بعيداً عن صخب وسائل الإعلام حول ما يحدث في المنطقة العربية وبالأخص في محيط فلسطين وجنوب لبنان وسوريا، صدحت حناجر العديد من المحللين والخبراء العسكريين، بتوقعات تشير إلى أن ثمة حرب قادمة سيكون لهيبها حارقاً للجميع، لكن هذا بعكس توقعاتي التي سأقوم بتفنيدها تباعاً، بموجب متابعة دقيقة للأوضاع ليس الحالية فقط، بل من الممكن القول، كمتابع للحالة الفلسطينية منذ بداية الاحتلال أصبحنا نعي تماماً وندرك كيف يفكر العدو الصهيوني الذي تتوالى تعريته وأنه “أوهن من بيت العنكبوت”.
على الصعيد الشخصي، أشجب وأستنكر تصرفات الكيان المحتل حول ما يحدث في فلسطين، وانتهاكه الحالي لم يكن الأول، ولن يكون الأخير إذا لم يتم إيقافه عند حده، اليوم سئم الشعب الفلسطيني من بيانات التنديد والاستنكار، ويحتاج إلى خطوات ملموسة توقف غطرسة الكيان المحتل، وبكل شرف وفخر أعلنت في بيان سابق في مركز لجنة القدس لجمعية المحامين الكويتية الذي أمثله أننا في الكويت نقف مع فلسطين وسندعمها قانونياً ونحاول وقف جرائم الاحتلال في المحافل الدولية بالأساليب القانونية.
بالعودة إلى التصعيد الحالي، لن أتنبأ بل سأقول بتجرد، إني أستبعد حدوث صراع عسكري واسع النطاق بين الكيان الصهيوني والدول العربية، الآن نشهد تفاقماً آخر للصراع الفلسطيني “الإسرائيلي”، واسمحوا لي أن أذكركم بأن هذا الصراع بدأ بقرار الأمم المتحدة عام 1947 بإقامة دولتين في فلسطين – “إسرائيلية” وفلسطينية، ومن المعروف أن هذا الأمر، أثار عدداً من الصراعات العربية “الإسرائيلية”، ولم يتم حل هذا الصراع حتى الآن، وهو ما يثير هذه التفاقمات الحالية.
أما أن يكون هناك صراعاً عسكرياً مفتوحاً وواسع النطاق بين الكيان الصهيوني والدول العربية يكاد يكون مستحيلاً، لكن من وجهة نظري في سيناريو من المرجح أن يحدث وهو أن الكيان الصهيوني سيضرب جنوب لبنان، رداً على الأحداث الأخيرة، الضربات ستكون محدودة، لأنه بالمقابل قد يمطر شمال الكيان بالصواريخ والجميع يعرف أن ذلك سيحدث، فقبل بضعة أيام، أطلقت عدة صواريخ باتجاه الكيان الصهيوني من قطاع غزة، وقد أصاب أحد الصواريخ مصنعاً في منطقة سديروت، وسقط عدد آخر في مناطق مفتوحة، وفي هذا رسالة واضحة الدلالة لمن يعرف ما الذي ينتظر المنطقة.
بالمقابل، أثارت آلاف الاحتجاجات التي اجتاحت مدن الكيان الصهيوني، مرة أخرى مسألة النفوذ السياسي المتبادل لواشنطن والقدس الغربية على سطح النقاش العام، فقد دعا البيت الأبيض مكتب بنيامين نتنياهو علانية إلى التخلي عن الإصلاح القضائي، على هذا رد رئيس الحكومة الصهيونية بأنه لا يتخذ قرارات بناء على ضغوط خارجية، بدوره قال وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إن “إسرائيل دولة مستقلة وليست مجرد نجمة أخرى على العلم الأمريكي”.
وهذه ليست المرة الأولى التي تُتهم فيها الإدارة الديمقراطية للبيت الأبيض بالتدخل الجسيم في الحياة السياسية الداخلية للكيان الصهيوني، ففي عام 2015، مولت واشنطن، من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (وكالة يتم تعيين قيادتها مباشرة من قبل رئيس الولايات المتحدة وهي جزء من مجلس الأمن القومي)، مؤسسة صوت واحد – One Voice، التي شاركت، من بين أمور أخرى، في الدعم الإعلامي لخصوم نتنياهو.
ومن المعروف أنه فور انتخاب نتنياهو في نوفمبر 2022، أعلنت وزارة العدل الأمريكية إعادة فتح تحقيق في مقتل مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة خلال إحدى عمليات الجيش الإسرائيلي، كما أجري تحقيق بالتعاون مع وزارة الخارجية إلى أن وفاة الصحفية كانت حادثاً مأساوياً، ومع ذلك، اختلفت وزارة العدل الأمريكية فجأة مع هذه الاستنتاجات، ويشار إلى أن المدعي العام الأمريكي ميريك جارلاند، أصبح البادئ بالتحقيق الجديد.
ومن الواضح أيضاً، أن رفض رئيس الحكومة الصهيونية لتزويد أوكرانيا بالسلاح لعب أيضاً دوراً معيناً في فتور العلاقات مع الولايات المتحدة، وإن كان الأمر خجولاً بعض الشيء.
وهنا لا بد من فهم العقيلة الأمريكية في فترة رئاسة الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن مهندس تقسيم الشرق الأوسط وأفغانستان، أن سياسته في الشرق الأوسط تخضع لتغييرات مستمرة، أولاً، يتعلق هذا برغبته الأولية في استئناف الاتفاق النووي مع إيران، وهو أمر غير مقبول بالنسبة للكيان الصهيوني، لكن في الواقع، فشلت هذه المبادرة، كما لم يكن من الممكن وضع أجندة جديدة، واستمر البيت الأبيض في السير على خطى إنجازات إدارة ترامب، في الوقت نفسه، فعل اليمين المتطرف الذي وصل إلى السلطة في الكيان الصهيوني الكثير لتغيير الموقف تجاه بلدهم في اتجاه سلبي، ونتيجة لذلك، وصلت العلاقات الأمريكية “الإسرائيلية” إلى طريق مسدود في عدد من المجالات، حيث لا تسمح بتنفيذ أي تعهد جاد، سواء كان الملف الإيراني أو السوري، أو مشكلة التسوية الفلسطينية “الإسرائيلية”.
أيضاً، يتخذ الديموقراطيون بشكل عام موقفاً أكثر ليونة في الصراع الفلسطيني “الإسرائيلي”، والذي لا يسعه إلا أن يزعج المحافظين المتطرفين من معسكر نتنياهو، لكن على اية حال، الحزب الديمقراطي، موقفاً مؤيداً للكيان الصهيوني، لكنه أقل وضوحاً بكثير من الجمهوريين، بالإضافة إلى ذلك، فإن القدس الغربية غير راضية عن نهج الديموقراطيين تجاه قضية الاتفاق النووي ونظام العقوبات ضد إيران كذلك الأمر.
الآن على المجتمع الدولي إدانة التوغل العسكري الصهيوني في المسجد الأقصى المبارك، دون أي حديث عن مفاوضات، لأن هذا الوضع ينذر بالتدهور في الأيام المقبلة إذا واصل كيان الاحتلال هجماته على الأقصى المبارك، والذي هو “الخط الأحمر” للمسلمين في جميع أنحاء العالم، لكن من الواضح أن التركيبة اليمينية المتطرفة للحكومة الصهيونية الحالية تزيد من المخاطر واحتمال حدوث رد واسع النطاق من جانبهم في حالة وقوع هجمات صاروخية على أراضيها، وهذا قد يرفع بدوره احتمال هجوم صاروخي واسع النطاق على غزة بشكل كبير.
ونتذكر أنه في عام 2018، أدى الخلاف داخل الائتلاف الحاكم للكيان الصهيوني، حول الحاجة لضرب غزة واتفاق وقف إطلاق النار في نهاية 2018 إلى انزلاق البلاد في أزمة سياسية داخلية – حينها غادر وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان التحالف، وظهور موقف معتدل مماثل لنتنياهو والآراء المتطرفة لبعض السياسيين في حكومته قد يؤدي اليوم إلى جولة جديدة من الأزمة.
ولكن، على المدى القصير فقط، إذا لم يتخلَّ الصهاينة عن خططهم لتوسيع المستوطنات اليهودية غير الشرعية، فسيؤدي ذلك إلى جولة ثانية تصاعد المواجهات، وهذا يضع طريق المفاوضات نحو تنفيذ استراتيجية سلام، على نحو مستجيل تحقيقه، والاختبار الأول بدأ الآن شهر رمضان الذي رسم معالم مواجهة لا تشبه مواجهات سابقة، ونتذكر أيضاً في شهر رمضان تحديداً العام 2021، أدى قرار أصدرته محكمة إسرائيلية بطرد عائلات فلسطينية من منطقة الشيخ جراح في القدس إلى إطلاق صواريخ بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، نتيجة للنزاع الذي استمر 11 يوماً خلّف عشرات الشهداء الفلسطينيين، وفي أبريل 2022، دخل متطرفون يهود بقيادة إيتامار بن جفير (وزير الأمن القومي الإسرائيلي الآن) إلى الحرم القدسي، مجمع المسجد الأقصى وأقاموا شعائر دينية يهودية هناك، وهذا محظور بموجب الاتفاقية الضمنية الحالية بين الكيان الصهيوني وفلسطين والأردن، وأدى الحادث إلى احتجاجات واشتباكات بين الفلسطينيين والشرطة.
هذا كله يقود إلى أننا نتعامل مع عدو غاشم لا يحفظ أياً من عهوده أو اتفاقاته، استغل الظروف التي تعاني منها المنطقة، ظناً منه أنه الأقوى، لكن بكل صدق وتجرد أقولها، لقد وصل الحنق إلى أقصى درجاته، والجميع ينتظر رد الصاع بألف، فاستبعاد الحرب ليس لأن المنطقة عاجزة، بل لأن الكيان اليوم في اضعف حالاته، مهما بدا له أنه يملك من القوة الكثير، والتجارب تتحدث عن الكثير، لكنه بارع في أعمال الغدر من تنفيذ اغتيالات وما شابهها، أما البعض من حكومات هذه الأمة العربية والإسلامية لم نعول عليها سابقاً لننتظر منها أي شيء اليوم، ففلسطين ولادة، وسواعد أبنائها السمر كفيلة برد غدر بني صهيون، وكلنا حائط صد للمرابطين والأيام ستثبت هذا الأمر.
مصدر الصورة: وكالة الأناضول.
إقرأ أيضاً: خطيب المسجد الأقصى: أوقفوا وحشية الاحتلال وإحموا القدس من التهويد
عبد العزيز بدر القطان
كاتب ومفكر – الكويت