بدأت الحرب في غزة رسمياً يوم السابع من أكتوبر 2023 ولكن حماس ليست هي التي بدأت الحرب، فحرب الإبادة الإسرائيلية مستمرة وفقاً للمشروع الصهيوني منذ قيام إسرائيل عام 1948 وهي تجسيد لهذا المشروع، ويقضي هذا المشروع بإفراغ فلسطين من سكانها واستعباد من بقي منهم تمهيداً لجلب يهود العالم إلى فلسطين باعتبارها وفق هذا المشروع الصهيوني، الأرض المقدسة والفردوس المفقود، وفور بدء الصراع العسكري بين المقاومة وبين القوات الإسرائيلية تدخلت ثلاثة دول على أساس الوساطة وهي مصر وقطر والولايات المتحدة. وقد جرت العادة أن الأطراف من غير أطراف الصراع يتخذون أحد موقفين:

إما الدخول في الحرب مباشرة كحلفاء، وإما الوقوف على الحياد مع ميل لأحد الطرفين المتصارعين. وقد اتخذت الولايات المتحدة موقفاً علنياً متناقضاً وهي تزعم أنها محايدة في الصراع.

وعلى الجانب الآخر تمد إسرائيل بكل ما يلزمها لدرجة أن المراقبين قدروا أن حرب الإبادة تقودها الولايات المتحدة شخصياً يداً بيد مع إسرائيل ولذلك عندما صحا ضمير طيار أمريكي في أعمال الإبادة أحرق نفسه تكفيراً واحتجاجاً على إبادة إسرائيل لغزة وذلك أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، ولذلك طالب الكثير من المراقبين باتهام الولايات المتحدة أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب أعمال الإبادة وانتهاك اتفاقية الإبادة التي سعت إسرائيل وأمريكا خلال الحرب العالمية الثانية إلى إبرامها قبل يوم واحد من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وزعموا أن هذه الاتفاقية تنسجم مع الإعلان فالاتفاقية كانت جاهزة في 9 ديسمبر 1948 والإعلان صدر في 10 ديسمبر 1948 ثم أن ألمانيا على نحو ما فصلنا في مقال سابق تواطأت مع اليهود لارتكاب المحرقة اليهودية في ألمانيا حتى تبرر نقل اليهود إلى فلسطين وحتى تستعطف العالم معهم لذلك فرض على أوروبا بدفع من اليهود وإسرائيل طوقاً من القداسة حول الهولوكوست وهي كلمة يونانية قديمة معناها إحراق الكل ثم أن الأمم المتحدة خصصت يوماً في يناير من كل عام للتذكير بهذه المحرقة فلما قامت إسرائيل بمحرقة أشد في غزة على الهواء مباشرة بخلاف المحرقة اليهودية التي لم يشهدها أحد وأنها رواية من طرف واحد قبلت الحكومة الألمانية ضد رغبة الشعب الألماني ابتزاز إسرائيل لها فلو كانت ألمانيا فعلاً ارتكبت الهولوكوست بدون الاتفاق مع إسرائيل والصهيونية العالمية لكانت ألمانيا متهمة بانتهاك اتفاقية الإبادة ولكانت أول حالة ترفعها إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية خاصة وأن المحكمة محكمة مدنية أجبرت على قبول الاختصاص باتفاقية جنائية لأن المحكمة الجنائية الدولية تراخى إنشاؤها لعدة عقود ولم تر النور إلا في عام 1998 وبدأت العمل عندما اكتمل النصاب المطلوب لسريان ميثاق روما في أول يوليو 2002.

ويترتب على ذلك أن الولايات المتحدة لا تصلح وسيطاً لأنها مشاركة لإسرائيل في حملة الإبادة الجماعية لفلسطين وأما قطر ومصر فإنهما وسيطان غير محايدين وبهما ميل لإسرائيل وأحياناً ميل للمأساة الإنسانية للفلسطينيين ومصر بالذات انتقلت من حجر عثرة أمام المشروع الصهيوني إلى مسهل لهذا المشروع ضد الأمن القومي المصري منذ إبرام اتفاقية السلام التي فهمها حكام مصر منذ أنور السادات على أنها السبب في عدم تعاطف مصر مع الفلسطينيين وهذا غير صحيح.

على كل حال أسفرت الوساطة العربية المدعومة من واشنطن في وقف اطلاق النار لمدة عشرة أيام ثم استأنفت إسرائيل عمليات الابادة والتجويع والحصار ضد الفلسطينيين ولا تزال الجهود مستمرة لإبرام اتفاقية لوقف اطلاق النار رغم أن المراقبين والوسطاء يلقون باللوم على إسرائيل وأنها تعرقل وقف إطلاق النار ولا تحترم قرارات ومبادئ القانون الدولي الإنساني ونداءات كبار المسؤولين الدوليين وعلى رأسهم الأمين العام للأمم المتحدة، وأكدت إسرائيل بأنها لن توقف الحرب حتى تنهي المقاومة وتحصل على المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة دون مقابل من المعتقلين الفلسطينيين وواكب هذا الموقف نغمة غذتها إسرائيل وأمريكا وهي الهجوم على المقاومة صراحة واتهامها بالتعنت في مفاوضات الهدنة مما يلقي عليها اللوم بإبادة الشعب الفلسطيني وتقول إسرائيل والأوساط العربية الأخرى المؤيدة لإسرائيل أن المقاومة تستطيع إن أرادت أن تقبل شروط إسرائيل مادامت إسرائيل مصرة على إنهاء المقاومة وبوسع المقاومة أن تستسلم لإسرائيل وتنهي مأساة الفلسطينيين بل أن الوسطاء العرب يتفقون مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل في بحث مستقبل غزة والمشكلة أن العالم كله متواطئ مع إسرائيل وأن المقاومة هي وحدها تعتمد على الله وحده في مقاومة الاحتلال وتراهن إسرائيل على أن طول مدة الحرب ترهق المقاومين وتستنفد أسلحتهم وذخائرهم وفي النهاية تستسلم المقاومة لإسرائيل وتقع في شراكها ولكن المقاومة من ناحية أخرى صامدة على المستوى العسكري ومتمسكة بصمودها على المستوى السياسي وليس من حق أحد أن يوجه النصح للمقاومة مادام عاجزاً عن مساندتها وسوف يقيم التاريخ دور الوسطاء العرب ولكن مصر بالذات يجب أن تظهر الحياد ولكن تبطن الدعم للمقاومة لأن مصلحة الوطن المصري في إضعاف إسرائيل على المدى البعيد وفي زوالها في نهاية المطاف لأنها العدو الأوحد للوطن المصري وإذا كان الشعب يدرك هذه الحقيقة بغريزته فأولى بالحكومة أن تضع الخطط اللازمة لهذا الاتجاه مهما كانت إغراءات وضغوط كرسي الحكم ولا نريد لحكامنا أن يصمهم التاريخ بغير ما نرضى لهم ولذلك ننبه إلى هذه الحقيقة لعلها تفيد لهذه المرحلة.

والمعلوم أن الصراع العسكري يلزمه طرف ثالث والطرف الثالث قد يتدخل في تسهيل تواصل الطرفين المتصارعين وتسمى هذه المرحلة المساعي الحميدة good officesثم يتعمق دور الطرف الثالث فيصبح وسيطاmediator والوسيط له شروط لنجاح الوساطة فلايمكن أن تفرض الوساطة على أطراف الصراع وإنما يطلب أطراف الصراع أنفسهم هذه الوساطة وأدرك حساسية موقف الوسيط العربي في هذا الصراع المفتوح الذي ينتهي إما بخروج المقاومة في هذه المرحلة دون اختفائها مادام الاحتلال قائماً وإما بزوال إسرائيل عن طريق الهجرة العكسية وسوف ندرس النذر الواضحة لفناء إسرائيل ولاشك أن صمود المقاومة وكسرها لهيبة الجيش الإسرائيلي محل نظر الجيوش العربية المحيطة بإسرائيل ويتذكرون أن هذا الجيش الذي لايقهر كما كانوا يزعمون سحق أكبر الجيوش العربية الثلاثة المصري والسوري والأردني في وقت واحد عام 1967 وكان هذا النصر مستحقاً وفتح الباب لانسياب المشروع الصهيوني وتمكنت إسرائيل بدعم من واشنطن من التسلل إلى القوة الأكبر في المنطقة وهي مصر فأحدثت فيها عطباً لايعلم حدوده إلا الله.

والخلاصة أن مصر يجب عليها أن تدرك أنه يمكن التوفيق بين مصالح الوطن وحسابات السلطة بأن تعلي مصالح الوطن على هذه الحسابات مهما كانت الضغوط والاغراءات لأن الوطن باق والسلطة متغيرة ولابد أن تدرك السلطة في مصر أن إسرائيل تستهدف مصر في الأساس وأن مصر تستطيع أن تزرع الأشواك أمام الوحش الإسرائيلي مادام هذا الوحش يسعى لتدمير مصر والتآمر على وجودها ولذلك ننبه حكام مصر على كل المستويات إلى إسرائيل وخطرها على هوية المنطقة ويكفي أن السادات عندما تقارب مع إسرائيل وواشنطن كانت بداية التدهور في مصر والمنطقة وتمكين إسرائيل من كافة الدول العربية ومصلحة مصر تقتضي ألا تترك مكانها في قيادة العالم العربي ولكن خطبة بيغن في كامب دايفيد عام 1978 كانت فاصلة في الموضوع حيث قال إنه يجب إخراج مصر من العالم العربي لأن مصر تقود العالم العربي نحو معاداة إسرائيل وقال أيضاً أثناء صياغة معاهدة السلام التي وضعتها واشنطن وإسرائيل وقبل السادات فرضياتها الخطيرة منها أنه يجب حرمان الجيش المصري من سيناء حتى تكون رهينة في يد إسرائيل وقد أودع الرئيس كارتر وثيقة مهمة ضمن وثائق معاهدة السلام لأن السادات وبيغن أصر كل منهما على موقفه ولكي يشجع كارتر بيغن على تفكيك المستوطنات في سيناء كتب له وثيقة مفادها أنه يستطيع أن يعود إلى سيناء إذا تشكلت في القاهرة حكومة معادية لإسرائيل ورغم أن الإخوان المسلمين قد أكدوا خلال حكمهم أن لن يمسوا اتفاقية السلام مع إسرائيل إلا أن اليهود لم ينسوا كتائب الإخوان في فلسطين عام 1948 وأن اليهود ينظرون إلى الصراع على أنه صراع ديني بينما الصراع في الواقع متعدد الأبعاد جوهره المشروع الصهيوني واغتصاب فلسطين وتحويل العروبة إلى الشرق الأوسط الصهيوني، وكادت إسرائيل تقترب من هذه النقطة قبل السابع من أكتوبر ولذلك فالحقائق الثابتة نلخصها في الآتي:

الحقيقة الأولى: أن من مصلحة الوطن المصري إضعاف إسرائيل أو زوالها.

الحقيقة الثانية: هي أن إسرائيل سوف تطالب صراحة بأحقيتها في مصر من المصريين بصرف النظر عن سفاهة هذا الزعم ولكنهم يعملون بجدية لتحقيقه وكان أولها إشارة بيغن للسادات في محادثات مينا هاوس عندما نظر إلى الأهرامات فزعم أن اليهود هم من بنى الأهرامات ورغم أن التاريخ يكذبهم إلا أنهم يكررون هذا الزعم بدون انقطاع.

الحقيقة الثالثة: هي أن سلامة الأمة العربية وقيادة مصر لها مصلحة مصرية خالصة.

الحقيقة الرابعة والأخيرة: لا يمكن الثقة في الولايات المتحدة فإنها تتلاعب بأقدار العروبة وتتمنى زوالها كما تتمنى مع إسرائيل كل الشرور لمصر والمصريين والذي يشك في ذلك يقرأ محاضرة السفيرة آن باترسون في إحدى الجامعات في منطقة واشنطن في الأسبوع الثاني من مارس 2024.

وأخيراً تتلخص تحديات الوساطة بين فلسطين وإسرائيل في أن إسرائيل تريد الثمرة كاملة ولا تعترف بالشعب الفلسطيني ولا مقاومته وتعتقد أن القوة لا حدود لها ثم أن الوسطاء العرب لا شك يدركون أن بقاء إسرائيل هو في القضاء على المقاومة والقضاء على مصر وعلى هوية المنطقة العربية تمهيداً لإقامة الشرق الأوسط الكبير مكان العروبة وإذا سمح الحكام العرب بذلك فإن المنطقة ستدخل في مرحلة من الفوضى بين الشعوب والحكام لأن الشعوب العربية والإسلامية يدركون حقائق الصراع.

مصدر الصور: أرشيف سيتا.

إقرأ أيضاً: الأساس القانوني والسياسي لتضامن ساحات المقاومة ضد الإبادة في غزة

السفير د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر