محمد كريم جبار الخاقاني*
تحفل ذاكرة الشعوب بالعديد من الأيام التأريخية التي لا تُنسى. وفي العراق، يعد يوم 10 يونيو/حزيران 2014 من بين تلك الأيام التي كانت بداية لتأريخ سوف يبقى محفوراً في الذاكرة العراقية ما بقيت الحياة. كيف لا، وهو اليوم الذي استيقظ فيه العراقيين على خبر سقوط محافظة الموصل بيد التنظيمات الإرهابية المعروفة بإسم “داعش”. إذ انهارت القطعات العسكرية العراقية المرابطة في محافظات الموصل وصلاح الدين، وتمكن التنظيم الإرهابي من فرض سيطرته على تلك المحافظتين، زاحفاً نحو مدن ومحافظات أخرى، مثل ديالى والأنبار وبابل، في مشهد دراماتيكي لتراجع القوة العسكرية العراقية في الدفاع عن تلك المناطق مما أتاح الفرصة لذاك التنظيم من تهديد العاصمة بغداد ومحاولة احتلالها في ظل تلك الأوضاع الصعبة التي عاشها العراق.
إذ كان العراق يعيش في وقتها أزمات سياسية وأمنية خانقة بعد إجراء الإنتخابات البرلمانية، في العام 2014، وما نجم عنها من عدم إمكانية تشكيل حكومة تقود البلد وأخرى أمنية تمثلت في إعتصامات محافظة الأنبار وما تبعها من معارك بين القوات العراقية وبعض الفصائل الإرهابية المسلحة التي اتخذت من تلك الساحات ذريعة للتحرك من خلالها وتنفيذ أجنداتها السياسية القادمة من وراء الحدود. لذا كان الخطر حقيقياُ ومهدداُ لوجود الدولة العراقية ككل.
لقد مثلت فتوى “الجهاد الكفائي”، التي أعلنها سماحة المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، تحولاً كبيراً في الحرب ضد الجماعات التكفيرية التي استولت على مساحات شاسعة من المدن العراقية. وعليه، فقد أصدر مكتبه بياناً أشار فيه إلى الأوضاع الأمنية الخطيرة التي تشهدها مدينة الموصل.(1)
وبعد إعلان تلك الفتوى للجهاد ضد تنظيم “داعش” الإرهابي، أصبح الحشد الشعبي، وبمجرد انتظام صفوفه للمشاركة بالقتال مع القوات المسلحة، من عوامل رفع الروح المعنوية بسبب امتلاك المنضمين إلى صفوفه للعقيدة والحس الوطني العالي الذي يترفع عن أي نفس طائفي أو قومي(2)، حيث كانت الفتوى تخلو من أية دعوة لتوجهات طائفية أو قومية ضيقة، بل على العكس من ذلك كانت نداءً إلى جميع العراقيين دون استثناء للدفاع عن البلد وابتعدت عن ذكر كل ما يتعلق بالطائفة الشيعية فكانت بوتقة وطنية.(3) ومما لا شك فيه من سرعة الإستجابة لنداء المرجعية الدينية في الدفاع عن البلد أوقفت انهيار الدولة العراقية واحتمالية سقوطها بيد تلك الجماعات الإرهابية لا سيما بعد تهديداتهم بالزحف إلى بغداد العاصمة(4). ولذلك، فإن أهمية صناعة الحشد الشعبي، كمعادل عقائدي في المعارك، تأتي كإستجابة تاريخية في غاية الأهمية لمواجهة تنظيم “داعش” الإرهابي وأنموذج عملياتي في حرب الشوارع والمدن(5) وبالتالي نكون هنا أمام معادلة جديدة في العراق من خلال تجربة الحشد الشعبي وتكمن في المعادلة الدينية الوطنية. فالدفاع عن العراق كدولة وكيان سيادي في هذه الحالة، تم عبر استلهام العقيدة الوطنية والدينية في الوقت نفسه. في السابق، كان الدفاع عن الوطن يتم عبر التشكيلات العسكرية أو ما يسندها من الفصائل الشعبية وعلى أساس الروح الوطنية أو العقيدة الدينية التي يؤمن بها المتطوعون فيها.(6)
ومن خلال تلك المقدمة عن الظروف التي أحاطت بنشأة الحشد الشعبي ومواجهة التنظيمات الإرهابية التي تمكنت من احتلال ثلثي مساحة العراق في سابقة خطيرة في العلاقات الدولية وتأثيراتها المحتملة في تغيير خارطة الدول في المنطقة، كان لا بد من إعطاء نبذة عن ماهية الحشد عبر معرفة المعنى اللغوي والإصطلاحي له، وأبعاده على الصعيد السياسي.
ترجع كلمة الحشد الشعبي إلى كلمة مركبة مكونة من مقطعين؛ الأول “الحشد، والثاني “الشعبي”. فمن المعنى اللغوي لكلمة حشد (فعل) حشد يحشد حشداً فهو حاشد والمفعول محشود، وحشد الجنود للمعركة أي بمعنى جمعهم وحشدوا للأمر له، وحشدت الجماعة بمعنى تجمعت والجمع حشود، وحشد من الناس أي جماعة من الناس في مكان(7). أما معنى “(الشعبي”، فينصرف إلى الإسم المنسوب إلى الشعب. فمثلاً يقال رجل شعبي أي بمعنى رجل متخلق بأخلاق شعبه، بسيط في تعامله مثل كل الأفراد الذين ينتمون له، وهو مشتق من “شعب” بمعنى الشيوع والإنتشار وتستخدم للإشخاص وتعني كذلك تعبئة أكبر عدد من الشعب في دلالة على الصفة العمومية للشعب والجماهيرية الواسعة.(8)
ويمكن أن نعطي تعريفاً للحشد الشعبي من الناحية اللغوية على أنه مجموعة من أفراد الشعب العراقي انتظموا بشكل طوعي للدفاع عن البلد ولهم هدف يتمثل بتحرير أراضيه من الجماعات الإرهابية.(9)
ومن الناحية الاصطلاحية، فالحشد الشعبي يعد العمود الفقري المساند للقوات العسكرية العراقية وهو جزء من المنظومة العسكرية الرسمية التي تضم بين صفوفها الفصائل التي قاومت الإحتلال الأمريكي، وبالتالي منحت الصفة الرسمية للدفاع عن العراق عبر الغطاء القانوني الذي تم إقراره من قبل مجلس النواب ولذلك يعد الحشد الشعبي الجيش الرديف للجيش العراقي ويمتلك عقيدة عسكرية وقتالية ثابتة.(10)
ومنذ أن دعا ممثل المرجعية الدينية، الشيخ عبد المهدي الكربلائي في خطبة الجمعة من الصحن الحسيني الشريف، العراقيين جميعاً للتطوع لمن يستطيع حمل السلاح من خطر الإرهابيين كونها مسؤولية شرعية ووطنية كبيرة(11) على أن ذلك يدخل من باب الدفاع عن النفس والعرض والمال والوطن(12). ونتيجة لتلك الفتوى، اندفع أبناء الشعب العراقي، بكافة أطيافهم وقومياتهم ودياناتهم، للتطوع في تنظيمات شبه عسكرية حملت اسم الحشد الشعبي للدفاع عن العراق من التنظيمات الإرهابية التي احتلت أراضيه ولذلك تعد الفتوى حدثاً فاصلاً في الحرب على تلك المجاميع الإرهابية.(13)
وبلغت أعداد المتطوعين في صفوف القوات الشعبية ما يقارب 120 ألف مقاتل(14)، وارتفعت الأعداد تدريجياً لتصل إلى أكثر من 1.5 مليون متطوع. ولذلك، تعد انتكاسة الموصل واحتلالها من قبل تنظيم “داعش” الإرهابي دافعاً معنوياً للحد من الفتن التي قد تم التخطيط لها خارج الحدود العراقية لتكون وقوداً لحرباً أهلية بين أفراد الشعب العراقي الواحد(15)، حيث أطُلقت العديد من التسميات على تلك القوات الشعبية التي عدت رديفة للجيش العراقي ومنها “الحشد الوطني العراقي” و” الحشد المقدس”.(16)
وينظر الشعب العراقي إلى تجربة الحشد الشعبي بكل فخر واعتزاز كونه يعد بالنسبة إليهم رمزاً وطنياً يعوضهم عن فشل الأجهزة الحكومية. فلقد أعادت القيادة الدينية للسيد السيستاني لهم الأمل في استعادة ما فقدوه من الأراضي عبر الدعوة إلى التطوع في صفوف الحشد الشعبي. فبدلاً من شعور بالقهر الذي قد سيطر في بادئ الأمر عليهم، شعر العراقيون من جديد بالقوة.(17)
ومع تصاعد الهجمات الإرهابية التي استطاع من خلالها تنظيم “داعش” احتلال مدن عراقية وتهديد العاصمة، كانت الفتوى بالجهاد الكفائي بمثابة “طوق نجاة” للعراق بعد الذي حدث بتاريخ 10 يونيو/حزيران 2014. بالتالي، أصبح العراق على أعتاب مرحلة جديدة من الكفاح للتحرر من سيطرة تلك الجماعات الإرهابية، إذ أنه من المعروف عن مرجعية السيد السيستاني أنها بعيدة عن لغة العنف والسلاح حتى من الجهة الفقهية التي اختلف فيها المرجع الأعلى مع غيره من علماء ومراجع المذهب الجعفري من تبويب للجهاد، وهي خطوة تشير إلى إيمانه بطرق ووسائل السلام والوئام في كل المشاكل التي واجهت العراق منذ التغيير، في أبريل/نيسان العام 2003، والإطاحة بنظام صدام حسين.(18)
وعلى هذا الأساس، فقد اتجهت مرجعية السيد السيستاني إلى تبني خيار المقاومة وهو ما يعرف لدى الشيعة الأمامية بالدفاع عن النفس ضد تنظيم “داعش” وذلك بعد مرور 3 أيام من كارثة سقوط الموصل عبر إعلان الدعوة لتنظيم صفوف الراغبين بالتطوع والقادرين على حمل السلاح دون تمييز بين طوائف البلد كافة.(19) وبذلك نجد أن تلك الفتوى المباركة قد عملت على إخماد نار الفتنة الطائفية التي كان يحضر لها خارج الحدود العراقية، وأسهمت في توحيد الرأي العام الداخلي تجاه قضية مصير البلد والدفاع عنه ضد التنظيمات الإرهابية التي تمكنت من استثمار الظروف السياسية التي يمر بها العراق والأزمة التي نتجت عن عدم تشكيل حكومة، بعد انتخابات العام 2014، لتحتل ثلثي مساحة العراق.(20)
لقد شكَلت الفتوى لتأسيس الحشد الشعبي بعداً وطنياً تركت الأثر الايجابي في نفوس الشعب العراقي على اختلاف مذاهبه وقومياته عبر التكاتف الملحمي البطولي في التصدي لزمر الإرهاب الداعشي وإصرارهم على تحرير الأراضي التي احتلتها تلك الجماعات وهذا ما تؤكده الوقائع على الأرض من خلال المعارك التي خاضتها قوات الحشد الشعبي واسترجاعها الأراضي التي كانت تحت سيطرة الجماعات الإرهابية في مشهد تلاحم بين مكونات الشعب العراقي.(21)
*باحث عراقي
المراجع:
(1) خالد اسماعيل سرحان. دور فتوى الجهاد الكفائي للسيد السيستاني في تشكيل الحشد الشعبي من كتاب: الحشد الشعبي.. الرهان الأخير. الطبعة 2. مركز بلادي للدراسات والأبحاث الإستراتيجية – بغداد. 2015. ص: 114.
(2) محمد كريم جبار الخاقاني. الحشد الشعبي: القوة المضافة للقوات المسلحة العراقية. مجلة إغتراب. مركز بلادي للدراسات والأبحاث الإستراتيجية. العدد 4. بغداد. 2017. ص: 161.
(3) ريناد منصور وفالح عبد الجبار. الحشد الشعبي ومستقبل العراق. مركز كارينغي للشرق الأوسط. بيروت. 2017. ص: 14.
(4) محمد صادق الهاشمي. رؤية في الحشد الشعبي خط المقاومة في العراق: التأسيس والأستشراف. مركز العراق للدراسات. الطبعة 1. بغداد. 2015. ص: 41.
(5) ياسر عبد الحسين. العراق: الأزمات المتموجة والحرب على الإرهاب. مجلة ابحاث إستراتيجية. مركز بلادي للدراسات والأبحاث الإستراتيجية. العدد 13. بغداد. 2016. ص: 18.
(6) مصدق عادل. التنظيم الدستوري للحشد الشعبي والتشكيلات المسلحة في العراق. دراسة في التأصيل الدولي والدستوري والتشريعات الوطنية والمقارنة. الطبعة 1. بيروت. 2017. ص: 181.
(7) حسين عدنان هادي وانور عادل محمد. فكرة جيوش الظل (الحشد الشعبي: ماهيته- عقيدته – هيكليته) في كتاب: الحشد الشعبي.. الرهان الأخير. الطبهة 2. مركز بلادي للدراسات والأبحاث الإستراتيجية. بغداد. 2015. ص: 29.
(8) مصدق عادل. مرجع سبق ذكره. ص ص: 20 – 21.
(9) المرجع السابق نفسه. ص: 22.
(10) حسين عدنان هادي وانور عادل محمد. مرجع سبق ذكره: ص ص: 29 – 30.
(11) انظر الموقع الإلكتروني لسماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله الوارف) على الرابط: www.sistani.org\arabic.
(12) محمد كريم جبار الخاقاني. مرجع سبق ذكره. ص: 161.
(13) خالد اسماعيل سرحان. مرجع سبق ذكره. ص: 114.
(14) مايكل نايتس. مستقبل قوات الأمن العراقية. مركز البيان للدراسات والتخطيط. بغداد. 2016. ص: 30.
(15) عمار ياسر العامري. الأبعاد السياسية والإجتماعية لفتوى الجهاد الكفائي في كتاب: في مواجهة داعش. اية الله العظمى السيستاني (دام ظله الوارف) والحشد الشعبي بعد احداث الموصل.تحرير: محمد هاشم البطاط ورزاق فالح وحيد. الطبعة 1. مركز العراق للدراسات. بغداد. 2016. ص ص: 144 – 145.
(16) حسن سعد عبد الحميد. دور الأجهزة الامنية العراقية في مكافحة الإرهاب بعد 2003 (وزارة الدفاع العراقية انموذجاً). مجلة إغتراب. مركز بلادي للدراسات والبحوث الإستراتيجية. العدد 1. بغداد. 2016. ص: 84.
(17) ياسر عبد الحسين. مرجع سبق ذكره. ص: 19.
(18) اسعد كاظم شبيب. الخيار الصعب: قراءة في ابعاد فتوى الجهاد الكفائي ضد تنظيم داعش. في كتاب: في مواجهة داعش. اية الله العظمى السيستاني (دام ظله الوارف) والحشد الشعبي بعد احداث الموصل. تحرير: محمد هاشم البطاط ورزاق فالح وحيد. الطبعة 1. مركز العراق للدراسات. بغداد. 2016. ص: 65.
(19) المرجع السابق نفسه. ص: 85.
(20) عمار ياسر العامري. مرجع سبق ذكره. ص: 146.
(21) المرجع السابق نفسه. ص: 161.
مصدر الصور: الجزيرة – سبوتنيك.