علوان أمين الدين*

لم تكن زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى البلد الذي يرفض الدخول إلى حلف الناتو، حتى الآن، زيارة عادية، بل أقل ما يمكن وصفها بأنها تقدم استراتيجي من جهة “الأخ الأصغر”، أي صربيا، لإختراق الجبهة الجنوبية الغربية لـ “أوراسيا”، بكافة الوسائل.

فـ “الرئيس الذكي” لم يفرض على هذا البلد خياران أحلاهما مر، بل ترك له حق “تقرير المصير” الأوروبي، بمعنى أنه ترك له حرية الدخول إليه من عدمه. لكن الوضع مختلف بالنسبة إلى العضوية في حلف الناتو، الأمر الذي يثير حساسية شديدة لدى موسكو، التي تسعى إلى منع دخوله بـ “الطرق السلمية”، وهو ما سنتطرق له لاحقاً.

منع تقسيم الأرثوذكس

دعي الصربيون إلى المشاركة في الترحيب بالرئيس يوتين وسط بلغراد وبالتحديد في كنيسة “القديس سافا” التي تعد من أهم المواقع الأرثوذكسية في العالم ومولت ترميمها جزئيا مجموعة “غاز بروم” النفطية الروسية.(1) هذا الإستقبال وبهذا المكان لم يكن عن عبث، بل أرسل إشارة مهمة الى إلعالم عن أهمية الكنيسة الأرثوذكسية ودورها في إعادة ربط ودمج من هم تحت جناحها.

يأتي كل ذلك في وقت تعاني فيه الكنيسة الأرثوذكسية من التقسيم، بين موسكو والقسطنطينية، حيث يرى الكثير من المراقبين بأنها تواجه الكثير من التحديات “فهي تقف اليوم أمام أخطار عدة، تدفع بها نحو المزيد من التشقق، بدفع سياسي – استخباراتي من الولايات المتحدة الأميركية، التي تستفيد من وجود أدوات لها داخل الجسم الأرثوذكسي (كما في أي دولة وكيان في العالم)، تساعدها في تحقيق أهدافها التقسيمية. الغاية الأسمى للأميركيين، بحسب سياسيين أرثوذكس، هي تشتيت الكنيسة الأرثوذكسية وطمس هويتها، في سياق الحرب السياسية بين واشنطن وموسكو.”(2)

ومن الجدير ذكره هنا أن منطقة البلقان تعد أحد معاقل الأرثوذكسية الأوروبية، فحوالي 98% من سكان اليونان هم من الرعايا الأرثوذكس. هذا الوجود الديني قد يسمح لروسيا بالتأثير، إذا لم نقل بالتدخل، على السياسات التي قد تستهدف النيل من “الأم الحنون”، موسكو.

في هذا السياق أيضاً، يبدو لافتاً حديث الرئيس السوري، بشار الأسد خلال اجتماعه بموفدين روس، الذي حذر من تقسيم الكنيسة الأرثوذكسية الإنطاكية في كل من سوريا ولبنان، حيث قال “إن محاولات تقسيم المؤمنين، تعتبر من المشاكل الهامة ليس فقط بالنسبة لكم، بل ولنا أيضاً. نحن اليوم نرى محاولات لتقسيم الكنيسة على أرضنا أيضاً هناك محاولة لتقسيم بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس في سورية ولبنان، كما يجري الحديث عن محاولات منح الإستقلال لمطرانية لبنان. وهذه العملية قد تستمر… عندما نرى محاولات اصطناعية لتقسيم الناس، وتقسيم الكنيسة، كما يحدث في أوكرانيا، من المهم جداً ان نلتقي ونحصل على المعلومات مباشرة. الحرب جارية اليوم، ليس فقط على سوريا، بل على العالم بأسره.”(3)

الإمساك بالبلقان

بالرغم من وعود جميس بيكر، وزير الخارجية الأمريكي في حقبة جورج بوش الأب، للرئيس السوفياتي الراحل، ميخائيل غورباتشوف كي يوافق على إعادة توحيد ألمانيا، بعدم تمدد الناتو إلى دول أوروبا الشرقية، إلا أن سياسة الرئيس الأمركي الأسبق، بيل كلينتون في العام 1994(4)، خالفت تلك الوعود وبدأنا نرى دخول عدد كبير من تلك الدول إلى عضوية الحلف. بالنسبة لروسيا، بدأ التهديد المباشر لها والتضييق عليها في فترة كانت تعاني من تداعيات تفكك اتحادها.

من هنا، يمكن القول بأن الرئيس بوتين يحاول “رد الصفعة” بإيجاد حليف يمكن أن يكون قاعدة انطلاق إلى أوروبا لإستعادة النفوذ خصوصاً بعد فقدانه ليوغوسلافيا، الحليف الأبرز إبان الفترة السوفياتية.

من هنا، تأتي المحاولة الروسية لـ “اختراق البلقان” خصوصاً وأن موسكو “لم تنجح في منع مونتينيغرو من الإنضمام إلى حلف شمال الأطلسي في 2017، والطريق نفسه تسلكه اليوم مقدونيا. وفي حال انضمت مقدونيا، ستصبح كل الدول المحيطة بصربيا، بإستثناء البوسنة، في دائرة نفوذ الحلف الأطلسي.”(5)

وفي مؤشر حسي لما ورد سابقاً، اشار مصدر عسكري روسي إلى أن وزارتي الدفاع الروسية والصربية اتفقتا على توريد بعض الأسلحة، كـ “30 دبابة من طراز “تي-72.أس” و30 عربة قتالية من طراز “بي.أر.دي.إم-2″، إضافة لذلك زودت روسيا صربيا في 2017 بست مقاتلات “ميغ 29”.(6)

أيضاً، يمكن الحديث هنا عن أهمية موقع البلقان ليس فقط لناحية أوروبا، بل لجهة أفريقيا كذلك، وهو موضوع طويل لن نتطرق إليه الآن لأنه يحتاج إلى الكثير من التفنيد.

الربط بالطاقة

من الملاحظ أن الرئيس بوتين يستعمل الغاز كسلاح “جذب” لا “أداة ضغط”، على الأقل في المدى المنظور، إذ يحاول إغراء الدول للإنخراط في مشاريع الطاقة الروسية بحيث تصبح مرتبطة لها بحكم الواقع، ومدافعة عنها بحكم الإستفادة الإقتصادية الكبيرة منها. وبالتالي، ستكون الشعوب، التي تقاسي من البرد، هي السلاح غير المباشر لروسيا في وجه المخططات الغربية المضرة بها.

فيما يخص صربيا، قال الرئيس بوتين “وقعنا اليوم اتفاقيات بقيمة قرابة 200 مليون يورو، إذا فعلنا كل ما اتفقنا عليه اليوم، فإن هذا الرقم سيرتفع إلى 600 مليون يورو” (7)، مشيراً إلى استعداد بلاده لإستثمار 1.4 مليار دولار عن طريق شركة “غاز بروم” قبل حلول العام 2025 في مد أنابيب مشروع “السيل التركي” إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر أراضي صربيا. (8)

ما هو مهم في هذا الموضوع، هو محاولة روسيا إلى استباق خط الغاز القادم من شرق المتوسط، الذي يضم كل من قبرص واليونان وإيطاليا واسرائيل (ومن الممكن أن تنضم مصر لاحقاً)، عبر البحر الإدرياتيكي إلى قلب القارة الأوروبية. وبالتالي، محاولة قطع الطريق عليه ووضع العديد من الدول الواقعة في تلك البقعة، وأهمها اليونان وإيطاليا وبلغاريا وصربيا وهنغاريا (9)، لا بل انخراطها في مشروع “السيل التركي” – الفرع الأوروبي، لا سيما مع وجود مخطط لإنشاء محطة للغاز المسيل في المنطقة الواقعة بين تركيا واليونان.

إضافة إلى ما سبق، هناك الكثير من المحللين السياسيين في العالم يرون بأن مسألة توصيل الغاز إلى أوروبا، عبر مشروع غاز “نابوكو” وغيره من أجل الإستغناء عن الغاز الروسي، كان الدافع الأساس لضرب وتفكيك يوغسلافيا، بحيث كنت “عقبة” روسية في وجه هذه المشاريع. بتفكيكها، يمكن تمرير الغاز القادم من قزوين، عبر تركيا، إلى أوروبا وبنفس الوقت إفقاد موسكو حليفاً رئيسياً في شرق أوروبا، وبالتالي إزالة بقايا “الأثر السوفياتي” من تلك المنطقة على أمل تبنيها السياسات المعادية لها، وهو ما يمكن رؤيته بوضوح من خلال الإسراع إلى إدخالها في الإتحاد الأوروبي وعضوية حلف الناتو.

في المقلب الآخر، تسعى واشنطن إلى التأثير على الجزائر، حليف روسيا الأفريقي، من خلال عقد صفقات لإبعاده عن موسكو، لا سيما وأن الجزائر تعتبر من أهم الموردين للغاز إلى القارة الأوروبية من جهة الجنوب، عبر خطين أساسيين إلى إيطاليا عبر تونس وإسبانيا. بالتوازي مع ذلك، يتم العمل على خط الغاز الواصل إلى المغرب من نيجيريا، على أطراف القارة لجهة دول المحيط الأطلسي، كرديف أو بديل للغاز الجزائري في حال عدم القدرة على جذب الجزائر للتموضع في المحور الطاقوي الغربي.

في الختام، يمكن تدوين بعض الملاحظات، في هذا التوقيت بالذات، وأهمها:

– إن الربط بالطاقة، والإستثمارات، والقوة العسكرية الروسية الصاعدة، تشكل عوامل “مغرية” لبلغراد من أجل البقاء خارج التنظيم العسكري الغربي.

– بات لصربيا اليوم ظهير دولي قوي يساندها وبالتالي تستطيع “المغامرة” بالوقوف في وجه الغرب اقتصادياً وعسكرياً.

– إن دخول صربيا إلى الإتحاد الأوروبي يعتبر مكسباً روسياً وليس خسارة لها لأنها بذلك تكون قد أدخلت حليفاً جديداً إلى تلك الكتلة الإقتصادية مع ضمان أن تكون “رأس حربة” لها لا “خنجراً” جديداً في خاصرتها.

– الرد على “حلف وارسو” الجديد، وإن كان موجهاً ضد إيران، بما يعني من رمزية الإسم والموقع بالنسبة لموسكو.

– توجيه رسالة إلى واشنطن، على اعتاب التهديد بالإنسحاب من معاهدة الحد من الصواريخ الإستراتيجية قصيرة المدى والمتوسطة، بأن هناك خططاً سياسية جاهزة للرد ولو بالطرق السياسية.

*مؤسس ومدير “مركز سيتا”

قائمة المراجع:

(1) بوتين يزور صربيا حليفته الكبرى في البلقان: وقّع عشرين اتفاقية… إحداها بشأن التعاون العسكري. 18/1/2019. جريدة الشرق الأوسط. على الرابط التالي:

https://bit.ly/2ANhjh5

(2) ليا القزي. 22/9/2018. مساع أميركية لتقسيم الكنيسة الأرثوذكسية. جريدة الأخبار اللبنانية. على الرابط التالي:

https://bit.ly/2S1RmEs

(3) الأسد لوفد روسي: محاولات لتقسيم كنيسة أنطاكية الأرثوذكسية في سورية ولبنان. 18/1/2019. جريدة البناء اللبنانية. على الرابط التالي:

https://bit.ly/2RBaJo5

(4)  راجع:

Dave Majumdar. 12/12/2017. Newly Declassified Documents: Gorbachev Told NATO Wouldn’t Move Past East German Border. National Interest. (Retrieved on 19/1/2019) from:

https://bit.ly/2Dm1waE

(5) صربيا تستقبل بوتين بحفاوة كبيرة. 17/1/2019. وطالة الصحافة الفرنسية. على الرابط التالي:

https://bit.ly/2Dlea9L

(6) عقود عسكرية على هامش زيارة بوتين إلى صربيا. 17/1/2019. روسيا اليوم. على الرابط التالي:

https://bit.ly/2T1Ds2f

(7) بوتين: مستعدون لاستثمار 1.4 مليار دولار في مد “السيل التركي” عبر صربيا. 17/1/2019. روسيا اليوم. على الرابط التالي:

https://bit.ly/2TZQVaX

(8) المرجع السابق.

(9) المرجع السابق نفسه.

مصدر الصور: freakingnews + مونتي كارلو الدولية – cyprustimes.