مجد إبراهيم كاسوحة*

عندما تخطر كلمة “صراع” بأذهان الناس، عادة ما يفكرون بالحروب أو العنف. غير أن العنف موجود على كافة مستويات المجتمع وفي جميع المواقف. من السهل علينا نسيان أننا نواجه الصراع في حياتنا اليومية، وقد يحدث العنف كنتيجة لتضارب المصالح بين شخصين أو مجموعتين.

الصراع من حقائق الحياة. فعلى الرغم من وجود البشر كلهم على صورة واحدة، إلا أننا نختلف بالرؤى والآراء. وعادة ما يحدث الصراع بسبب عدم احترام حاجات وآراء بعضنا البعض، لكننا غالباً ما نقوم بحسم هذا الصراع.

في كثير من الأوقات، يمكن للتواصل الجيد أن يتغلب على الإختلافات، والوصول إلى اتفاق قبل إنفجار العنف، وهذا ينطبق بشكل صحيح بدءاً من المستوى الشخصي وصولاً إلى المستوى الدولي. فعلى المستوى الشخصي، عادة ما ندرك أننا نتغلب على اختلافاتنا. من المهم أن نتذكر أن الصراع يمكن أن يكون عاملاً خلاقاً؛ إذ أنه، وفي بعض الأحيان، يصبح ضرورة لإحلال العدل مكان الظلم. فمن الممكن أن يتيح الصراع فرصة لتأسيس أنظمة سياسية واجتماعية جديدة كما يستطيع أن قاعدة لتشكيل المستقبل. ولكن عندما يغلب العنف على الصراع، فإن ضرره يفوق فائدته.

عادة ما يكون من الصعب بعد إستخدام العنف في الصراع لإقتناص الفرص المتاحة لتحقيق مستقبلٍ أفضل بسبب تفشي الدمار في البنية التحتية وسبل المعيشة، وانهيار الثقة والمعاناة التي تسببت فيها الفواجع والصدمات والأحزان والغضب. يبدأ الصراع عند عدم اتفاق الأشخاص على قضية ما. وتشمل قضايا الإختلاف في الصراعات الحالية واسعة النطاق: الأرض، اللغة، الديانة، الموارد الطبيعية، الإنتماء العرقي، السلالة، الهجرة، أو حتى القوى السياسية. وفي بعض الأحيان تتوافر أكثر من قضية. وهذا الأمر ينطبق على ما يحدث من صراعات على المستوى المجتمعي.

فعلى الرغم من أن الصراع يبدأ بسبب الإختلاف، عادة ما تتواجد تأثيرات خلفية تغذي جذور هذا الصراع أهمها على الإطلاق السلطة أو النفوذ، يأتي بعدها عدد من التأثيرات الأُخرى كالثقافة والهوية والحقوق.

لكي نُدرك ما الذي حدث في مجتماعتنا العربية، يجب معرفة أنواع السلطة وتبعاتها وتفوقها أو إندماجها. إن النفوذ هو القدرة على عمل شيء أو التحكم أو التأثير على ما يفعله آخرون. والسلطة تُحدد من يتخذ القرارات وماهيتها. وعادة ما تظهر السلطة عند تفاعل شخصين أو أكثر.

على سبيل المثال، إن السلطة سمة من سمات الشخصيات العامة الذين يتخذون القرارات، كرجال السياسة ومديري المؤسسات التجارية. هؤلاء الأشخاص يمتلكون قدراً وافراً من السلطة أو النفوذ مقارنة بالأشخاص الذين يمثلونهم أو يعملون لديهم أو يشترون منهم. كذلك، هناك اختلافات في السلطة في العلاقات اليومية، كالتأثير القائم على السن والنوع والتعليم والإلمام بالقراءة والكتابة والموقع على ما لدينا من سلطة أو قدر السلطة التي سيميزها الأخرون.

للسلطة مصادر عديدة. فهي ليست قوة عسكرية فحسب، وإنما يمكن أن تشمل عدة نواحي أُخرى يتمتع كل شخص بقدر معين منها. أما حالة “العجز” فتحدث حينما يعتقد الشخص، الذي يمتلك السلطة، بأنه عاجز عن إستخدامها أو حينما يميز الآخرون سلطته. يفتقر كثيرون إلى الثقة بأنهم يستطيعون التأثير على المواقف، فيعتقدون أنها خارج نطاق سيطرتهم. لهذا، فإن مساعدة الآخرين على اكتساب الشعور بالقيمة الذاتية والثقة بالنفس هي الخطوة الأساسية الأولى في عملية التمكين؛ فكلما زادت الثقة لدى الشخص، زادت لديه الدوافع نحو المبادرة والعمل مع الآخرين على تحدي الإختلال في السلطة – النفوذ ما يزيد من حدة إشتعال الصراع بسبب تفاوت التوازن في القوى بين المجموعات المختلفة، أو التأرجح بصورة غير عادلة.

ربما نجد إحدى الفئات تسيء استغلال نفوذها أو تريد مزيداً من النفوذ أو تخشى أن تفقده. ربما تريد فئة أخرى تحدي من هم في السلطة من أجل تحسين ميزان القوى. من المهم أن نلاحظ تباين السُبل التي تستخدم بها السلطة، فمن الممكن استخدامها في إحدى مواقف الصراع إما لتزكيته وزيادة حدته أو للعمل على بناء الصالح العام.

إن الذي حدث في معظم أجزاء العالم العربي هو من نهضة فكرية غير متزنة تم توجيهها من الخارج نحو مآثر السطلة وقوتها وسُبل اتفاق الشعب للوصول إلى هذه السُلطة حيث يمكن أن تكون السُلطات مختلفة الأشكال بين الواقع والتطبيق، ولنأخذ ليبيا الخضراء كمثال. هي بلد كان يُعاني من نهوض اقتصادي ورخاء من الناحية الإقتصادية ولكنه يُعاني من انكماش اجتماعي متألب بالقبلية والعشائرية، وهو الأمر الذي شكل منطلقاً لتفتيت الشارع إلى فئات غير واعية أدت لصدامات غير واقعية بعيدة عن الواقع العام.

ما كان ينقص ليبيا، قبل الحراك العشوائي الذي حصل، هو التوجيه والتوعية الفكرية حول سُبل الحياة ومآثرها والميزات التي كان يتمتع بها الشعب الليبي الشقيق قبل الخلل الذي نشأ بشكل صغير وصوِّر على أنه خلل ضخم في البُنية والإقتصاد. وما نراه اليوم من تفتت وتشظي ناتج عن عدم معالجة الواقع الذي راهن على المجتمع القبلي متعدد التوجهات، إذ لم يخض أحد تجربة تصحيح البوصلة لأي شعب من شعوب منطقة شمال أفريقيا أو العالم العربي بشكل عام حتى الآن.

وبالنظر إلى الأزمة المصرية التي نشأت ضمن أكبر بلد عربي على الإطلاق من حيث النفوذ السياسي والعسكري، يمكن إعتبار إن ما حدث في مصر هو بث فكري مُتأجج نحو طائفية عامة عامرة بتوجه سياسي متطرف، وهو الأمر الذي أدى إلى صعود الإخوان المسلمين آنذاك وفي نفس الوقت أدى إلى سقوطهم، حيث أن السلطة لم تكن واضحة المعالم أبان حكمهم لكونه لم يبنَ على هيكلية حقيقية وواقعية.

أما في تونس، بلد الحراك الأول، فكانت تعاني فساداً سلطوياً متشظي الأجزاء أدى إلى انفراط العقد الإجتماعي بطريقة غير متوقعة لأي أحد، إذ أن تشكيل الدولة قد بُني على وجود أفراد بعيداً عن التمثيل العام للمجتمع. فتحكم هذه المجموعة بمآثر شعب كامل، كان السبب وراء إيقاض الشرارة التي نتجت عن تصرف فردي لأمر فردي كان بالإمكان معالجته بالطريقة القانونية الكاملة بصوابية القانون والتطبيق الصارم له على كامل المجتمع دون أدنى تمييز. هذا الأمر نفسه وقع في بريطانيا، العام 2011، خلال الحراك الذي اجتاح عدة مدن في المملكة المتحدة آنذاك ودام أسبوعاً واحداً قبل أن تقوم السلطات بوأده عنوة وبقوة السلاح المقونن ضمن نظام إجتماعي عام.

وبالحديث عما حدث في سوريا، يمكن القول بأنه أمر بعيد كل البعد عن ما حصل في باقي البلاد العربية. فما حدث، كان حراكاً جزئياً قاده الإخوان المسلمون واليساريين المتشددين الذين يعانون من قدرة البلاد على إدارة شؤونها بطريقة واقعية تحقق دوراً فعالاً على مستوى المجتمع ككل، في حين أنها قد أمنت به معظم نواحي الحياة، كتوفير التأمين الصحي والتعليم المجاني الذين نص عليهما الدستور وطبقتهما القوانين.

من هنا، يمكن القول بأن المؤسسات المسنودة من الشعب هي التي أمنت صمود الدولة في وجه العاصفة الهوجاء التي قادتها أجهزة استخباراتية عالمية لتدمير هذه البلاد نهجاً وسياسة، وهي التي أمنت بقائنا كدولة ذات قرار سيادي حُر مقاد داخلياً في شتى المحافل الدولية. إضافة إلى ذلك، أن صمود الدولة عسكرياً أدى إلى انتصار سياسي أعاد النظام العالمي إلى القطبية الثنائية، معسكر شرقي وآخر غربي. فعلى ظهر مآثر بطولات جيش سوريا الباسل وقيادتها الحكيمة، أُعيد النظام الدولي إلى وضعه السابق قبل إنهيار الاتحاد السوفياتي. فسوريا بعد الحرب لن تكون هي نفسها بعد إنتهائها وإن كانت تعاني اليوم من بعض الجزئيات الإجتماعية والإقتصادية لكنها باتت قلباً واحداً وقوة ضاربة في عمق المنطقة والعالم.

ختاماً، لتجنب الأزمات اللاحقة يجب تحليل المجتمعات عبر طبقاتها السياسية والإقتصادية والدينية ومعالجة أي خلل قد ينجُم عنه أي إمكانية لقيام صراع مستقبلي محتمل.

*باحث سوري

مصدر الصور: الميادين – الأناضول.