4. الإعلام والهوية والاقتصاد

رغم أن فكرة الاقتصاد تقوم أساساً على مبدأ الندرة، إلا أن النظرة الأشمل للمسألة الاقتصادية في أي بلد وفي أي زمن لا بد لها أن تؤكد على تلك السلع التي لا تنضب، عن الكنز الذي لا يفنى، عن قيم التواصل والتعاون والتكافل والحرية والعدالة والمعرفة، ذلك أن مسألة توزيع الثروات وزيادة مصادرها تصبح عديمة المعنى اقتصادياً ما لم تتجسّد وزيادة مصادرها وتنويع هذه المصادر، إنه اقتصاد المعرفة كما يراه مؤسّسو النهضة الحديثة في سنغافورة، بحيث يقوم الأساس الاقتصادي على نمو المعارف، وتطوير القدرة على حل المشكلات، لا على مجرّد تراكم رأس المال، حيث أن القوة المعرفية، قوة المدارس والمعاهد والجامعات تصبح أساس القوة الاقتصادية، وتصبح الوزارة الأهم في مرحلة النمو الاقتصادي وزارة التعليم لا وزارة الاقتصاد وإذا كان الاقتصاد التقليدي يقوم على الأرض والعمل ورأس المال، فإن اقتصاد المعرفة يقوم على العلم والمعرفة والتقنية، وهي موارد يجب أن يمتلك ناصيتها أهل البلد لا الخبراء والفنيون الأجانب، حيث آل مصير الإمبراطوريات القديمة التي اعتمدت على جهود العبيد المستجلبين من الخارج إلى الانهيار، كما أن التقنيات والمعارف التقنية هي التي تقود إلى إنتاج متطور وذي سعر قادر على المنافسة عالمياً، لان انعدام التقنيات والمعرفة باستخدامها سيرفع من أسعار السلع ويجعلها غير قابلة للمنافسة في السوق العالمية.(1)

أما إذا سادت الأمية الاقتصادية فسيسود معها ما نعته أحد الباحثين بأنه اقتصاد “الكزينوهات”، أي ذلك الاقتصاد الذي لا يقوم على تحقيق أي إنتاج أو تقديم أي خدمة، بل على المضاربة والقمار والمراهنات، وتجارة المحرمات والممنوعات، وفي ظل هذا النوع من الاقتصاد تتبادل الأيدي كميات ما هو موجود من ثروات، والتي لا بد لها أن تتآكل بمرور الزمن، دون أن يكون هناك مجال لإعادة إنتاج غيرها.(2)

أما النتيجة المترتبة على ذلك، فتتمثل بالضرورة في أن تتحول الدولة إلى دولة استقطاب اقتصادي تتراكم فيها الثروات بيد القلة، وتقبع الكثرة تحت خط الفقر، وتختفي الطبقة الوسطى أو تكاد، وهو ما يقود في نهاية المطاف إلى حركات واسعة من النزوح الاقتصادي نحو هوة الفقر والعوز بشكل يأتي موازيا للأنماط الأخرى من النزوح التي تنتج عن أوضاع سياسية أو اجتماعية أو حربية. إنه – بمعنى آخر- نوع من الهجرة غير الشرعية لفئات متعدّدة من الشعب نحو العدم الاقتصادي لكي يتحولوا إلىلاجئين في وطنهم، أمّا المحصلة النهائية لذلك كله فهي تعني انعدام أو صعوبة تحقيق الحوار بين مختلف الفئات الاقتصادية، واحتمال اندلاع حرب الجميع ضد الجميع، خاصة حين يسود الخوف والقلق، ويختل الأمن، وتتراجع قيم التضامن والتواد والتراحم، ويبحث الجميع عن فرص الخلاص الفردي – إن وجدت – ويسعى المتنفذون اقتصادياً إلى إحاطة أنفسهم بدوائر الحماية الأمنية فيمواجهة بحور الفقراء المتلاطمة الأمواج بالشكل الذي عبر عنه تيد تيرنر، مؤسّس شبكة “سي.إن.إن” الإخبارية الأمريكية، ذات مرة بالقول: “بعض أصدقائي يوظفون جيشاً من الحرس الشخصي خوفاً من تعرضهم للاختطاف”.(3)

وإذا ثبت عدم فاعلية انعزال الأغنياء عن محيطهم الاجتماعي، يكون السعي نحو أخد الجمل بما حمل نحو بلدان أخرى بعيدة أو قريبة، ليبقى أهل الحي المعدمون يواجهون أعوام الرمادة ببطون خاوية وأجساد تتضوّر أيام الحر والقر.

وهكذا يكون الفقر في الوطن غربة كما يقولون، لكن المال في الغربة لا يمكن أن يكون وطناً، خاصة إذا كان سحتاً حراماً منهوباً من أفواه الجياع، وقوت اليتامى والأرامل والمطلقات والعجزة. فمن الممكن أن تتعدّد الأوطان إذا قرر أهل المال الاستيطان واستبدال أو ازدواج الأوطان، لكنه من الناحية الوجدانية والاجتماعية يظل أول الأوطان يسكن الوجدان، مهما طال أو قصر الزمان، ومثلما تتعدّد الأهواء يمكن أيضاً أن تتعدد الهويات، لكنها لا يمكن لها أن تكون في منزلة واحدة، بل يكون لمختلف المنازل في القلوب منازل مختلفة على رأي المتنبي: “لك يا منازل في القلوب منازل”.

المعارف إذاً هي مفاتيح صنع الثروات، لكنه إذا غابت المعارف تغيب القدرات اللازمة من أجل تحقيق الإنتاج، وتوفير الخدمات، ويسود التنازع حول ما هو موجود أو موروث، من ثروات سواء كانت موارد مائية أو معدنية أو نفطية أو غير ذلك من الموارد، ويحتدم الصراع حول مسألة توزيع هذه الثروات الوطنية وكأنها غنائم حرب، وفي أغلب الأحيان تكون نتيجة الصراع متمثلة في استحواذ الأقوياء والمتنفذين على نصيب الأسد من الثروة، ولا يكون أمام الغالبية من أفراد الشعب سوى الرضا بالفتات، تماماً مثلما يحدث وفقا لشريعة الغاب؛ وحتى إذا تبدلت تلك الأوضاع الاستثنائية شيئاً ما نحو الإيجاب، فإن مبدأ الاستقطاب الاقتصادي يبقى قائماً، ذلك أنه عندما يرتفع منسوب مياه النهر أو البحر يرتفع مستوى جميع المراكب على سطحه، لكن كبيرها يبقى كبيراً، وصغيرها يبقى صغيراً.

هذه الوصفة تمثل بوابة التشظي والتأزم في ظل نظام لا اقتصادي؛ فلا هو نظام اقتصاد السوق الذي يسود فيه مبدأ صراع السوق ضد تدخلات الدولة، ولا هو نظام اقتصاد الدولة الموجه الذي يسود فيه صراع الدولة ضد السوق، لان ما يتبقى في هذه الحالة ليس أكثر من صراع السوق ضد الشعب؛ أي صراع التجار ضد المستهلكين الذي يدفع فيه المواطنون فواتير الأزمة الاقتصادية، أزمة الركود والتضخم والبطالة، أزمة اختفاء السلع والخدمات أو غلاء أسعارها، أو كلا الأمرين معاً.

وفي مثل هذه الظروف تتضخم المظالم والمطالب، ويخرج إلى الأضواء الإعلامية السياسيون العاجزون لنشر الأحلام الوردية عن حياة سعيدة كريمة تنتظر الشعب السعيد الكريم، إذا ما أتاح لهم فرصة التربع على كراسي السلطة حيث يتوهم هؤلاء السياسيون أنهم يديرون عجلة الاقتصاد، في حين أن الاقتصاد يبصق على وجوههم لأنه هو الذي يحكم سياساتهم، وليسوا هم الذين يحكمونه.(4)

وعندما تختل أسس المجتمع يحدث مثل هذا الإنفصام بين الاقتصاد والاجتماع، والسياسة، وإلى جانبه يحدث انفصام مماثل بين الاقتصاد والاجتماع، ذلك الإنسان الاقتصادي يتطلع إلى الموازنة بين البدائل التي أمامه من اجل أن يختار أفضلها من حيث المردود المادي عليه؛ فهو ينجذب إلى ما يراه الأفضل لإشباع حاجاته وتحقيق مصالحه، أما الإنسان الاجتماعي فهو يستنبطن القيم الاجتماعية التي تدفعه إلى الاختيار بين البدائل المتاحة في ضوء القيم السائدة، بحيث يتجسّد تناقض هذين الموقفين في حقيقة أن الإنسان الاقتصادي يسعى إلى تكييف سلوكه في ضوء الظروف المتغيرة، أمّا الإنسان الاجتماعي فهو يميل إلى التمسك بالقيم الاجتماعية رغم تغير الظروف.(5)

خلاصة ذلك أن الاختلالات والانفصامات التي يشهدها بنيان المجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ومعرفياً تمثل البيئة الخصبة لنمو الصراعات والنزاعات التي تشوّه الهوية الوطنية أو تفتتها، ويصبح اللاعبون الوحيدون في مسيرة إدارة دفة شئون المجتمع قلة احتكارية تتبادل الأدوار والمواقع تماماً مثلما يحدث في لعبة الورق حينما يتم إعادة نفس الكمية والنوعية من الأوارق في كل مرة من مرات اللعب!

أما اقتصاديات الإعلام في ظل هذه الأوضاع المتأزمة، فليست تلك الوسائل الإعلامية أكثر من أبواق مأجورة تضاجع مؤسّساتها كل من لديه المال والسلطات، ولابأس عندها من أن ترفعشعارات الوطن وإسمه لكي تهدم الوطن باسم الوطن، وتمحو الهوية باسم الهوية.

المراجع:

1. أنظر:
Ngiam Tong Dow. Dynamics of the Singaopre Success Story, Cengage Learning Asla, ltd., Singapre 2011, P.121, P.194 supra.
2. أنظر:
Noam Chomsky. Haben und Nichthaben, PhilosophieVerlagsgesellschaft, Bodenheim 1998, S.20.
3. أنظر:
Hans – Peter Martin / Harald Schumann. Die Globalisierungsfalle: Der Angriff auf Democratie und Wohlsltand. RowohltVerlag, Germany 1996, S.263.
4. أنظر:
Pierre Bourdieu. Die VerborgenenMechanismen der Macht. SchriftenZuPolitik und Kultur I, Hamburg, VSA-Verlag 1997, S.17.
5. أنظر:
JuergenHabermas. Faktizitaet und Geltung. BeitraegeZurDiskurstheorie des Rechts and des demokratischenRechtsstaats. SuhrkampVerlag, Frankfurt/Main 1994, S.410.

مصدر الصور: سبوتنيك – سي.أن.أن عربية

موضوع ذا صلة: المواطنة والمشاركة السياسية: الحالة الليبية(2/2)

أ. د. علي المنتصر فرفر

أستاذ الإعلام في جامعة طرابلس – ليبيا