافية في التخطيط والإنفاق العسكريين، وتأكيد السيطرة المدنية على القوات المسلحة. ويتضح من غايات تلك الشراكة أن دول وسط وشرق أوروبا ليست كلها مرشحة للعضوية في الحلف، وأن المرشح الأبعد فرصة هو روسيا، مما يعني أن الحلف ما يزال يعتبرُها مصدراً للتهديد. ورغم أن “الشراكة من أجل السلام” نشأت في إطار “مجلس تعاون شمال الأطلسي”، إلا أن العلاقة بينهما ظلت غير واضحة، وأدى بدء برنامج الشراكة لتقلص الاهتمام بالمجلس، لا سيما بعد التعامل مع هذه الشراكة باعـتبارها بوابة العـبور إلى عـضوية الحلف.
روسيا وتوسيع عضوية الحلف
يقصد بتوسيع حلف الناتو “عملية ضم دول جديدة كأعضاء إلى الحلف”. وتحدد عملية الانضمام إلى الحلف عن طريق المادة 10 من معاهدة الحلف، والتي تسمح فقط بضم “دول أوروبية أخرى”، ومن خلال اتفاقيات لاحقة. ويجب على الدول الراغبة بالانضمام تحقيق شروط معينة، وإكمال عملية متعـددة الخطوات، تتضمن حواراً سياسياً وتكاملاً عسكرياً.
وقد تذمرت روسيا من اقتراب الحلف من تُخُومها المُلاصقة، أو مجالها الحيوي، في ظل وضع دولي مُضطرب، كان من ملامحه انهيار “حلف وارسو”؛ وبالتالي، لم يعد لروسيا خيارات لمُوازنة خطط الناتو حول توسيع عُضويته. لذلك، فلا بد من مُواجهة التوسيع بخيارات قادرة على احتواء آثاره على الأمن الروسي، ومن بينها تحسينُ القُدرات العسكرية الروسية، وتطوير العقيدة العسكرية. ومن جانبها، فإن دول الحلف كانت حذرة من أن يؤدي التوسيع إلى توتر العلاقات بين روسيا والحلف، مما سيترتب عليه –حسب بعض الآراء – تمحور روسيا على ذاتها، وسيكون البُعد العسكري في هذا الجانب هو السائد؛ ولهذا، كان من مصلحة الحلف وروسيا ودول شرق ووسط أوروبا أن يتحقق تفاهـم وتعاون بين الحلف وروسيا في المجالات الأمنية على وجه التحديد.
كانت الحاجة إلى تفادي إثارة عداوة روسيا واضحة أيضاً في الطريقة التي تم من خلالها توسيع حلف الناتو على الصعيد العسكري (كما ذكرت مجلة الناتو). فمنذ العام 1996، أعلن الحلفاء أنه “لم يكن في نيتهم، ولم يكن لديهم أي مخطط، ولا أي سبب لنشر أسلحة نووية على أراضي الأعضاء الجدد”، في ظل الظروف الجديدة. وتم إدراج هذه التصريحات ضمن الوثيقة التأسيسية بين حلف الناتو وروسيا للعام 1997، جنباً إلى جنب مع مراجع مماثلة بخصوص قوات قتالية وبنية تحتية جوهرية. وكان من المفترض من هذه المقاربة العسكرية “اللينة” – حسب وصف المجلة – حيال عملية التوسيع أن ترسل رسالة إلى روسيا، مفادها بأن الهدف من توسيع حلف الناتو ليس “تطويق” روسيا عسكرياً، وإنما دمج أوروبا الوسطى والشرقية ضمن فضاء الأطلسي الأمني.
علاقات روسيا مع حلف الناتو فى الوقت الحالي
قالت مجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية “إن العلاقات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي أصبحت معقدة ومضطربة، وأنَّها تتخذُ مساراً جديداً يجبُ على كلا الطرفين الالتفاتُ إليه؛ لتجنب مُواجهة عسكرية مُباشرة قد تندلع بصورة غير مُتوقعة”. وتُضيف المجلة، في تقرير لها ديسمبر/كانون الأول 2020، إن الوضع الأمني في أوروبا وصل إلى أدنى مُستوياته خلال 3 عُقود، مُشيرة إلى أنه منذ العام 2014 أصبحت كل من روسيا ودول الناتو تُنفذُ تدريبات برية وبحرية وجوية في نطاقات قريبة جداً، ينتُج عنها أوضاعاً عسكرية خطيرة في بعض الأحيان، وتابعت “في بعض الأحيان تكُون الأمور بين الطرفين على وشك الخرُوج عن السيطرة، خاصةً في ظل انتهاء بعض الاتفاقيات العسكرية الخاصة بالحد من التسلح التي يرجعُ تاريخها إلى حُقبتي الثمانينيات والتسعينيات، إضافة إلى توقف بعض خُطوط الاتصال التي كانت قائمة بين الطرفين، التي تم إنشاؤهـا من أجل تخفيف حدة التوتّر، ومنع تسبّب أية أخطاء في اندلاع مُواجهة عسكرية”.
وعلى الصعيد الرسمي، صرَّح نائب وزير الخارجية الروسي، ألكسندر جروشكو، مارس/آذار 2021، بأن “العلاقات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي في أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة، فجميع الاتصالات توقفت عمليا بين الطرفين.. من الواضح أن الحلف لم يكن قادراً على التكيف مع الظروف الأمنية الجديدة، وعاد من أجل بقائه إلى افتراضات الحرب الباردة، والحماية من تهديدات الشرق”. وعلى حد قوله “تم إنهاء كل تفاعل عملي مع روسيا، حتى في تلك المجالات التي قدمت فائدة أمنية واضحة لجميع أعضاء مجلسي روسيا والناتو.”
وأعلنت وزارة الخارجية الروسية، أبريل/نيسان 2021، أن موسكو “قد تعزز وسائلها الخاصة بالتجاوب مع التهديدات الناجمة عن خطط الناتو لإنشاء ترسانة من الصواريخ الأرضية متوسطة وقصيرة المدى.” وقالت المتحدثة ب‘سم الوزارة، ماريا زاخاروفا، في بيان “سنستمر في متابعة الخطوات العملية المتعلقة بإنشاء ترسانة من الصواريخ الأرضية متوسطة وقصيرة المدى من قبل الأمريكيين وحلفائهم في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ.. لا يعني ذلك إطلاقا أننا نغلق الباب أمام الحوار ونحكم إغلاقه، لكننا لا نستبعد أن تجد روسيا نفسها مضطرة في الظروف الراهنة لتركيز جهودها على تنفيذ الإجراءات الخاصة بالتجاوب العسكري التقني على التهديدات الصاروخية الناشئة.”
ولفتت زاخاروفا إلى تصريحات متكررة يصدرها ممثلو البنتاغون، في الأسابيع الأخيرة، حول ضرورة اتخاذ خطوات عملية للإسراع في نشر صواريخ أرضية في مختلف مناطق العالم “فيما تم تحديد أن تكون مهمتها الرئيسة على أرض أوروبا هي إصابة وسائل الدفاع الجوي، وما سمي أحداث ثغرات في دفـاعات العدو في ظروف نزاع (محتمل) مع روسيا”.
وأشارت زاخاروفا إلى أن القادة العسكريين الأمريكيين والبريطانيين “مهووسون” بمهمة تدمير “وسائل محض دفاعية مكلفة بضمان أمن روسيا الاتحادية، حال تعرضها لعدوان عسكري”، مؤكدة على أن موسكو لا تتسلم إشارات واضحة بهذا الخصوص من الإدارة الأمريكية الجديدة، ولا من معظم حلفاء واشنطن في الناتو، بينما تبقى كل المبادرات الروسية الهـادفة إلى إزالة الشواغل المتراكمة لدى الطرفين في المجال الصاروخي “بلا أي رد بناء”.
خلاصة القول، إن روسيا الاتحادية قلقة من بعض مساعي الحلف إلى التوسّع والنشاط في مناطق نفوذهـا ومجالها الحيـوي باعتبار أن ذلك يهدد أمنها القومي، وأن أي نشاط من هذا النوع إنما يستهدفُ في الحقيقة روسيا الاتحادية، كالدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا الشرقية؛ وحتى إن بدت هناك ملامح للتّعاون العسكريّ بين الطرفين – روسيا والحلف، فإن ثمة توجساً روسياً من توجهات الناتو حولها (كما أسلفتُ).
لذلك، تشير روسيا دائماً إلى أنها قادرة على مواجهة أي خطر من هذا النوع قد يهدد أمنها، حيث أعلنت أن نظام الصاروخ “إسكندر”، في منطقة كاليننغراد، شكّل استجابة لتحديث مُنشآت الدفاع الصاروخي الأمريكية في أوروبا الشّرقـية. كما صرّح الرئيس فلاديمير بوتين (العام 2018) بأن بلاده “تمتلك أسلحة تفوق سُرعة الصوت”، ولقد أخذ الناتو هذه التصريحات على محمل الجد. ورغم أن السلطات الروسية أعلنت مراراً أنها تفتح أبواب الحوار مع الغـرب، إلا أن وزارة الخارجية الروسية أعلنت مؤخراً أن موسكو “قد تعزز وسائلها الخاصة بالتجاوُب مع التهديدات الناجمة عن خطط الناتو لإنشاء ترسانة من الصواريخ الأرضية متوسطة وقصيرة المدى من قبل الأمريكيين وحُلفائهم في أوروبا وآسيا وغيرهما. لكل تلك الأسباب، وصِفت العلاقات الروسية مع حلف الناتـو بأنها “معقدة ومضطربة”.
المصدر: مجلة السياسة الدولية.
مصدر الصور: روسيا اليوم – أن.بي.سي نيوز.
موضوع ذا صلة: حلف الناتو في العام 2030.. والتكيف مع عالم جديد
خالد خميس السحاتي
كاتب وباحث – ليبيا