5. الإعلام والهوية والقانون
ومثلما هو الحال بالنسبة للسياسة، فإن القانون يمثل تعبيراً عن علاقات، وليس تعبيراً عن أشياء يمكن توزيعها وامتلاكها، ولقد عبر عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر – منذ زمن – عن أن مسألة الإدماج الاجتماعي تتأتى من خلال هيمنة القانون، وهو ما يؤكد الجانب القسري للقانون. بيد أن عدداً من المفكرين المحدثين – مثل هابرماس ورولز – حاولوا تقديم رؤية قانونية للهوية تنبثق من مبدأ تقرير المصير، الذي يعني في هذا السياق أن الأفراد ليسوا مجرد أشخاص مطبقين للقانون، ولكنهم أدوات صانعة له، وفي ذلك محاولة لجعل الذين يصنعون التشريعات، وأولئك الذين توجه لهم التشريعات يحملون نفس الهوية، وذلك من أجل تأكيد فكرة أن القانون لا ينال الإدراك الاجتماعي والفهم والمشروعية إلا عندما يتواصل الناس حوله، أي أن التواصل حول القانون ضروري لوجود القانون نفسه.(1)
كل ذلك يأتي استمراراً للتحليلات التي سادت ما يعرف بعصر النهضة الأوروبية التي تجعل حرية الإرادة أمراً ضرورياً لوجود مبدأ العقد الاجتماعي الذي تحدث عنه جان جاك روسو، معتبراً أن تخلي الناس طواعية وبإرادتهم الحرة عن جزء من حرياتهم ضروري لإيجاد سلطة عامة مشتركة بينهم، ورغم الملاحظة الطريفة للمفكر الألماني إيمانويل كانط القائلة بأن القانونيين لا يزالون يبحثون عن تعريف لمفهوم القانون، إلا أنه – أي كانط – عمد إلى ربط مفهوم العقد الاجتماعي بمفهوم القانون، عندما أشار إلى أن العقد الإتحادي بين الأفراد يجعلهم يتخلون فيه عن الحرية التي لا ترتبط بأية نظم تشريعية – أي حرية بلا ضوابط، ويتحولون إلى وضعية جديدة تجعل حرياتهم مرتبطة بالنظم التشريعية التي يصنعونها بإرادتهم الحرة.(2)
وكما أشير إليه أعلاه فإن بعض المفكرين المعاصرين – مثل هابرماس ورولز – ينزعون إلى إضافة مبدأ إضفاء المشروعية على هذه القوانين من خلال جعلها بؤرة ومحوراً للحوار والتواصل المجتمعي، بمعنى ضرورة الانتقال بالسلطة التعاقدية التي تحدث عنها كل من روسو وكانط إلى سلطة تفاهمية عبر عمليات الحوار والتواصل، وفي ضوء جعل التواصل والحوار مبدأين أساسين للمشروعية يبرز دورالإعلام وجميع وسائل التواصل كأدوات أساسية للحوار المجتمعي، ورغم كل الحديث عن الإعلام كسلطة رابعة إلى جوار السلطات التقليدية الثلاث الأخرى: التشريعية والتنفيذية والقضائية، إلا أنه يتعين على المرء ألا ينسى أن هذه السلطة الرابعة تتأسّس وتعمل وفق الأسس والقواعد القانونية القائمة في المجتمع، وليست عنصراً دخيلاً يأتي من خارج تلك الأسس؛ بيد أن الأمر الجوهري في عمل وسائل الإعلام والتواصل يتمثل في العمل على تحطيم أي نزوع قد تلجأ إليه أي من السلطات الأخرى نحو إخفاء حقائق أو مسائل معينة أو التعتيم عليها أو ركنها في الزوايا المظلمة، أو كنسها تحت البساط، أي أنه بدلاً من حجب أي من الآراء والأفكار والمعلومات، تتولى هذه السلطة الرابعة عرض تلك الآراء والأفكار والمعلومات للحوار المجتمعي لكي يضمن الجميع أن يذهب الزبد جفاء ويمكث في الأرض ما ينفع الناس.
كل ذلك يأتي تأكيداً لفكرة أن الرأي العام ليس مجرد حاصل جمع الآراء الفردية داخل أي مجتمع من المجتمعات، ولكنه حاصل ضرب تلك الآراء الفردية؛ ذلك أن التفاعل المجتمعي الحر لا يعني بالضرورة أن 6 ملايين مواطن ليبي سيكون لهم 6 ملايين رأي مختلف، لأن مبدأ الحوار والتفاعل يعني ببساطة أن تتبلور هذه الآراء المتعددة في أطياف أو تيارات محددة من التوجهات، وهي التي يمكن لها أن تتمثل فيما يعبر عنه سياسياً بالأغلبية والأقلية.
أما الحلول السياسية التي تقدم في مثل هذه المواقف – أي مواقف الاختلاف والاستقطاب – لا يمكن لها أن تهدف إلى إلغاء الاختلاف والتنازع، بل منع أن يتحول أي منهما إلى عنف سواء كان عنفاً مادياً أو لفظياً؛ ومثلما سبقت الإشارة، فإن العنف أداة تدميرية في المقام الأول والأخير، ولا يمكن له أن يكون أداة بناء مهما كانت ظروفها وحالاتها.
وهكذا تحدث هابرماس عن أنه رغم الطابع القسري للقانون، إلا أنه من الممكن تحقيق ديمقراطية القانون من خلال جعله محوراً للحوار الاجتماعي، وبالتالي تحقيق الإنتقال من قوة القناعات المشتركة إلى سلطة الإدماج الاجتماعي القادرة على تجاوز كل أشكال السلطة القسرية الأخرى، ما عدا سلطة القانون.
أما الكلام عن سلطة القانون وحكم القانون وسيادة القانون فهذا لا يعدو معناه فكرة وجود نظام تحكم لا يقوم على الهيمنة الشخصية لأي فرد سواء أكان هذا الفرد شخصاً طبيعياً أو معنوياً، كما أن عدالة القانون تتمثل في غياب العسف القانوني، أي أن القاعدة القانونية تتم صياغتها وتحقيق توافق الناس حولها في ظل حجاب من عدم معرفة أي فرد كيف يمكن أن تؤثر هذه القاعدة القانونية فيه شخصياً.
إن سيادة القانون لا تلغي سيادة الشعب، لأن سيادة القانون تتعلق بالجانب التطبيقي للقانون فقط، ورغم أن العقوبات هي “الأسنان” التي “يعض” بها القانون، إلا أن القانون هو أداة ضبط قبل أن يكون أداة ردع، وهناك من القوانين ما يوضع على أمل ألا تستخدم نصوصها أبداً، وفلسفة العقوبات القانونية في مجملها لا تقوم على مبدأ إلحاق الضرر بالأفراد بقدر ما تقوم على محاولة السعي لجعل هؤلاء الأفراد الذين تصدر بحقهم تلك العقوبات أكثر إنسانية وارتباطاً بجسم المجتمع. وفي كل الأحوال، يحتاج القانون دوماً إلى أدوات غير قانونية لتطبيقه، فلا قانون بدون سلطة، ولا سلطة بدون قانون، ولا قانون مستقل بدون ديمقراطية معاشة؛ فالقانون يمثل أداة تنظيم للسلطة السياسية، والسلطة السياسية ذاتها ليست سوى نتاج لاستخدام الدولة للقانون.
كل هذه الاستنتاجات ترتبط أهميتها المجتمعية بحقيقة أن القانون هو أداة لنزع السلاح من المخالفين له، وجعلهم منعزلين مؤقتاً لكي يسعوا إلى نبذ السلوكيات غير القانونية والالتحام بجسد المجتمع من جديد، أي أن مبدأ المواطنة يعني أن القانون لا يحكم أشخاص هؤلاء المواطنين ولكنه يحكم سلوكهم؛ ومثلما يشير مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” مثلاً، فإن الإطار القانوني يجعل تصرفات المواطن الذي يشكل طرفاً فيه محكومة بشروط التعاقد الذي أبرمه بإرادته الحرة؛ فهو كمواطن ليس عبداً للقانون، ولكن تصرفاته خاضعة للمبادئ التي أقرها بنفسه.(3)
هذا لا يعني بالطبع أن القواعد القانونية جامدة لا تتغير، والبشر وحدهم هم الذين عليهم أن يعدلوا من سلوكياتهم لكي تتلاءم معها؛ ذلك أن التشريعات القانونية في أغلبها مسألة لا نهائية مفتوحة لأنها تأتي تعبيراً عن توافقات سياسية داخل الجسم التشريعي، الأمر الذي يجعل القانون أقرب إلى كونه ظاهرة مرنة قابلة للتغيير والتعديل والتطوير، بل وحتى أن يتم تجاوزها تماماً، أما النتيجة المترتبة على ذلك فهي تتمثل في أن مبدأ المراجعة والتدقيق والتصويب والتشذيب والالغاء قائمة دائماً بالنسبة للقاعدة القانونية وهو ما يعني قدرة الأفراد – الذين لا تعجبهم أية ترتيبات قانونية – أن يعملوا سياسياً وبشكل ديمقراطي من أجل الحصول على الدعم الكافي لتغييرها، وهذا السعي الجماعي لتجسيد الأوضاع القانونية أو تغييرها يعتبر من الأمور الحاسمة في تجسيد الهوية المشتركة للمواطنين المنضوين في إطارها، كما أن التنافس بين الفرقاء، بل حتى مظاهر الاختلاف والتنازع تساعد على بلورة الهوية المشتركة وتوطيدها طالما كان الخلاف والاختلاف والتنافس والتنازع من أجل تغيير البنى الهيكلية للمجتمع قانونياً أو غير ذلك في إطار الروح القانونية السائدة، وليس وفقاً لظروف الإقتتال والتناحر.
وربما يرجع ذلك الإصرار على إخضاع القوانين للحوارات المجتمعية إلى ظاهرة ما لاحظه الكثيرون من أن المجالس التشريعية المنوط بها إصدار القوانين من الممكن أن تتحول وظيفتها إلى ما يشبه وظيفة محرّر العقود، بحيث تجري خارج هذه المجالس المفاوضات والمساومات والتفاهمات والتوافقات والصفقات حول مختلف المسائل بين مختلف الأطراف التي تشكل هذه المجالس، ثم يأتي الجميع للجلوس تحت قبة البرلمان في جلسات “بروتوكولية” لتدوين ما تم الاتفاق عليه سلفاً.
وفي هذا الإطار، أطلق الزعيم الألماني البروسي أوتو فون بسمارك عبارته الساخرة التي تقول أن هناك شيئين يتعين على المرء استعمالهما دون أن يتساءل عن كيفية تجهيزهما، وهما النقانق والقانون، لأنه إذا عرف المرء تفاصيل الإجراءات التي قادت إلى وجود أي منهما، فأغلب الظن أن يستنكف المرء عن استهلاك النقانق واستعمال القانون؛ ولذلك، من أجل المحافظة على احترام المرء للقانون ولوجبة النقانق ولأولئك الذين قاموا بإعداد كل منهما، فمن الأفضل له ألا يراهما وهم يصنعان!(4)
ولقد دأب بعض المشرعين الأمريكيين على تكرار ترديد هذه العبارة للتأكيد على أن العملية التشريعية رغم كل ما قد تمر به من مراحل موضوعية غير جالبة للشهية، إلا أنها يمكن لها أن تأتي بنتائج إجمالية مفيدة. لكن أصحاب مطاعم النقانق الأمريكية التي يقع بعضها على مرمى حجر من مبنى الكونغرس كثيراً ما يعترضون على هذه العبارة قائلين أن النقانق يتم إعدادها وفقاً لوصفة محددة وتحت إشراف شخص واحد – رئيس الطهاة – يتولى متابعة مراحل إعدادها، وهي وجبة تستخدم فيها اللحوم الحيوانية بينما تلقى العظام والأجزاء غير القابلة للاستهلاك في القمامة، أما لدى المجلس النيابي فالأفكار القديمة يتم إعادة تدويرها عاماً بعد آخر، كما أن جميع الطباخين في المطعم يتعاونون معاً لإنجاز نفس المهمة، وهو ما لا يحدث بين الأطراف السياسية داخل البرلمان.(5)
وفي ذات السياق المتعلق بالتوافق حول القوانين، فإن القانون الأعلى أو ما يعرف بالدستور ترتبط مشروعيته هو الآخر بمدى توافقه مع الأسس والقيم والمبادئ التي تسود المجتمع، وكذا بمدى القبول الاجتماعي له، أو بكلا الأمرين معاً.
وفي الحالة الليبية، تكون مبادئ العقيدة الإسلامية أساساً معيارياً للدستور، كما يكون الحوار والاستفتاء حوله أساساً آخر لتأكيد مدى التوافق حوله، أي أن التوافق المجتمعي لا يتعلق بالتوافق حول المبادئ الدينية؛ بل بالتوافق حول مدى التزام الدستور بها، لأن هذه المبادئ غير قابلة للتغيير في ضوء معادلات الأغلبية والأقلية.
إن تحصين هذه المبادئ ضد التغيير يرتبط بالحفاظ على جوهر الهوية الوطنية، باعتبار هذه المبادئ أسساً ربانية مشتركة ارتضاها الليبيون لأنفسهم جيلاً بعد آخر مهما تعددت قبائلهم ومكوناتهم ومناطق سكنهم، مثل هذا التحصين للمبادئ التأسيسية ليس بدعة دستورية، فقد نصّ دستور ألمانيا – الذي صدر بعد الحرب العالمية الثانية – في مادته الـ 146 على أن هناك مجموعة من الأسس والقواعد التي لا تقبل التغيير مهما كان حجم الأغلبية التي يمكن لها أن تحشد لتغييرها، وبالتالي فإن أسلوب التغيير الدستوري الوحيد هو إلغاء الدستور برمته، والإتيان بدستور جديد، وهو أمر يصعب تحقيقه في ألمانيا والبلدان ذات الاستقرار السياسي والقانوني إلا في ظروف استثنائية نادرة، وقد كان الهدف من هذا التحصين قطع الطريق الدستوري على احتمال ظهور نزعات دكتاتورية نازية أو فاشية جديدة.(6)
أما خارج تلك الأسس، فالدستور يمثل في جوهره وضع قواعد اللعبة؛ أي تلك القواعد الإجرائية التي تقبل التغيير في ظل تغير الظروف أو المعطيات الواقعية، وهو ما يتم عادة من خلال التعديلات الدستورية والتفسيرات الدستورية خاصة من قبل المحكمة الدستورية العليا، وكذا العرف الدستوري؛ ففي العرف الدستوري الأمريكي مثلاً اتخذت المحكمة العليا الأمريكية لنفسها إجراءات ردع ذاتية تمنعها من تناول القضايا ذات الطبيعة السياسية، كما أن الدستور الأمريكي نفسه لا يشير إلى الأحزاب السياسية رغم أهميتها مما يبعدها عن جعلها أشخاصاً للقانون الدستوري. وفي مثال آخر للتغييرات الدستورية ما نص عليه دستور الثورة الفرنسية العام 1793 من أنه يجوز للمواطنين البالغين الأجانب الذين أمضوا عاماً كاملاً في الأراضي الفرنسية الحصول على حق الجنسية وحق المواطنة، وهو ما تقلّص في فرنسا وباقي البلدان الأوروبية الآن إلى إمكانية الحصول على بعض الإعانات الاجتماعية، لكن ذلك لا يمتد إلى حقوق المواطنة، وخاصة حق الترشيح والترشح.(7)
وفي ضوء ما أشير إليه آنفاً من أن القانون هو تعبير عن علاقات قانونية تتأتى مسألة الحقوق التي تنبثق عن هذه العلاقات، والتي يمثل التنازع حولها مشكلة كبرى لا بد من معالجته ديمقراطياً، خاصة وأن الحقوق والحريات في مختلف مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية يمكن أن تشكل تهديداً لمبدأ العدالة الذي جاءت لتؤكده؛ ذلك أن التمتع بهذه الحقوق والحريات يختلف من شخص إلى آخر سواء كان شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً، وذلك وفقاً لقدرات كل شخص وإمكاناته، الأمر الذي ينتج عنه بالضرورة حالات من عدم المساواة.
وفي هذا الصدد، فإن المساواة القانونية ليست سوى المساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص، ولا يمكن لها أبداً أن تأتي تطبيقاً لأسطورة سرير “بروكروست” الذي يمد فوقه الأشخاص واحداً تلو الآخر؛ فإذا زاد طول شخص ما عن هذا السرير يقتطع من ساقية، وإذا قلّ طوله عن هذا السرير يتم تمطيط جسده لكي يتلائم مع حجم السرير!(8)
وحيث أن الحقوق منطقياً وقانونياً تعني الجواز، ولا تعني بالضرورة الوجوب فإن الحقوق لا يجرى التمتع بها إلا عند استخدامها، لكن الفائدة الكبرى التي تجنى من الاستخدام الجماعي للحقوق تتمثل في تعزيز الهوية المشتركة مثلما يحدث عند ممارسة الشعوب لحق تقرير المصير، وهو الحق الذي يفسر عادة في إطاره السياسي، لكنه من المهم الحديث عن تقرير المصير القانوني، بمعنى اخضاع القانون للحوار المجتمعي لكي يتحقق القبول الاجتماعي له بدلاً من الاعتماد المطلق على بيوت الخبرة القانونية التي رغم أهميتها إلا أنه لا يجب أن تقود البلاد إلى الوقوع تحت حكم نخبة الخبراء، لأن دورهم ينبغي أن يتجسد في اطلاع الناس على مختلف جوانب القانون وأبعاده، وليس اقناعهم بها، حيث أن الشكل الأمثل للحوار الديمقراطي سياسياً وقانونياً وإعلامياً وغير ذلك من المجالات، هو أن يقنع الناس أنفسهم بأنفسهم في ضوء ما يجب أن يتوفر لهم من حقائق، ومعطيات ومعلومات.
6. خاتمة
ما تضمنته هذه الورقة كان محاولة لتأصيل مسألة الإعلام والهوية الليبية في إطار شمل أبعاداً تاريخية وسياسية واقتصادية وقانونية؛ لكنه لكي تزداد الصورة وضوحاً أمامنا سوف يحتاج الأمر إلى تناول أبعاد أخرى اجتماعية وثقافية ومعرفية، وهو ما يمكن أن تخصص له دراسة إضافية، باعتبار أن كل هذه الأبعاد متساوية في الأهمية ولا يمكن بأية حال من الأحوال اعتبار بعضها مجرد تفريعات أو انعكاسات أو امتدادات لبعضها الآخر.
هذه الرؤية متعددة الأبعاد هي التي يمكن لنا من خلالها فهم لماذا كان ولا يزال بعض الليبيين يميلون إلى أن الارتباط بالهوية الجهوية أو القبلية يسبق أحياناً الارتباط بالهوية الليبية المشتركة. هذا التوجه ليس أصحابه من الانفصاليين أو الانعزاليين، وليس حكراً على التيار الفدرالي في برقة كما قد يتوهم البعض قياساً على بعض مما يحدث اليوم، فمنذ أيام الاحتلال الإيطالي لليبيا أصدرت “اللجنة الطرابلسية” في القاهرة مذكرة شارحة للقضية “الطرابلسية” مشفوعة بتفسير الأسباب التي قادت إلى استعمال هذه التسمية بدلاً من “القضية الليبية”، حيث ورد في صفحة الغلاف لهذه المذكرة ما نصه:
“نود أن نلفت نظر قراء العربية وكتابها إلى المحافظة على ذكر كلمة (طرابلس) في كل ما يتعلق بهذا القطر العربي الشقيق، أما كلمة (ليبيا) فهي كلمة دخيلة لا تمت إلى العربية بصلة جاء بها الطليان لتحل محل الاسم العربي (طرابلس) بعد أن غيّروا جميع المعالم العربية فيها، وإذا اقتضى توضيح الكلام ذكر (طرابلس) و (برقة) فذلك خير من ذكر تلك الكلمة الدخيلة”.(9)
مثل هذه التوجهات التي تم التعبير عنها خلال فترة النضال ضد الاستعمار الإيطالي كانت – وبكل تأكيد – أبعد ما تكون عن الإقليمية والجهوية، فلقد تضمنت هذه المذكرة في مطالبها الرئيسية الدعوة الحثيثة إلى تحقيق “الاستقلال التام” و”وحدة البلاد من حدود مصر إلى حدود تونس”. لكنه مثلما تم إيراده آنفاً، فإن إسم ليبيا لم يخترعه الطليان، بل استعملوه، كما أن إسم “طرابلس” هو إسم يوناني (Tripolis) أو الثلاث مدن (لبدة – صبراتة – أويا) وليس اسماً عربياً، وهذا ليس عيباً فكثير من مدن العالم أسماؤها لا تنتمي إلى ثقافتها المعاصرة، ولكنها جاءت بفعل مؤثرات تاريخية قديمة، وهذا يمكن النظر إليه في إطار العراقة وضرب الجذور الراسخة في التاريخ.
لكن مثل هذا الرفض لإسم “ليبيا” آنذاك له ما يبرره لأنه ربما جاء كرد فعل عاطفي رافض لكل ما كان يستخدمه الإيطاليون من أساليب استعمارية امتدت إلى اعطاء أسماء إيطالية لكثير من المدن الليبية، كما أن طرابلس الغرب التي يعبر عنها باللفظة الأجنبية (Tripolitania) تمييزاً لها عن طرابلس الشام عمد الإيطاليون إلى تغييرها لكي تصبح (Tripolitalia) أي طرابلس الإيطالية.
أما أن يستمر إعلام ليبيا اليوم أو بعض منه يطبل لتهميش أو إلغاء إسم ليبيا لكي تأتي قبله في الصدارة أسماء جهوية أخرى، فهذا ما لا يجب أن يسمح به الليبيون صوناً للهوية الليبية.
الاختلاف هو إحدى سُنن الله في خلقه، وهو حق أصيل؛ حق الاختلاف هو الحق في أن تكون مختلفاً عن غيرك وألا تفرض عليك أية هوية فرضاً، وليس هناك مجال لإلغاء أية اختلافات في أي من المجتمعات لكن أسوأ ما يمكن أن يحدث هو محاولة إلغائها قسراً عبر قوة مهيمنة، أو تحويلها إلى قطبية ثنائية أو ثلاثية أو غير ذلك لكي تتولى تلك القوة المهيمنة إدارة الصراع بينها، أما أفضل الحلول فهو إيجاد نظام ديمقراطي شامل قادر على العمل رغم الاختلافات، وقادر على استيعابها والاستفادة منها، بذا يسود مبدأ حل النزاعات التي من الممكن أن تنشأ في إطار هذه الاختلافات من خلال التدخل الإداري للسلطة السياسية، والتدخل القانوني للسلطة التشريعية، والتدخل القضائي للسلطة القضائية، والتدخل الاجتماعي للقبائل، والتدخل المعرفي للمؤسسات الأكاديمية والبحثية، والتدخل الثقافي للمؤسسات الثقافية والتدخل الإعلامي عبر الحوارات التفاعلية البناءة حول الشئون والشجون الوطنية.
وفي أي نظام اجتماعي من الطبيعي أن تتعدد المطالب والمناداة بالحقوق، لكن الحل لا يمكن له أن يكون متمثلاً في إلغاء أو تهميش بعضها لصالح البعض الآخر، بل لا بد من تطوير أسس الحوار المجتمعي حولها، وتقوية اختراق الدولة للمجتمع عبر أجهزتها الإدارية، وتقوية اختراق المجتمع للدولة عبر التنظيمات السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، أي أن الأمر يتعلق بإيجاد دينامية جديدة تربط بين الأجزاء المختلفة، لأنه من غير الممكن خلال أوضاع التأزم والاحتقان الركون إلى مدخل واحد أو أسلوب واحد أو عامل واحد وحيد باعتباره المنقذ من الضلال.
وبغض النظر عن أية تقييمات للماضي القريب وللحاضر، فإن ما حدث العام 2011 كان نهاية لوضع سابق، وكل نهاية هي بداية لشيء جديد ووضع جديد. ولكي يكون لليبيا والليبيين المستقبل المنشود، لا بد من تجاوز ما هو قائم من أوضاع وتعقيدات من خلال خلق بدائل جديدة، وتطوير الحوارات حولها، لأن كل أدوات السلطة المؤقتة القائمة حالياً أصبحت تخشى ظلها: الحكومات القائمة تخشى الحكومات البديلة، والمجالس التشريعية تخشى ما يمكن أن ينشأ بديلاً عنها، والتنظيمات العسكرية والأمنية تخشى أن ترى غيرها في الميدان، لكن الوحيد الذي لا يخشى أحداً إلا الله هو الشعب القادر بعون الله على الانتقال بليبيا من مجتمع السلاح إلى مجتمع السلام، ومن مجتمع الإيلام إلى مجتمع الإعلام، ومن ظلم الغالبين إلى عدالة رب العالمين.
ومثلما لاحظ الباحث والدبلوماسي الفرنسي اليكس دي توكفيل منذ العام 1835، فإن علم الهوية الواحدة المشتركة يعتبر أم العلوم في البلدان الديمقراطية، لأن الناس يكونون بينهم إرادة مشتركة رغم اختلافهم واختلافاتهم، وهكذا فالهوية عندنا لا بد لها أن تبنى على روح التضامن لا مجرد التعايش، والتضامن يعني تخلي البعض عن أشياء لهم لصالح غيرهم، والالتزام بهذه الروح المتأصلة جذورها في الدين والثقافة، وغني عن البيان الفرق بين أن تكون ملتزماً بشيء أو ملزماً به، البشر ليسوا نقائض بعضهم، وخلافهم ليس مطلقاً وغير قابل للجسر، الصراعات والنزاعات يمكن أن تكون أساتذة الشعوب لأنها تدفع الناس إلى التفكير العميق، وترغمهم في نهاية المطاف إلى اتباع منهج حل النزاعات عبر الحوار وليس عبر الخنادق والبنادق، أما النظرة السوداوية القاتمة للأمور والأشياء التي يذكيها الإعلام البائس اليائس فهي أسلحة دمار شامل تصيب نفوس الناس وتوهمهم بأن الأمور وصلت إلى نهايتها المأساوية المحتومة رغم أن المؤمن لا يجب له أبداً أن يقنط من رحمة ربه.
لذا يصبح الحديث عن دور الإعلام الحالي في دعم أسس الهوية الليبية ضرباً من اللغو، وسبب ذلك يرجع أساساً إلى أنه يوجد لدينا إعلاميون ليبيون، ولكن لا يوجد لدينا إعلام ليبي بعد؛ ذلك أن وسائل الإعلام تشكل البنى التحتية للحوار المجتمعي، لكنها إذا نزعت إلى التآكل والتهالك بفعل الانتماءات الفئوية وأنماط من خطاب الكراهية، فهي تصبح غير قادرة على الإسهام في أي حوار حول أية مسألة من مسائل المجتمع وشئونه.
المبدأ الأساس هو أن كل لحظة من لحظات الزمن تختلف عن غيرها؛ ولذا، هناك دائماً فرص ممكنة لإيجاد رؤى جديدة وأنماط جديدة وبدائل جديدة للحياة وجديرة بالحياة، هذا ما يجب على الإعلام البديل، والثقافة البديلة العمل على تحقيقه والتبشير بأن الخلاص ممكن، والمستقبل المشرق الجميل حلم قابل في أي لحظة أن يتحقق بنا ولنا ومن خلالنا، لأن الثقافة والإعلام والفنون لا يمكن لها أن تترك لكي تكون مجرد “ديكورات” للحياة، أو مجرد “مكياج” يزين وجه الحياة اليائسة، ولذا فأول الخطوات هي العمل المنظم لأن الفوضى هي نظام يصعب التكهن بنتائجه لأنه مفتوح على كل احتمالات الشر والبؤس والانحطاط، وقابل – لا قدر الله – إلى إيصال الليبيين إلى حالة الانتحار الجماعي إذا ما تم السماح بأن تتمزق الهوية الواحدة إلى عدة هويات، والوطن الواحد إلى أوطان عدة في هذا العصر؛ عصر العولمة التي تتجاوز حدود الدين والقومية والثقافة والاقتصادات والسياسات الوطنية. الخطر الذي يواجه الليبيين حالياً ليس له وجه واحد، ولا يمكن حصره في شيء واحد يشار إليه بالبنان، نحن أعداء أنفسنا، ولا بد من انقاذ أنفسنا من أنفسنا؛ لا بد أن يبدأ الإصلاح داخل كل فرد منا، فالحل الحقيقي يتمثل في تصحيح الواقع لا تبريره مثلما يفعل المحللون البائسون.
وأخيراً، إن الحل الذي يعزز الهوية هو البحث المشترك عن البدائل المتاحة، أن يكون لدى الليبيين غنى في هذه البدائل، لأن البشر لا يستطيعون منطقياً كبشر الجزم بأن هذا البديل أو ذاك هو الوحيد الذي يفضل غيره، وبالتالي لا بد من الاستعداد دوماً للانتقال من درب إلى آخر بحثاً عن الحقيقة، وعن الحياة وعن المستقبل، فالعلم البشري ليس له سقف، والمعلومات والمعارف الجديدة هي وقود الحياة الذي يوفر لنا رؤى حول سبل حل المشكلات، وبناء المستقبل، وبدلاً من التنقل بين خنادق المتصارعين على السلطة والمال يتحتم علينا جميعاً الإنتقال إلى خندق الوطن، والسلطة التي تبنى في الوطن ليست سلطة شخص على آخر، ولا سلطة فئة على أخرى أو قبيلة على قبيلة، بل سلطة الشخص مع غيره والفئة والجهة والقبيلة مع فئات وجهات وقبائل أخرى من أجل تحقيق أهداف مشتركة. بذا، يسود البحث المشترك عن الحقيقة بدلاً من سعي كل طرف إلى تحقيق الواقع الذي يريد له أن يسود؛ لأنه إذا تعددت عوالم الواقع يصبح كل يعيش في عالمه، كل وشأنه، كل ورؤيته، وأنّى لوضع كهذا أن تنتج عنه هوية مشتركة.
المراجع:
1. أنظر:
Ibid, S.154, 187, 281, 679. John Rawls. EineTheorie der Gerechtigleit. Frankfurt/ Main 1975, S.466.
2. أنظر:
Ingeborg Maus. Zur Aufklaerung der Demokratietheorie. RechtsdemokratichenUeberlegungenim Anschluss an Kant. SuhrkampVerlag, Frankfurt/Main 1994, S.54.
3. أنظر:
www.quoteinvistigator.com.
4. أنظر:
www.mobile.nytimes.com.
5. أنظر:
Bruce Ackermann. We the People: Foundations, Cambridge, Harvard University Press 1991, P.15.
6. أنظر:
Herman Pritchett, “Constitutional Law”, in International Encyclopedia of the Social Sciences Vol.3 Free Press, London 1968, pp296 – 297. See also: JuergenHabermas, Op. cut, S.653.
7. أنظر:
www.wortbedeutung.info(Brukrustes – Bett)
8. سالم الكبتي. ليبيا: مسيرة الاستقلال وثائق محلية ودولية. الجزء الأول. خطوات أولى. الدار العربية للعلوم – ناشرون. بيروت – لبنان. 2012. ص: 129. وبخصوص الأسماء الإيطالية للمدن الليبية، أنظر المرجع السابق نفسه ص: 350.
9. أنظر:
Charles Taylor, “Der Begriff der buergerlichenGesellscaft, imPolitiscgenDenken des Westen”, (Hrsg). Gemeinschaft und Gerechtigkeit, Fisher Verlag, Frankfurt/Main 1993, S.143.
مصدر الصور: كارنيغي – الحرة – رويترز.
موضوع ذا صلة: وزارة الخوف من الإعلام وأبحاث علي فرفر المستقبلية الأخيرة
أ. د. علي المنتصر فرفر
أستاذ الإعلام في جامعة طرابلس – ليبيا