بدأت في نهاية العام 2020، أكبر حملة للتلقيحات في تاريخ البشرية ضد فيروس “كورونا” المستجد، حيث قدرت وكالة “بلومبيرغ” إجمالي ما تم توزيعه من لقاحات بنحو 304 ملايين في 114 دولة حول العالم، بمعدل تلقيح يبلغ 7.93 ملايين جرعة لقاح يومياً.

ثُلث تلك الجرعات (حوالي 90.4 مليون جرعة) لُقح بها المواطنون في الولايات المتحدة الأمريكية، في إطار برنامج أوبريشن وورب سبيد – Operation Warp Speed، الذي أطلقته الحكومة الأمريكية، 29 أبريل/نيسان 2020(1)، من أجل تسريع تطوير وتصنيع وتوزيع الأدوات التشخيصية والعلاجية ولقاحات فيروس “كورونا” المستجد.

لم تكن عملية التلقيح سريعة منذ بدايتها، بل تعثرت بشكل كبير في الأسابيع الستة الأولى، حيث حصل وقتها 7.8% فقط من الأمريكيين على جرعة واحدة من لقاحي “فايزر/بيونتك” أو “موديرنا”، بينما لم تتعد نسبة الذين أخذوا جرعتين من اللقاح خلال نفس الفترة 1.8%. لكن مع بداية شهر فبراير/شباط، ازدادت وتيرة التلقيح ووصلت لمعدل هائل يتجاوز 1.3 مليون جرعة لقاح يومياً، وتضاعف هذا المعدل خلال شهر مارس/آذار ليتجاوز 2 مليون جرعة يومياً؛ ليصبح بذلك أسرع برنامج للتلقيح الشامل ضد فيروس “كورونا” المستجد على مستوى العالم.

النسخة الصحية من هجوم “بيرل هاربر”

شبه الكثيرون التحدي الصعب الذي واجهته الولايات المتحدة في مواجهة فيروس “كورونا” المستجد بما حدث معها العام 1941، حينما نفذت مئات من الطائرات المقاتلة اليابانية هجوماً مفاجئاً على قاعدة بيرل هاربر الأمريكية بالقرب من هونولولو في جزيرة هاواي. وتسبب هذا الهجوم في تدمير وإتلاف ما يقرب من 20 سفينة حربية أمريكية، بما في ذلك 8 بارجات بحرية، وأكثر من 300 طائرة حربية، كما لقي نحو 2403 بحاراً وجندياً ومدنياً حتفهم في هذا الهجوم، فيما جُرح أكثر من 1000 آخرون. وفي اليوم التالي الذي أعقب هذا الهجوم، طلب الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت من الكونغرس إعلان الحرب على اليابان والمشاركة بشكل رسمي في الحرب العالمية الثانية.

ووضع الرئيس روزفلت وقتها، أهدافاً محددة لضمان النصر في الحرب، حيث تم تعبئة كل الموارد والجهود الإنتاجية والصناعية الموجودة في الولايات المتحدة للمشاركة في تجهيز الترسانة الحربية الأمريكية. وتمكنت الجهود الموحدة لمصانع البلاد من تصنيع 60 ألف طائرة العام 1942، و125 ألف طائرة و55 ألف دبابة العام 1943؛ حيث قامت شركة “كرايسلر” بتصنيع هياكل الطائرات، وصنعت شركة “جنرال موتورز” محركات الطائرات والدبابات، بينما أنتجت شركة “باكارد” للسيارات محركات “رولز رويس” للقوات الجوية البريطانية، وصنعت شركة “فورد” القاذفات بعيدة المدى. وفي العام 1944، استطاعت الولايات المتحدة أن تصنع عدداً هائلاً من الطائرات يفوق ما صنعه اليابانيون خلال الحرب بأكملها، من العام 1939 إلى العام 1945، مما مكّن الولايات المتحدة من احتلال اليابان. وبحلول نهاية الحرب، كان أكثر من نصف الإنتاج الصناعي في العالم يحدث في الولايات المتحدة.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بـ 5 سنوات ومع اندلاع الحرب الكورية، أقرت الولايات المتحدة قانوناً يسمى “قانون الإنتاج الدفاعي لعام 1950″، لإقامة بنية تحتية دفاعية ضخمة يمكن من خلالها تنظيم إنتاج الصناعات الهامة، لا سيما الصناعات الثقيلة مثل الحديد والتعدين، وكذلك التحكم في الأجور والأسعار. ومنذ العام 1950، أدخلت العديد من التعديلات على نص القانون، وفُعل أكثر من 50 مرة، آخرها خلال مواجهة جائحة “كورونا” المستجد.

عملية وارب سبيد – Operation Warp Speed

تسبب وباء “كورونا” المستجد في عدد قياسي من الإصابات والوفيات داخل الولايات المتحدة، حيث تخطى عدد الوفيات حاجز النصف مليون، وهو عدد ضخم يفوق إجمالي القتلى الأمريكيين خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية وحرب فيتنام مجتمعة، بينما وصل إجمالي من أصيبوا بالفيروس نحو 29 مليون أمريكي، وفقاً لبيانات وكالة بلومبيرغ بتاريخ 1 مارس/آذار 2021.

يأتي هذا الرقم الهائل من الوفيات والإصابات على الرغم من خطة الطوارئ الوطنية التي أعلنها الرئيس السابق للولايات المتحدة، دونالد ترامب، في اليوم التالي لإعلان فيروس “كورونا” جائحة عالمية (11 مارس/آذار 2020). وشملت الخطة توفير تمويل قدره 50 مليار دولار لمواجهة انتشار الفيروس في الولايات المتحدة. وتم أيضاً الإعلان عن عدد من الإجراءات الاحترازية، مثل وقف حركة السفر مع أوروبا، والتي كانت وقتها بؤرة لتفشي “كورونا” المستجد.

كما مُنح القطاع الصحي سلطات واسعة النطاق من أجل توفير أقصى قدر من المرونة لمقدمي خدمات الرعاية الصحية خلال الاستجابة للفيروس، وشملت تلك السلطات: التنازل عن بعض متطلبات الترخيص الفيدرالية، ورفع قيود الأعداد المحددة للأسرّة ومدد الإقامة داخل المستشفيات، وكذلك السماح بجلب المزيد من الأطباء من الخارج للعمل داخل المستشفيات. لكن رغم ذلك استمرت وتيرة الإصابات والوفيات الناتجة عن الفيروس، مما استدعى ضرورة إطلاق برنامج “أوبريشن وورب سبيد”، في 29 أبريل/نيسان (2020)، لتطوير آلية المواجهة الأمريكية ضد الجائحة.

يتخذ برنامج “أوبريشن وورب سبيد” نفس المنهجية العملية التي اعتمدتها الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية، من أجل الاستغلال الأفضل لكافة الموارد المتاحة للسيطرة على الجائحة، وتم بناؤه بالاعتماد على أربعة مبادئ رئيسية:

• وضع هدف واضح يتم إنجازه وفقاً لجدول زمني محدد.
• تعبئة القدرات الصناعية والإنتاجية لأفضل الشركات المصنعة للأدوية، بما في ذلك الشركات الخاصة والحكومية.
• تفعيل قانون الإنتاج الدفاعي، لمنح الأولوية لتصنيع المواد الخام الدوائية والمستلزمات الطبية اللازمة خلال تطوير الأدوات التشخيصية والعلاجية ولقاحات فيروس “كورونا”.
• استخدام السلطة الفيدرالية لتوجيه الجهود التصنيعية للشركات الخاصة، وليس الإدارة التفصيلية لها، وهو ما ساهم بشكل كبير في تطوير لقاح ضد كورونا في زمن قياسي.

نتائج خطة التلقيح الشامل الأمريكية حتى الأول من مارس/آذار 2021

انطلقت خطة التلقيح الأمريكية منتصف شهر ديسمبر/كانون الاول 2020، بالاعتماد على 400 مليون جرعة لقاح، نصفها من لقاح “فايزر/بيونتك” والنصف الآخر من شركة “موديرنا”، وذلك بعد حصولهما على الترخيص بالاستخدام الطارئ من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية. ولتحقيق مناعة القطيع ضد الفيروس، تم التخطيط لتلقيح 230 مليوناً من أصل 260 مليون أمريكي (حوالي 85% من المواطنين في سن الـ 16 فأكثر) بجرعتين من اللقاح.

ووفقاً للجدول الزمني المُعلن وقتها، كان من المفترض أن يتم تلقيح 20 مليون أمريكي قبل نهاية العام 2020، ولكن بسبب تواقت عملية التلقيح مع موسم الأعياد والميلاد، لم يتم تلقيح سوى 3 ملايين مواطن أمريكي فقط. وأثار هذا المعدل البطيء من التلقيح حفيظة العديد من المواطنين والسياسيين في الولايات المتحدة، وحدث هذا بالتزامن مع انتهاء عهد الرئيس ترامب، واستلام الرئيس جو بايدن للحكم، الذي أعلن فور توليه المنصب عن خطة زمنية جديدة للتلقيح ضد “كورونا”؛ تتضمن تلقيح 100 مليون مواطن خلال 100 يوم، بمعدل مليون مواطن يومياً.

استطاعت الولايات المتحدة أن تحسن من وتيرة عملية التلقيح مع بداية شهر فبراير/شباط، وارتفعت معدلات التلقيح اليومية لتصل إلى 2.15 مليون أمريكي يومياً بحلول شهر مارس/آذار (2021). وحتى كتابة هذا المقال، يبلغ عدد الذين تلقوا جرعة واحدة من اللقاح 58.9 مليون أمريكي، أي حوالي 17.7% من إجمالي السكان، فيما يصل عدد من تلقوا جرعتين من اللقاح 30.7 مليوناً، ما يمثل 9.2% من السكان.

كما أُعلن مؤخراً، عن اعتماد لقاح “جونسون آند جونسون” آحادي الجرعة بفعالية تصل إلى 66% ضد فيروس “كورونا”، ليصبح ثالث لقاح يُرخص له بالاستخدام الطارئ في الولايات المتحدة، لكنه أقل تكلفة من لقاحي “فايزر/بيونتك” و”موديرنا”، فضلاً عن سهولة شروط تخزينه داخل الثلاجات العادية. كذلك أبرمت الولايات المتحدة عقوداً جديدة لشراء 200 مليون جرعة إضافية من لقاحي “فايزر/بيونتك” و”موديرنا”، ليصل إجمالي اللقاحات إلى 600 مليون جرعة، بالإضافة إلى ملايين الجرعات المتوقع شراؤها من لقاح “جونسون آند جونسون”، ما يرجح استقرار إمدادات اللقاح في الولايات المتحدة بما يغطي التلقيح الشامل لكافة الأمريكيين.

ووفقاً لتقرير نُشر من قبل معهد المقاييس الصحية والتقييم بجامعة واشنطن، انخفضت الإصابات الجديدة بفيروس “كورونا” المستجد داخل الولايات المتحدة بشكل كبير، يُقدر بنحو 50% منذ منتصف شهر يناير/كانون الثاني 2021. ورجح العلماء هذا الانخفاض بعاملين رئيسيين: الأول استمرار زيادة معدلات التلقيح ضد “كورونا”، والثاني هو تراجع موسمية الفيروس مما يساعد على انخفاض احتمالية انتشاره. ومع انخفاض الأعداد، بدأت عدة ولايات في تخفيض الإجراءات الاحترازية المفروضة. على سبيل المثال إعادة ولاية نيويورك فتح السينمات مرة أخرى، كما ألغت ولاية تكساس القرار الإلزامي بارتداء الكمامات.

مع ذلك، تواجه الإدارة الأمريكية في الوقت الحالي، انتقادات شديدة فيما يخص التوزيع العادل للقاحات، بالأخص بين الأمريكيين السود؛ حيث تفيد بيانات مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها CDC، أن 5.4% فقط من جرعات اللقاح التي وزعت خلال الشهر الأول من حملة التلقيح، تلقاها أمريكيون من الأقلية العرقية السوداء، مقارنة بـ 60.4 % من البيض، و11.5% من ذوي الأصول اللاتينية، و6% من ذوي الأصول الآسيوية، هذا بالرغم من أن معدل الوفيات جراء فيروس “كورونا” بين الأمريكيين السود هو ضعف المعدل بين البيض، وفقاً للسلطات الصحية الأمريكية.

العنوان الرئيسي: “عسكرة المواجهة مع كوفيد – 19: الولايات المتحدة تواجه الوباء بقوانين الحرب العالمية الثانية”

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

الهوامش:

(1) بحسب المعلومات، تم إيجاد البرنامج في 15 ماير/أيار 2020. في هذا الخصوص، راجع موقع وزارة الدفاع الأمريكية (بند Overview) على الرابط التالي:
https://bit.ly/3fstPHR

مصدر الصور: روسيا اليوم – سي.إن.إن عربية.

موضوع ذا صلة: ترامب وسياسة الفشل في إحتواء وباء “كورونا”

ألاء نصار

باحثة ببرنامج السياسات العامة في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية – مصر