مقدمة
التغيير عملية تراكمية قوامها تضافر رباعية التربية والثقافة والوعي والثورة، فالثقافة وليدة التربية، والوعي وليد التربية والثقافة، أما الثورة فهي تتويج وترجمة عملية لكل من التربية والثقافة والوعي، إذ لا يمكن للثورة أن تندلع ولا أن تنتصر، من دون توفر التربية السياسية الهادفة التي تنتج الثقافة السياسية الهادفة والوعي السياسي الخلاّق.
فالوعي يمثل حصيلة هذا المسار الذي يجمع بين التربية والثقافة، لكنه يتطلب شرطاً إضافياً لازماً وواجباً يتمثل بالمشاركة! فالعلاقة بين الوعي والمشاركة إشكالية، فالوعي من دون مشاركة لا طائل منه، والمشاركة من دون وعي، ضلال منهجي وشر مستطير، فشرط الثورة الفعالة، الوعي الفعال المتزامن مع المشاركة الفعالة!
وتشكل الظروف المحلية المادية – المتمثلة بتدهور الكفاءة الاقتصادية والأحوال الاجتماعية والعلاقات السياسية – شرطاً موضوعياً مناسباً لقيام الثورة، لكنه شرط غير كاف، فالمجتمعات التي تعاني من هذه الأوضاع المتدهورة لم يختبر سوى عدداً قليلاً منها التجربة الثورية بما تعنيه من نضال لا هوادة فيه بهدف تغيير البنيات المجتمعية السائدة.
فالشروط المادية تمثل البيئة الملائمة والتربة الخصبة لقيام الثورة المجتمعية، لكنها بيئة غير كافية بحد ذاتها لتحقيق التغيير المنشود إذ إنها بحاجة إلى محرّك فاعل لكي تستحيل ظاهرة سياسية تغييرية، ويتمثل هذا المحرّك بالوعي السياسي، فالتقاء العوامل المادية من نحو، والمعنوية المتمثلة بالوعي السياسي من نحو آخر، كفيل بتحقيق النقلة الثورية النوعية المنشودة.
فثورة “17 تشرين 2019” خير شاهد على التغيير الذي حصل على مستوى الوعي السياسي وعلى مستوى منظومة القيم لدى كل فئات الشعب اللبناني، وهو تغيير حطّم الحواجز الطائفية والمذهبية والمناطقية والطبقية فهتفت كل ألوان الطيف الوطني بأعلى صوتها ضد الكراهية والتخلف والفساد والرجعية مطالبة بإقامة الحكم المدني ونظام العدالة الاجتماعية.
1. جدلية المركز والأطراف
مع نهاية الحقبة الاستعمارية، وحلول الحقبة النيو – استعمارية، بدأت تتكشف المفاعيل الناجمة عن المفاعيل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الناجمة عن هذه التجربة السياسية – الاقتصادية –الاجتماعية – الثقافية، وأبرز هذه المفاعيل ظاهرة التبعية الناجمة عن فخ المديونية الناجم عن استمرار نهج الاستغلال الرأسمالي الذي يمارسه المركز على الأطراف، وأزمة الهوية التي تمخضت عن هذا النهج الاستغلال يفي فيدول الأطراف، وفي دول المركز على السواء.
والمركز مصطلح ذو حمولة دلالية مركّبة أبرزها في هذا المقام الآتية؛ فهو يشير إلى ظاهرة تركيز الثروة، والى ظاهرة تركيز السلطة بيد الدول الغربية الرأسمالية، كما يشير إلى وجود دول أطرافية تابعة للمركز، تتمتع بموارد طبيعية، وبيد عاملة رخيصة، وتشكل أسواقاً استهلاكية، يقوم المركز باستغلالها على أوسع نطاق ممكن في تفعيل ماكينته الإنتاجية.
لكن المفهوم يشير في الوقت عينه إلى وجود مراكز أخرى مؤثرة كدول “البريكس”، التي تضم كلاً من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، الطامحة للحصول على الاعتراف السياسي الدولي بصفتها مركزاً، والتي تضطلع بدور دولي مؤثر نظراً لقدراتها العسكرية ومواردها البشرية والطبيعية المهمة، لكنها تعاني في الوقت عينه من عدم القدرة على منافسة المركز الرأسمالي، فهذه الدول تشكل “مركزاً” رغم كونها ليست مركزاً!
وفي المقابل، فقد شهدت العلاقات الدولية من منظور المركز والأطراف تطورا تنظيريا مستجداً، إذ يلاحظ وجود متغير وسيط يقع بين هذين المتغيّرين أطلق عليه المتخصص في مجال العلاقات الدولية، إيمانويل والرشتاين – Emmanuel Wallerstein، مصطلح أشباه الأطراف، فهناك دول على مساحة إفريقيا وآسيا وأميركا وأوروبا تحمل خصائص دول المركز وخصائص دول الأطراف، فهي دول صناعية، وغالباً ما تكون رأسمالية، تمارس الاستغلال على الدول الأطراف في محيطها، لكن مواردها الطبيعية والبشرية خاضعة في المقابل للاستغلال من قبل المركز الرأسمالي، فهياكلها الاقتصادية لا تسمح لها بالانتقال إلى مصاف دول المركز.
وتمثل الأقاليم والدول شبه الأطرافية أهمية خاصة بصفتها محركاً ديناميكياً دافعاً في منظومة الاقتصاد العالمي الرأسمالي، حيث تتم في إطارها إعادة الهيكلة المكانية في أوقات الكساد الاقتصادي، ما يجعل العوامل السياسية أكثر تأثيراً في هذه العملية من العوامل الاقتصادية ليؤهل هذه الدول للقيام بدور الوسيط المكاني بين المركز والأطراف.
فالدور المؤثر الذي يضطلع به المركز على المستوى الدولي يصبح أكثر تأثيراً من خلال علاقته الهرمية الممتازة بالوسط المحلّي في الدول والأقاليم التابعة له، فالعلاقة بين المركز والأطراف ليست مجرّد علاقة خاضعة لتأثير العامل الجغرافي، بل استحالت علاقة اجتماعية خاصة لا تتم على المستويات الرسمية بقدر ما تضم الأوساط الاجتماعية في كل من المركز والأطراف وشبه الأطراف في ظل هيكلية هرمية امتثالية صارمة.
فالمدلول لا يقتصر على علاقة المركز الذي يحتكر الثروة والسلطة بالكيانات السياسية التابعة له، ولا تقتصر على علاقة السلطة المركزية التسلسلية بالكيانات الإدارية والسياسية اللامركزية ضمن الدولة الواحدة، بل يتعداه ليطال المجال المحلي على مستوى العلاقات المجتمعية القائمة بين مختلف مكوّنات الدولة، بين المدينة والريف، وبين الفئات الاجتماعية المختلفة في المدن والضواحي والأرياف، وبين الجماعات والأفراد على اختلاف فئاتهم الاجتماعية، مما يضفي على هذه الجدلية السمة الديناميكية.
2. جدلية “القوة الناعمة” الذكية و”القوة الصلدة” العارية
مع نهاية الحقبة الاستعمارية، بدأت تتكشف المفاعيل الثقافية الناجمة عن هذه التجربة السياسية، وأبرزها ما يتمثل منها بـ “الروابط الدنيئة” القائمة بين الأوساط الأكاديمية ودوائر القرار النيو – الإمبريالية، فالقوى الاستعمارية التقليدية التي مارست السيطرة السياسية المباشرة على مساحة العالم، استحالت سيطرتها خلال حقبة ما بعد الاستعمار، سيطرة اقتصادية وثقافية، ما لبث أن توطّدت من خلال تبعية غير مباشرة، وعند الضرورة، من خلال تبعية مباشرة واحتلالاًعسكرياً مباشراً.
فالاستراتيجيات المعتمدة من قبل دول المركز تعتمد في تعاملها مع الواقع البوست – كولونيالي الجديد على القوة الناعمة – الذكية، وذلك من خلال التركيز على وظيفة الوعي لدى الشعوب المستقلة، مع الاحتفاظ دائماً بخيارات احتياطية أبرزها اثنتان: استراتيجية تقوم على اعتماد مزيج من القوة الناعمة –الذكية – الصلدة، أو استراتيجية أخرى تقوم على استعمال القوة الصلدة العارية كخيار استراتيجي احتياطي.
ويعد تصور زبيغنيو بريجينسكي – Zbigniew Brzezinski، مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، الأكثر دلالة على هذا المستوى، وذلك من خلال اجتراحه مصطلح “الترفيه – tittytainment” الذي يشير إلى ضرورة تجذير الثقافة المادية الاستهلاكية لدى كل شعوب الأرض من دون استثناء، وذلك من خلال التركيز على التسلية – entertainment، والتغذية – titts، فمزيج من المكوّنين كفيل بإخماد روح الثورة والتغيير لدى شعوب الأرض.
ومن أجل صيانة العلاقة غير المتكافئة القائمة بين المركز والأطراف، يعتمد المركز العديد من الاستراتيجيات أبرزها تصنيع الوعي من خلال التنشئة على الاستهلاك وعلى التسلية والترفيه؛ وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإن صناعة الأفلام الإباحية درّت على أصحابها أرباحا خيالية ناهزت، عام 2014، 14 مليار دولار على أقل تقدير، وهي أرباح تفوق أرباح شركات عالمية كـ “غوغل” و”آبل” و”نتفليكس”، وتسيطر النساء على قطاع الإنتاج في هذه الصناعة التي تستهدف الأطفال والبالغين، وتضم هذه الصناعة أكثر من 27 مليون موقعاً الكترونياً، وتمثّل 35% من المحتوى على شبكة الإنترنت، 34% منه يتم زيارته لا إرادياً من خلال الإعلانات (STEP News 2020).
وتستقطب هذه الصناعة 34% من عدد الزيارات أي ما يوازي 4 مليار زيارة في الساعة الواحدة، فزيارات المواقع الإباحية تتقدّم على زيارة مواقع “تويتر” ونتفليكس و”أمازون”، وتتبوأ الولايات المتحدة الأميركية موقع الصدارة في صناعة هذه الأفلام (ما يوازي حوالي 50%)، وفي عدد المواقع الإباحية (ما يوازي 40 مليون موقعاً). وعلى حد تعبير “منظمة محاربة الإدمان الجديد”، فإن مشاهدة هذه الأفلام قد خرجت من إطار الترفيه والتجديد، ودخلت في طور الإدمان، خصوصا أن 25% من المواقع على شبكة الانترنيت هي في الواقع مواقع إباحية (STEP News 2020).
إن ثقافة الترفيه والتسلية تسهم في ضمور الوعي السياسي، وفي تآكل المشاركة السياسية، فالقدرة على استثارة الحميّة الثورية لدى هذه الشعوب قد تراجعت دراماتيكياً، فالعلاقة متناسبة عكسياً بين ثقافة التسلية والترفيه بما تمثله من تخدير للوعي، وثقافة التغيير الثوري بما تمثله من تحفيز على الوعي، فالثقافة الاستهلاكية تشكل النقيض الموضوعي لثقافة التغييرالثورية!
3. جدلية الوسط المحلي والوسط التغييري
إن الوسط المحلي ضمن الدولة الواحدة أشبه بـ “أخطبوط” يضطلع بدور وظيفي هدفه الحد من اندفاعة الأطراف ضد السلطة المركزية التابعة للمركز الدولي التابعة له، وذلك من خلال اعتمادها على الفعاليات المحلية التابعة له في المناطق الأطرافية ضمن الدولة الواحدة، وذلك من خلال تزويدها بكل مقوّمات القوة اللازمة ترغيباً وترهيباً، بهدف التصدي للأصوات المعارضة لسياسات المركز الجائرة؛ فظاهرة احتكار الثروة وظاهرة احتكار السلطة التي يقوم بتأبيدها المركز ضمن الدولة الواحدة، وبالتالي على المستوى الدولي، يقوم الوسط المحلي بامتصاص مفاعيلها وفي الحد من الأخطار السياسية الناجمة عنها.
فتضافر كل من الوسط المحلي المرتبط هرمياً بالسلطة المركزية ضمن الدولة الواحدة، المرتبطة بدورها وظيفيا بدول المركز، يسهم في إجهاض محاولات التغيير المنشودة انطلاقاً من الأطراف، ولا سيما من أطراف الأطراف، التي تمثل أرض الثورة الخصبة، نظراً لأحوالها الاجتماعية والاقتصادية البائسة، فتسهم في تجذير ظاهرة التبعية وفي تشويه ظاهرة الوعي.
وتزداد ظاهرة التبعية التباساً في المجتمعات المركبة من عصبيات مختلفة، فتعدد الانتماءات الأولية ورسوخها يسهم في تعطيل فعالية التناقضات المجتمعية الموضوعية، وفي تعطيل آليات المساءلة والمحاسبة البرلمانية والإدارية، لتطال المستوى الأخلاقي، فالوسط المحلي في الدول التابعة بيدق بيد دول المركز (السلطة العامة المركزية) ومركز المركز.
وفي المقابل، إن الصراع الذي تشهده العلاقات الدولية في ظل ما يعرف بالموجات اللوجستية لحظة حصول التحولات الجيوبوليتيكية الكبرى لطالما أسهم إما في تمديد صلاحية الوسط المحلي القائم أو عند الاقتضاء في إنتاج أوساطا محلّية بديلة تضطلع بأدوار وظيفية جديدة على غرار ما حصل في دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق ودول آسيا الوسطى خلال المرحلة البوست – سوفياتية، لكن المشهد يبدو أكثر تعقيداً في ظل الدول المتصدّعة التي تعاني من شروخ اثنية ودينية وقومية وثقافية ولغوية عميقة، كأوكرانيا ولبنان على سبيل المثال وليس الحصر.
في لبنان، استمر الوسط المحلّي في الاضطلاع بدوره الوظيفي لصالح المركز الرأسمالي بعد انتصار الغرب الرأسمالي خلال الحرب العالمية الأولى على ألمانيا وتركيا، وبعد انتصاره خلال الحرب العالمية الثانية على دول المحور، المتمثلة بنظام “ميجي” في اليابان والنظام الفاشي في إيطاليا والنظام النازي في ألمانيا، باستثناء فترة الحكم الشهابي حيث شهدت تلك الفترة حرباً باردة بين وسطين محليين استحالت حربا أهلية ساخنة بينهما دامت 15 عاماً، وأفضت إلى “اتفاق الطائف” الذي كرّس السمة الطائفية للنظام السياسي، فشكل هزيمة سياسية مدوّية للقوى الوطنية التقدمية، وانتصاراً ساحقاً للقوى السياسية الطائفية التي تدور في الفلك الرأسمالي.
لكن تداخل المتغيرات الإقليمية والدولية فيما بعد قد أفضى إلى سيطرة وسط محلّي جديد بقيادة تنظيم “حزب الله” على السياسة الخارجية، وعلى السياسات العامة الداخلية، لصالح المركز الآخر المتمثل بالتحالف الصيني – الروسي – الإيراني – السوري، وأبرز هذه المتغيرات اتفاقيات الصلح العربية الإسرائيلية، والغزو الأميركي للعراق الذي مكّن إيران من التوسع المضطرد في البلاد العربية.
فالتناقضات الطائفية تمثل الأرضية الخصبة والوسيلة الناجعة في التصدّي للرأي العام التغييري، فلا مصلحة للمركز بتغيير آليات العمل السياسي أو القواعد الدستورية السائدة، طالما أن الوسط المحلي قادر على تأدية للدور المنوط به، ما يفسر ظاهرة الازدواجية السائدة على مستوى العلاقات الدولية، فالدور الوظيفي للوسط المحلي استراتيجي، كونه يهدف إلى تعطيل مفاعيل الثورة العالمية، انطلاقاً من الأطراف، وذلك من خلال تفعيل التناقضات الطائفية، ومن خلال ممارسة الرشوة الاجتماعية على أوسع نطاق ممكن.
خلاصة
يعاني النظام الدولي اليوم من اضطرابات أنظومية في غاية الخطورة نتيجة تفاقم ظاهرة المديونية التي أصبحت تهدد التوازن المجتمعي في الدول الرأسمالية نفسها، ونتيجة لتفاقم الصراع الجيوبوليتيكي بين القوى العظمى على طول خطوط التماس في أوروبا الشرقية وفي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والشرق الأقصى، ناهيك عن التحولات المناخية، والنمو السكاني المضطرد في دول الجنوب، والأوبئة الفتاكة، والمجاعة، التي تحد من قدرة الدولة الوطنية والنظام الدولي ككل على استيعاب تداعياتها الأنظومية.
وتتراوح الأفكار السياسية فيما يتعلق بظواهر التنمية والتخلف بين حدّين: مدرسة التحديث ومدرسة التبعية؛ أما مدرسة التحديث، فتنهل من معين التعاليم الليبرالية التي تدعو إلى التغيير السلمي التدريجي، والتي ترى بأن تحقيق التحديث أمر يتطلب الأخذ في عين الاعتبار الخصوصيات المحلية المتعلقة بكل دولة على حدة، فمزيج من التحديث الكمي على مستوى البنية التحتية للدولة، والتحديث النوعي المتمثل بالتوعية على الثقافة المدنية الديمقراطية، وعلى الحرية الاقتصادية، كفيل بتعطيل كافة مفاعيل ظاهرة التخلف.
أما مدرسة التبعية، فترى بأن ظاهرة التخلف أنظومية تتعلق بكيفية عمل النظام الدولي الذي يولّد الثروة في المركز والفقر في الأطراف، فعلّة ثراء المركز – وفقاً لهذا الرأي – مرتبط عضوياً بإفقار الأطراف، إذ كلما ازداد المركز ثراء ازدادت الأطراف تخلفاً، مما يسهم في “تنمية التخلف”، وفي تجذير التبعية، وذلك من خلال الرهان على الدور الذي يضطلع به الوسط المحلي لصالح المركز.
فالوسط المحلّي ليس مجرد وسيط تجارياً، بل وسيط اجتماعي يضطلع بدور وظيفي ثقافي سياسي تبشيري يسهم في تأبيد حضوره المركز الفاعل على الساحة المحلية، ليس من خلال تبادل المصالح وحسب، بل من خلال المؤسسات التعليمية والتربوية والإعلامية المحلية المرتبطة به ارتباطاً مباشراً، ومن خلال الدور السياسي المؤثر الذي يمارسه على دوائر صنع القرار الوطنية، لكنه وسيط يظل تحت الاختبار المستمر إذ يمكن للمركز استبداله بوسيط آخر أكثر فعالية عند إخفاقه في الاضطلاع بالمهام الموكلة إليه.
لم يعد بمقدور المركز احتكار الثروات العالمية لنفسه في ظل تنامي الدور الذي تضطلع به مراكز أخرى منافسة له، فالصين مثلاً تطمح للانتقال من حالة الدولة شبه الأطرافية – حيث العمالة الرخيصة والموارد الطبيعية الهائلة والتسهيلات الاستثمارية التنافسية – إلى مكانة الدولة المركزية، مما يسهم في اضطراب علاقاتها الدولية، ولا سيما بالولايات المتحدة الأميركية، شديدة الحرص على احتكار هذه المكانة لنفسها.
فالتخلف والتبعية ليستا مجرّد معضلات ناجمة عن أسباب ثقافية كما تزعم مدرسة التحديث، أسباب يمكن معالجتها من خلال اعتماد السياسات التحديثية المناسبة، بل إنها ظاهرة اقتصادية وسوسيولوجية أنظومية فريدة من نوعها sui generis، تولّدت نتيجة للسياسات الرأسمالية المغرضة التي أنتجت واقعاً اجتماعياً عالميا غير متكافئ، مما يتطلّب اعتماد مقاربة مختلفة تنتج توازناً عالمياً جديداً أساسه التوزيع العادل للثروة والسلطة.
وبمفارقة كبرى، فقد عبّد الصراع السائد في لبنان بين الوسط المحلّي المتحالف مع المعسكر الرأسمالي الشرقي والوسط المحلّي المنافس له لصالح المركز الرأسمالي الغربي الطريق نحو انبلاج فجر جديد يتمثل بوسيط محلّي وطني للجمهورية، لا لدوائر القرار الأجنبية، يتمثل بثورة 17 تشرين اللبنانية، ثورة إنسانية سياسية ديمقراطية اجتماعية تتصدى للكراهية وللعنصرية ولكل الظواهر الاحتكارية، ظاهرة احتكار السلطة، وظاهرة احتكار الثروة، ثورة زمنية استقلالية سيادية لا شرقية ولا غربية، ترفض رفضاً قاطعاً أن تكون صنيعة القوى الدولية والإقليمية الاستغلالية.
مصدر الصور: النهار – اللواء.
موضوع ذا صلة: ثورة 17 تشرين.. ماذا بعد؟
البروفيسور وليد الأيوبي
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة اللبنانية / الأمين العام المؤسس لحركة “ثورة بلا حدود” – لبنان