في تاريخ الصراع – ضمن كل مناطق العالم تقريباً – يكون فيه الطرف المعتدي، في العادة، من خارج المنطقة، وأن اتفاقيات السلام وإنهاء النزاع دائماً ما تبرم مع الطرف المحلي المحارب، ولدينا على ذلك أمثلة لا حصر لها، ولكنا نكتفي فقط بالسجل الأمريكي في هذا الموضوع ذلك أن واشنطن منحازة بشكل أعمى لإسرائيل، فلا ترى الطرف الآخر على الرغم من أنه الطرف الأصيل.

أيضاً، تعلم واشنطن جيداً أن اليهود الصهاينة لا علاقة لهم بالأرض، وأنهم وفدوا إلى فلسطين ضمن مؤامرة دولية تحت ستار “المشروع الصهيوني”، الذي تجسد في إقامة إسرائيل لتكون أداة المشروع ضمن ابتداع خطط وإجراءات جذرية لتفريغ فلسطين من سكانها العرب وليحل محلهم اليهود الراغبين في الهجرة إلى فلسطين.

وقد عميت واشنطن عن جرائم إسرائيل والتي اعتبرتها “دفاعاً عن النفس”، وهي تعلم أنها جرائم إبادة للشعب الفلسطيني، ثم واشنطن أن إسرائيل تنفذ مشروعاً لتهويد القدس الشرقية وتعبث بالمسجد الأقصى مما استنفر المقاومة فأمطرت إسرائيل بالصواريخ؛ ولما تدخلت واشنطن مع مصر وقطر للتهدئة، قررت واشنطن عزل حركة “حماس”، التي تقود المقاومة وتحكم غزة، وهي التي أبرمت اتفاق الهدنة باعتبارها الطرف الفلسطيني المقاوم.

ولكن واشنطن عمدت إلى استبعاد “حماس” من أية ترتيبات، علماً بأن الهدنة أبرمت معها، وأن مصر تتشاور مع الحركة بالنسبة للهدنة والأسرى وإعادة الإعمار.

هذا المقال يهدف إلى تقديم السوابق الأمريكية بالتفاوض مع الطرف الآخر المقاتل حتى ندعم الموقف المصري ونوضح لواشنطن أن انحيازها الأعمى لإسرائيل أعماها عن معاملة “حماس” كما عاملت السوابق التي تعييها واشنطن جيداً.

هنا، سنبادر إلى بيان الفرق بين حركة “حماس” وغيرها، فالموقف الأمريكي راجع إلى 3 أسباب، وهي:
السبب الأول: أن الأمر يتعلق بإسرائيل التي أعادتها “حماس” والمقاومة إلى ما قبل قيامها، وكشفت المواجهة العسكرية عن دروس لا يمكن تجاهلها.
السبب الثاني: أن واشنطن تريد القفز فوق المستجدات التي غيرت وجه الصراع تماماً، بحيث صارت أية هدنة هي توقف مؤقت، وأن معركة فاصلة سوف تقع حتماً في المستقبل لكي تقطع إن كانت إسرائيل تلتهم كل فلسطين، أم أن فلسطين هي بديل عن إسرائيل في الأراضي الفلسطينية.
السبب الثالث: أن واشنطن مهدت الوسط العربي لموالاة إسرائيل، ووصم المقاومة من جانب إسرائيل بالإرهاب، على النحو الذي قررته الجامعة العربية.

ربما كان الفارق الموضوعي بين حالة فلسطين والحالات السابقة هو أن الحالة الفلسطينية حالة فريدة في كل شيء، فلم يحدث في التاريخ أن مجموعة من اللاجئين يزعمون أن لهم حقاً في البلاد التي جاؤوا منها. فبعد أن نشأت علاقة خاصة بين واشنطن وإسرائيل – التي تعاني من أزمة الشرعية –نذرت الأولى لدعم الباطل الإسرائيلي، والأهم أنها مكنت لإسرائيل عند الحكّام العرب بحيث صار ولاء الحاكم العربي لإسرائيل هو الضمان الوحيد لبقائه في منصبه والتستر على فساده؛ فرضا واشنطن عنه وعن سياساته، هو بات مصدر شرعية الحاكم العربي.

وما دامت واشنطن تشجع إسرائيل على تنفيذ مشروعها وأن المقاومة هي التي تعتدي عليها، فإن واشنطن تعادي المقاومة وتعتبرها إرهاباً، وتسعى إلى توسيع الشقاق بينها وبين السلطة الفلسطينية؛ لذلك، تركز على أن السلطة هي الشرعية الفلسطينية، وهي المخولة بتقديم كل المساعدات الدولية لإعادة إعمار غزة، كما أن واشنطن لا تعترف بغير السلطة ممثلا للشعب الفلسطيني. هذه الخصوصية تتفرد بها الحالة الفلسطينية وحدها.

أما السوابق الأمريكية التي نود الحديث عنها، فيقع أبرزها في ما يلي:
1. في كوريا، حدثت مواجهة دولية بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، وتدخلت الأمم المتحدة بدفع من واشنطن وأبرم اتفاق جنيف ووقعت عليه الكوريتان الشمالية والجنوبية برعاية دولية العام 1954.
2. في فيتنام، اضطرت واشنطن إلى التفاوض مع الفيتناميين حتى تخرج من المستنقع الذي ورطت نفسها فيه، حيث استمر عدة أعوام، لكن اللافت في فيتنام أنها وبأكملها كانت تقاوم الغزو الأمريكي لها.
أما في الحالة الفلسطينية، فقد صار الشعب كله مقاوماً، وتجاوز المقاومة المسلحة وصار حاضناً لها، كما تجاوز السلطة الفلسطينية؛ ومهما كان غتفاق إسرائيل مع السلطة، فإنه لا يلزم الشعب الفلسطيني والمقاومة في نفس الوقت. ولذلك، إن أقصر الطرق هي الاتفاق مع المقاومة الممثل الحقيقي للشعب الفلسطيني في طبعته الجديدة.
3. في أفغانستان، تفاوضت واشنطن مع حركة “طالبان” في قطر، وأبرمتا “إتفاق الدوحة” الذي ينص على جلاء القوات الأمريكية، بعد أعوام من الغزو الأمريكي والقتال، حيث يتم الإعداد لمفاوضات بين “طالبان” والحكومة الأفغانية. فحري بواشنطن أن تعترف بالمقاومة وتتحدث معها.
4. في الجزائر، اضطرت فرنسا إلى التفاوض مع جبهة التحرير بعد عقود من الاحتلال الدموي، ولكن الشعب الجزائري كله قدم أكثر من 1.5 مليون شهيد، حيث مثلته – حينها – في المفاوضات جبهة التحرير.

من هنا، يجب أن تدرس واشنطن هذه السوابق، وتعترف بالطرف الشعبي الأكثر فعالية إذا ما أبدت “حماس” استعدادها للاعتراف بإسرائيل، في حين أعلنت الحركة أنها ليست مستعدة له.

مصدر الصورة: الخليج أونلاين.

موضوع ذا صلة: الصراع مع إسرائيل: من صراع عربي إلى نزاع فلسطيني محدود

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر