أحمد دياب
يمثّل إعلان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، سحب جميع قوات بلاده من أفغانستان بحلول سبتمبر/أيلول 2021، في رأي العديد من المحللين، “انتصاراً استراتيجياً” لباكستان. فمن المعروف أن طالبان كانت من صُنْع المؤسسة الأمنية – العسكرية الباكستانية؛ فخلال الحرب الأهلية الأفغانية في تسعينيات القرن الماضي، دعم الجيش الباكستاني مجموعة من المقاتلين الشباب الذين عرفوا فيما بعد بـ “طالبان” (الطلاب)، لاكتساح الفصائل الأخرى، وتأسيس حكومة في كابول باتت تسيطر على نحو 90% من البلاد (1996 – 2001).
وحين وقَّعت واشنطن اتفاقية الانسحاب مع طالبان، أواخر فبراير/شباط 2020، كانت الأجواء في بعض الدوائر الباكستانية أشبه ما تكون بالاحتفال المفتوح، وغرَّد وزير الدفاع الباكستاني السابق، خواجة محمد آصف، بصورة اللقاء بين وزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو، ونائب رئيس حركة “طالبان”، ملا عبد الغني برادار، مُعلقاً في نبرة انتصار “قد تكون القوة معك، لكن الله معنا”.
مكاسب باكستان من الانسحاب الأمريكي
ربما تكون باكستان أكبر مستفيد من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان؛ فبالنسبة للمؤسسة العسكرية الباكستانية، يُحقق لها الانسحاب الأمريكي أمنية سعت إليها منذ عقود، وهي مشاهدة خروج قوة عظمى أخرى من الفناء الخلفي للجيش الباكستاني. وقد تنبأ رئيس الاستخبارات العسكرية الباكستانية الراحل، حميد غول، بذلك في مقابلة تلفزيونية قديمة، قائلاً إن “التاريخ سيسجل أننا انتصرنا في أفغانستان على الولايات المتحدة، بمساعدة من الولايات المتحدة”.
ومن الواضح أن باكستان ستكون قادرة على زيادة نفوذها بشكل كبير في هذا البلد، والتقدم خطوة نحو تنفيذ استراتيجيتها القديمة المتمثلة في استخدامه كـ “عمق استراتيجي” لها في إطار عدائها الدائم للهند، إذ إن استيلاء طالبان على أفغانستان سيجلب قوة صديقة إلى السلطة في كابول، ويقلص نفوذ الهند التي تتمتع بعلاقات قوية مع حكومة أشرف غني.
وإذا أدى الانسحاب إلى عملية سلام تؤدي إلى تسوية، فإن باكستان ستكون من المستفيدين، إذ من المحتمل أن يستلزم ذلك حصول “طالبان” على حصة عادلة من السلطة. وإذا انهارت عملية السلام، فإن فرص سيطرة “طالبان” على السلطة في كابول ستكون أقوي، وهذا يعني تحول باكستان إلى لاعب إقليمي أكثر أهمية.
كما يُحقق الانسحاب الأمريكي من أفغانستان مكاسب دبلوماسية ومالية واستراتيجية لباكستان؛ إذ إنها تعتزّ بإحياء الدعم الأمريكي والاعتراف بدورها كمُيسِّر للتسوية والاستقرار في أفغانستان، ومن مصلحة إسلام أباد إثبات أن بإمكانها أن تكون شريكاً مسؤولاً في المنطقة.
مخاطر تواجِه باكستان عقب الانسحاب الأمريكي
رغم هذه المكاسب الاستراتيجية التي تصب في مصلحة إسلام آباد، إلا أن هناك العديد من المخاطر التي تواجهها لا تزال قائمة، وأهمها:
• إذا انحدرت أفغانستان باتجاه الفوضى، بعد الانسحاب الأميركي، فإنه من المؤكد أن باكستان ستتحمل الأعباء مرة أخرى، تماماً كما فعلت بعد تفكك أفغانستان في أعقاب انسحاب الاتحاد السوفييتي سابقاً، إذ تدفق حينها ملايين اللاجئين الأفغان عبر الحدود داخل المدن والقرى الباكستانية.
• عودة “طالبان” إلى الحكم إما من خلال حرب أهلية، أو عبر اتفاقية سلام تمنحها جزءاً من السلطة، ستؤدي إلى تشجيع التنظيمات والحركات المتطرفة داخل باكستان؛ فهذه الجماعات إلى جانب اعتناقها توجهات إيديولوجية مماثلة لتلك التي تتبناها “طالبان”، لا تخفي استعدادها لاستعداء السلطات الباكستانية.
• من المتوقع أن تجد القوات العسكرية والأمنية الباكستانية صعوبة أكبر في التعامل مع انفصاليي جيش تحرير بلوشستان، وإرهابيي “عسكر جنجفي” و”طالبان باكستان”، حيث يتمركزون في أفغانستان، ولكنهم يقومون بشن غزوات منتظمة على الأراضي الباكستانية.
• في ظل الأوضاع الصعبة التي تعيشها باكستان حالياً جراء التدهور الاقتصادي، والاضطرابات الاجتماعية، وصعود الحركات الإسلامية التي لا تزال الحكومة الباكستانية تصارع من أجل احتوائها، فإن باكستان قد تكون مهددة بتهديدات واضطرابات أمنية داخلية كبيرة، إذ إن عودة طالبان إلى السلطة ستمثل إلهاماً للجماعات الأخرى.
مقومات الدور الباكستاني المستقبلي في أفغانستان
في إطار الموازنة بين المكاسب والخسائر المشار إليها، يمكن القول إن الدور الباكستاني في أفغانستان، سيحظى بأهمية كبيرة من قبل الأطراف المختلفة في أفغانستان ودول الجوار، والولايات المتحدة قبلهم جميعا لعدة اعتبارات ومقومات مهمة، وهي:
1. رغبة باكستان في تحقيق السلام في أفغانستان: يشكل عدم استقرار أفغانستان عقبة كبيرة أمام تنمية جميع الدول المجاورة. وقد عانت باكستان كونها الدولة المجاورة (حدود طولها 2600 كلم)، وحليف الدولة الأمامية مع الولايات المتحدة، من خسائر بشرية تقدّر بـ 80 ألف قتيل، وخسائر اقتصادية قدّرت بنحو 250 مليار دولار أمريكي.
2. خصوصية العلاقة بين باكستان وأفغانستان: يتشارك البَلدان التضاريس نفسها (الجبال والأنهار) والثقافات والتقاليد واللغة والدين والنظام القبلي والمصير المشترك، وقد تعلمت باكستان درساً مريراً وخلصت إلى أن الحرب ليست خياراً. وهناك تحولاً ملموساً في سياسة إسلام آباد تجاه كابول، التي يبدو أنها أدركت أن وجود الجماعات المسلحة في المنطقة الحدودية مع أفغانستان قد يكون على حساب أمن الدولتين وليس على حساب أفغانستان وحدها، لذا فهي ستعمل على إنجاح عملية المصالحة في أفغانستان.
3. السلام الأفغاني يشكل مصلحة مشتركة بين باكستان والولايات المتحدة: لعبت باكستان دوراً إيجابياً في مفاوضات السلام الأفغانية، وأدّت دور الميسر لمفاوضات الدوحة. وقال وزير الدفاع لويد أوستن، في جلسة التثبيت في مجلس الشيوخ الأمريكي 19 يناير/كانون الثاني 2021، إن “باكستان شريك أساسي في أي عملية سلام في أفغانستان.. [وأنها] ستلعب دوراً مهماً في أية تسوية سياسية في أفغانستان”. والمعروف أن المبعوث الأمريكي الخاص لأفغانستان، زلماي خليل زاده، مستمر في منصبه، وهو يتمتع بعلاقات ممتازة مع ممثلي “طالبان” والقيادة العسكرية الباكستانية. ومنذ الغزو الأمريكي لأفغانستان قدمت واشنطن لإسلام آباد مساعدات اقتصادية وعسكرية بلغت قيمتها 33 مليار دولار.
4. عضوية باكستان في “الترويكا الموسّعة”: بدأت “الترويكا الموسّعة” عملها العام 2019، وهي تضم روسيا والصين والولايات المتحدة، وانضمَّت إليها باكستان لاحقاً. وقد لعبت الترويكا دوراً إيجابياً ملموساً في تسهيل المفاوضات بين واشنطن وطالبان، والتوقيع على “اتفاق الدوحة، 29 فبراير/شباط 2020. وخلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى الهند وباكستان في الفترة من 5 إلى 7 أبريل/نيسان 2021، أشار لافروف إلى أن تشكيل “الترويكا الموسّعة” يهدف إلى خلق ظروف مواتية لبدء مفاوضات السلام بين الأفغان، و”تعزيز المساعدة الدولية لأفغانستان في مرحلة ما بعد الصراع”.
وكان الرئيس بايدن – في خطابه بشأن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان – قد دعا شخصياً دول المنطقة إلى تخطيط مستقبل أفغانستان بعد الانسحاب، قائلاً إن بلاده ستطلب “من الدول الأخرى في المنطقة، بذل المزيد من الجهد لدعم أفغانستان، وخاصة باكستان، وكذلك روسيا والصين والهند وتركيا.. وجميعهم لديهم مصلحة كبيرة في مستقبل مستقر لأفغانستان”.
ورغم نجاح إسلام آباد في إبعاد نيودلهي عن مشاورات “الترويكا الموسّعة” حول أفغانستان في موسكو، 18 مارس/آذار 2021 بمساعدة بكين ودعم روسي، فإن التحسُّب لاحتمالات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان كان أحد الدوافع الأساسية للتهدئة بين إسلام آباد ونيودلهي مؤخراً، وفي الوقت نفسه تتمتع باكستان بعلاقات جيدة مع تركيا وإيران وهناك تقارب باكستاني ملحوظ مع روسيا، وشراكة استراتيجية مع الصين.
باكستان واحتمالات التسوية في أفغانستان
أعلنت “الترويكا الموسّعة”، 29 أبريل/نيسان 2021، خارطة طريق بالتشاور مع حكومة الرئيس غني وحركة “طالبان” بشأن كيفية المضي قدماً بشكل فوري للتوصل إلى تسوية سلمية لتحقيق “انتقال ثابت للوضع” سعياً لإنشاء “أفغانستان مستقلة وذات سيادة وموحدة وسلمية وديمقراطية ومحايدة ومكتفية ذاتياً”. وفي الواقع، يكاد يكون هذا الإعلان بمثابة وقف لـ “اللعبة الكبرى”، التي كانت تمثل استمراراً تاريخياً سلبياً يسهم في عدم الاستقرار في أفغانستان على مدى عقود.
وفي هذا السياق، يُثير هذا الإعلان (التوافق) ارتياحاً كبيراً في باكستان، لأنها باتت مطمئنة إلى وجود تسوية تفاوضية في أفغانستان يضمنها أعضاء مجلس الأمن الدولي. وفي الوقت نفسه، فإنه يزيح عن عاتقها ومسؤوليتها العبء الثقيل المتمثل في الحفاظ على هيكل سلطة جديد في كابول مرة أخرى.
وفي إطار هذا السيناريو الناشئ، ثمة ثلاثة احتمالات متوقعة أو ممكنة:
1. قد تصبح الحكومة الانتقالية أمراً لا مفر منه في كابول في مرحلة ما. ولن يكون ذلك سهلاً، لكن الجزء الجيد أنّه في مناخ بهذه الدرجة العالية من الالتزام الدولي، سيرتقي الأفغان إلى مستوى المسؤولية.
2. من المتصور أن تقترب حكومة الرئيس غني من نهاية الطريق. ومن غير المحتمل أن يكون لديه أو لدى دائرة زملائه الجرأة على تقويض “مدونة السلوك” التي يتم التوافق عليها بشكل مشترك من قبل ثلاث قوى عظمى وباكستان أيضاً.
3. من غير المحتمل أن تسعى أية دولة إقليمية رشيدة للعب دور “المُفسِد”، بهدف عرقلة خارطة الطريق التي تحمل تصريح القوى الكبرى الثلاث.
المصدر: مركز الإمارات للسياسات.
مصدر الصور: Medium – بي.بي.سي.
موضوع ذا صلة: قرار الانسحاب الأميركي من أفغانستان: دوافعه وتداعياته المحتملة