يعيش الكيان الصهيوني تحولات على مستوى الدولة والمستوى المجتمعي، فهدا الكيان – أو ما يسمى بـ “دولة إسرائيل” – يعيش إنقساماً على الذات نتيجة لطبيعة تكوين هذا الكيان ومحاولته بناء دولة حديثة فوق أراضي محتلة، وبمجتمع ينطلق من ثقافة القتل والتهجير والإستيطان.

ولفهم العقيدة الأمنية الإسرائيلية كمرجعية لتفسير مستوى التصعيد الدي نشهده مؤخراً داخل الأراضي المحتلة أو على المستوى الإقليمي، يجب فهم العلاقة بين صعود اليمين المتطرف – كتيار ديني بإرثه الفقهي الصهيوني – والعقيدة الأمنية لهذا الكيان.

ينقسم اليهود، من حيث موقفهم من دور الدين في سياسة الدولة، إلى أربعة شرائح: العلمانيون والتقليديون والمتدينون القوميون ومتدينو الحريديم (الحريديم تعني التقي والورع)؛ ولكن في الانتخابات الأخيرة، شهدنا تحالف حزب الليكود، بزعامة بنيامين نتنياهو، مع الأحزاب الدينية المتطرفة وهو ما سيكون له تداعيات على تعامل الحكومة الإسرائيلية مع الكثير من الملفات الإستراتيجية.

المرجعيات الفقهية للتيار الديني: النخبة الجديدة

الصهيونية الدينية هي تيار صهيوني يدمج بين الفقه والتعاليم الدينية التلمودية والايديولوجية التطبيقية، أي دمج ما بين السياسي والديني من خلال تعاليم الحاخامات، وهي تنطلق من ثلاثة أسس: الدين، الشعب، الأرض، وتطبيق هذا يحتاج إلى مشروع تبنته الصهيونية السياسية لتطبيقه، كما يجب الإشارة أن هناك نقاشاً قوياً بين تيارات الصهيونية الدينية والأحزاب الدينية الأخرى ومعاً يشكلان من الناحية السياسية ما يسمى بـ “اليمين المتطرف”، وهو وصف يطلق على تيار سياسي ظهر في أوروبا يتسم بمعاداة الأجانب والعرب والمسلمين ويميل للمحافظة على التعاليم الدينية.

تمتلك هذه التيارات والأحزاب الدينية إرثاً فقهياً وفتاوى من الحاخامات بحيث ترى هذه النخبة أن “الطابع اليهودي للدولة أفضل من الطابع الديمقراطي”، وتنطلق هذه الحركات الدينية المتشددة من احترامهم للتلمود ونقاء اليهودية الأولى؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك فتوى أصدرها الحاخام موشيه بن ميمون، الذي عاش في القرن الثاني عشر، والتي تلزم اليهود بأن يعرضوا على غير اليهود الذين يعيشون في فلسطين ثلاث خيارات لا رابع لها، فإما مغادرة البلاد فوراً أو القبول بالعيش كعبيد لليهود أو أن يتم قتلهم جميعاً، وضمن ذلك الأطفال والنساء.

أيضاً، هناك الكثير من الفتاوى التي تدل على كراهية العربي مثل إشارة الحاخام يعكوف بيرن بالقول: “إن مليون عربي لا يساوون ظفر يهودي واحد”، وفتوى الحاخام يتسحاق شبيرا، في كتابه “توراة الملك”، ما يعتبر تأصيلاً لعلاقة الحرب والدين في قوله: “مسموح لنا بقتل من يشكل خطراً علينا ولو كانوا أطفالا أو رضعاً”. كما يشير الحاخام إلعيازر كشتئيل، في أحد محاضراته، إلى التفوق العرقي لليهود، وأن العرب لا يستطيعون بناء دولة، ويجب أن نعرض عليهم أن يكونوا “عبيداً لنا”، ويضرب مثالاً لذلك بما يحدث في كل من مصر سوريا والجزائر. كما يشير الحاخام الأكبر عوفاديا يوسف بالقول: “ممنوع أن نرأف بالعرب. يجب قصفهم وإبادتهم هؤلاء الأوغاد الملعونين”.

ويعتبر هذا الإرث الفقهي مرجعية لكثير من الحركات والتيارات السياسية في إسرائيل كحركة “كاخ اليهودية” التي تأسست على يد الحاخام اليهودي مائير كاهانا صاحب نظرية طرد الفلسطينيين وهدم المسجد الأقصى. هذه الحركة من قياداتها إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الحالي، وحزب “ساش سفرديم” وحزب “يهودات هتوراه”، الذي يجمع يهود الحريديم ويهود إشكناز، وحزب “البيت اليهودي الديني” المتطرف.

إقرأ أيضاً: التقابل بين مشروع “هرتزل الصهيوني” و”هرتزل العربي”

وحتى على المستوى المجتمعي يعيش حالة من النشوة الدينية من خلال صعود نسبة التدين في الفضاء العام وانتشار أحياء متشددة مثل الأصوليين اليهود الذين يعيشون في حي “ميه شعريم”، وانتشار ظاهرة تدين الشباب وتسليحهم وانخراطهم في عمل المجتمع المدني وفي الجيش الإسرائيلي، وتكوين ميليشيات لحماية الأحياء اليهودية والاعتداء وقتل الفلسطينيين.

العقيدة الأمنية وصعود النزعة القومية المتطرفة

لم يكن الكيان الصهيوني يعيش هذا الانقسام على الذات حتى صعود نفوذ اليمين المتطرف وتحالف الأحزاب الدينية الصهونية، ويعتبر التيار الديني مكِّون مهم في تشكيل النخبة الإسرائيلية؛ فبعد ما كان على هامش المجتمع، أصبح يسيطر على مراكز اتخاذ القرار في المؤسسات المدنية والعسكرية، وأصبحت تنتشر مظاهر التدين داخل هذا المجتمع مع صعود مواقف إيديولوجية ونظريات مبنية على أصول فقهية تدعو لقتل أو طرد العرب والاستيطان وتهويد الأراضي المحتلة.

ومن الناحية التحليلية، لا يمكن فصل المرجعيات الفقهية للتيار الديني الصهيوني وتشكلات العقيدة الأمنية الإسرائيلية، فهده العقيدة مبنية على مجتمع ودولة يعيش حالة من الاغتراب في المنطقة العربية، فهو كيان دخيل يعيش معضلة أمنية وتناقض داخلي وخارجي، فهي تنطلق من بُعد ديني يتغلغل في خطاب الدولة وخاصة خطاب المؤسسة العسكرية، فحتى تسميات العمليات العسكرية والكثير من الصناعات العسكرية مستوحاة من فتاوى الحاخامات أو مفاهيم تلمودية مثل “عملية الرصاص المصبوب”، و”عودة الإخوة”، و”عمود السحاب”، و”الجرف الصامد”، و”عناقيد الغضب” ودبابة “الميركافا”.

فعلاً وبعد عمل جاد وتخطيط وتمسك بعقيدتهم، إستطاعت الحركات الدينية التغلغل في الحياة السياسية وجاءت نتائح الانتخابات البرلمانية الأخيرة تشير إلى سيطرة معسكر بنيامين نتنياهو على 64 مقاعداً من مقاعد الكنيست الـ 120، حيث تساوت مقاعد الليكود مع الأحزاب الدينية والحريدية (الأصوليون المتزمتون دينياً) بحصول كل فريق على 32 مقعداً. وبهذا، تم تشكيل حكومة تضم “تحالف الصهيونية الدينية” الذي حصل على 14 مقعداً، وهو مؤلف من حزبين يمينيين متشددين “القوة اليهودية” و”الصهيونية الدينية”، بالإضافة إلى حزب “ساش للمتدينين الشرقيين” بحصوله على 11 مقعداً، وحزب “يهودات هتوراه” من الأحزاب الحريدية التي تحتوي على المتدينين اليهود الغربيين وقد حصل على 7 مقاعد، ومن الشخصيات الدينية المتطرفة المشكلة لهذه الحكومة:
– إيتمار بن غفير، زعيم القوة الصهيونية الدينية، والذي تولى حقيبة وزارة الأمن القومي بصلاحيات واسعة.
– بتسلئيل سموترتش، الذي تولى منصب وزير المالية وسيحصل حزبه على منصب وزير في وزارة الدفاع.
– أرييه درعي، زعيم حزب ساش الديني والذي تولى حقيبة الداخلية.

وقد أدى صعود النخبة الإسرائيلية الجديدة، بمرجعياتها الفقهية المتطرفة، إلى تصعيد داخل الأراضي المحتلة من قتل للفلسطينيين وهدم للمنازل وارتفاع نسبة الاعتداء المسلح لمليشيات المستوطنين على الأحياء الفلسطينية، كما تشهد الساحة الاقليمية تصعيداً عسكرياً، من خلال قصف المسيرات الإسرائيلية لمصانع الأسلحة والذخيرة في إيران وضرب مواقع في الأراضي السورية والعراقية، بالإضافة إلى عمليات الإغتيال التي يقوم بها جهاز المختبرات – “الموساد”.

بالمحصلة، تتجه إسرائيل يميناً، أي إلى الطابع الديني الصهيوني للدولة؛ وبغض النظر عن عقيدتهم الصحيحة أم الخاطئة، إستطاع هذا الكيان أن يحتل الأرض ويفرض حساباته الإستراتيجية في وقت يعيش العالمين العربي والإسلامي حالة من التخلف والجهل والصراع الداخلي، ليبقيا بعيدين كل البعد عن فهم عقيدته الصحيحة التي تدعو إلى نشر الإسلام وبناء دولة ومجتمع قوي.

مصدر الصورة: Getty Image.

د. بلقاسمي مولود

باحث متخصص في الدراسات الدولية – الجزائر