يعيش عالم اليوم صراعات معلنة وجوهرية واخرى ضمنية تتضارب فيها المصالح السياسية والاقتصادية، أما المعلن منها فيتعلق بالتحولات الاستراتيجية للمنظومة العالمية مع حتمية تراجع الأحادية القطبية، وأما الصراعات الضمنية فهي مرتبطة بمواقع النفوذ الاقتصادي وتحولات مراكزه وارتبطاته التنافسية على غرار تطور مجموعة “بريكس” الاقتصادية مقابل تراجع الاتحاد الأوروبي اقتصاديا وخسارة الولايات المتحدة الأمريكية لنفوذها السياسي والاقتصادي في الشرق الاوسط.

كذلك، فشل مخططات الفوضى في العالم العربي وانتصار سوريا ضد الارهاب والتطرف واستعادة تونس لمسارها المتوازن داخلياً، وتطلع ليبيا بمكوناتها الوطنية للمزيد من الانسجام الذاتي والاستقرار السياسي الذي يختاره الليبيون بانفسهم ولا احد سواهم، لتتحول أرض المعركة هذه المرة من الشرق الأوسط وإفريقيا إلى أوروبا حيث وظفت فيها مختلف الأسلحة السياسية والاقتصادية والعسكرية، ليشتعل الصراع هناك على حدود الشرق والغرب وكأن التاريخ كان مسطراً ليعيد احداثه التي لم تكتمل كما ينبغي أن تكون حينها، لتستأنف الحرب ولتستمر ما دام الفاعل في مجريات الخيارات الأوروبية ليس معنياً بالنتائج المباشرة للازمات المعاشة، والانقسام المفروض أوروبياً لم يكن ليحدث لولا الاختلالات المتبانية داخل الحلف شمال الأطلسي – الناتو تبعاتها الأمنية والاقتصادية على دوله خاصة الاوروبية.

فما محل أوروبا من هذه الصراعات؟ وكيف ستكون حالها في ظل استمرار الإملاءات التي تُفرض على شعوبها بمسمى القوى الغربية التي لم تعد تخدم توجهات قديمة كانت تضمن الحد الأدنى من التوافقات والمصالح المكفولة تحت مظلة حلفهم الذي تراجع وانتكس في أغلب المواقع؟ فهل هي حافة الكارثة الأوروبية؟ ولماذا أصبحت الجزائر مؤخراً وجهة مهمة للساسة الأوروبيين في السر وفي العلن؟

إقرأ أيضاً: تعليق الجزائر لمعاهدة الصداقة وحسن الجوار مع إسبانيا: تصعيد دبلوماسي أم خيار استراتيجي؟

الجواب عن تزايد وتيرة الزيارات الأوروبية للجزائر مرتبط بما تمكنت الأخيرة من تحقيقه بعودتها المستحقة لتلعب دورها الذي يلاءم موقعها الاستراتيجي ويناسب تاريخها المشرّف وبما يليق بقوتها الرادعة وبمواردها الضخمة، خاصة الغاز وأنابيبه الحيوية، حيث أصبحت الجزائر الوجهة المهمة بالنسبة لساسة أوروبا، خاصة الذين ضاقت بهم السُبل وتحطمت قوارب نجاتهم سياسياً واقتصادياً، فصاروا يجدفون – في السر والعلن – بأشرعة تُرفع فوقها رايات النجدة والاستغاثة خوفاً من برد شتاء قادم، وهلعاً من ظلام دامس أصبح يخيم على القارة، وحالهم يزداد ذعراً من مستقبل مجهول سيتدهور فيه اقتصادهم أكثر لأسباب كثيرة أولها ازمة الطاقة وما سبقها من تراجع لنفوذ بعض الدول الناهبة لخيرات إفريقيا وعلى رأسهم فرنسا.

فهل سيجدون ظالتهم بزياراتهم المكثفة الى الجزائر؟ وهل سيقبلون بما تريده الجزائر في مثل هكذا ظروف اقليمية وعالمية؟ وهل ستقدم فرنسا – مثلاً – اعتذاراً رسمياً للشعب الجزائري؟ وهل ستباشر فرنسا عملية تعويض للشعب الجزائري عن جرائمها التي اقترفتها ابان الفترة “الاستدمارية”؟ أم أن الجزائر قد سبق وأن ابرمت صفقاتها الاقتصادية المناسبة والرابحة وحددت خياراتها الاستراتيجية بعيداً عن الخوض في معاملات غير مجدية بسبب عدم تسوية ملفات تاريخية، وأسباب أخرى تتعلق بمواقف سيادية وبما تعتمده الجزائر من مبادئ احترام حق الشعوب في الاستقلال ورفضها لمتاجرة بعض الدول الأوروبية بقضايا تقرير المصير، هذا بالاضافة إلى أن المنعرج الذي تعيشه أوروبا يحمل تهديدات إقليمية بتنامي المخاطر الأمنية وعدم استقرار السياسات الأوروبية، وتدهور في قيمة اليورو، ويحدث كل ذلك لأن أوروبا قد تحولت فعلاً إلى أرض معركة محورية بالنسبة للتحولات العالمية، فمن كان يتوقع هذه التطورات؟ ومن كان يتوقع انكماش الاقتصاد الأوروبي وانهيار اليورو إلى هذا المستوى القياسي أمام الدولار؟

الأخطر من كل ذلك أن مهندسي الفكر الاستراتيجي الغربي قد توجهوا نحو اقتراح اثارة قلاقل وفتن في مناطق مختلفة لتقليل الثقل عليهم وتوزيع العبء على غيرهم وللضغط على قوى الاعتدال من الدول التي لا تقبل بالخضوع للهيمنة الغربية ولا ترضى بالغطرسة المتوحشة بمسمياتها الكاذبة حول الديمقراطية والحقوقية الفاسدة، والدليل هو التحرش الذي مارسته الولايات المتحدة الأمريكية ضد الصين والتحرشات والدسائس والاستفزازات التي تتعرض لها الجزائر من وراء حدودها الغربية، وكذلك محاولة بعض الأوروبيين شد رحال حلف الناتو الى الساحل الإفريقي للاستعراض على شعوب ضعيفة وإلى مالي – تحديداً – لخلق بؤر توتر جديدة، خاصة وأن هذا الحلف أصبح مشلولاً مقابل التحركات الروسية وأمام تنامي موجة المناهضة العالمية للنظام الأحادي، وتعالي دعوات التعددية القطبية لإنهاء التعجرف الغربي ضد الشعوب ودولها، ولوضع حد لدور “شرطي العالم” الذي يرى بعين واحدة ويصاب بالعمى إذا تعلق الأمر بالقضايا العادلة التي لا تخدم توجهاته أو مصالحه، لكن التطورات المعاشة عالمياً تؤكد أن النهاية قد دنت واقترب أجل التحول نحو عالم جديد تحكمه توازنات جديدة أكثر عدالة وأقل مخاطر أمنية.

أما التحدي الكبير بالنسبة لأوروبا فيتمثل بقدرة قادتها على تحمل مسؤولياتهم التاريخية تجاه شعوبهم؛ حيث إن لم تراجع أوروبا توجهاتها ومواقفها، فحتماً ستحصد خسائر كبيرة ستعقد أوضاعها أكثر فأكثر بسبب خياراتها المرتبطة بسياسة الهيمنة الغربية، ولأن الواقع الأوروبي يؤكد وجود مطبات حقيقية تعيق توافقاته السابقة وتفرض خيارين لا ثالث لهما؛ إما اعتماد فلسلفة جديدة أكثر وضوحاً تجاه التحولات العالمية، أو ضرورة تبني خيار التعددية القطبية العادلة والمتوازنة، أو الانهيار الاقتصادي وما سيتبعه من اضطرابات اجتماعية لتكون بذلك أوروبا أمام عودة قريبة وعاجلة للصراعات البينية والحروب الخاطفة لأجل بقاء هش ومتعثر على حافة الهاوية.

مصدر الصورة: بلومبيرغ.

د. عمار براهمية

كاتب وباحث – الجزائر