علوان أمين الدين*

قد يكون العنوان مستغرباً. لكن بعد كتابة هذه السطور، قد يصبح مألوفاً نوعاً ما. من اللافت اليوم ما يحدث في القارة اللاتينية، خصوصاً في السنتين الأخيرتين حيث بات واضحاً أن الولايات المتحدة، مع رئيسها دونالد ترامب، قررت العودة إلى “الحديقة الخلفية” لا سيما بعد سياسات الرئيس السابق، باراك أوباما، المتساهلة وغير المجدية في تحصين القاعدة الجنوبية للبلاد، حيث تصالح مع كوبا، العدو التاريخي الذي أحس بـ “نشوة نصر” على الإمبريالية العالمية وهو أمر استفز واشنطن كثيراً، ووصول أنظمة الحكم اليسارية إلى كثير من الدول القوية والفاعلة في تلك القارة.

التدخلات الناعمة والخشنة

بالنسبة للقانون الدولي، يعتبر التدخل في الدول الأخرى وشؤونها أمراً غير مشروع. ولكن عند النظر إلى التطبيقات العملية لمبدأ التدخل بحد ذاته، تنزع الدول، في غالبيتها العظمى وبغض النظر عن قوتها، نحو التمدد والسيطرة مبررة ذلك بحسب الحالة. إذاً، التمدد غير مشروع قانوناً، ومعترف في السياسة واقعاً.

لقد بات المجال الحيوي الأميركي مهدداً، بنظر الدولة العميقة أو “الإستابلشمنت”، ومن الضروري العودة وبقوة إلى هذه البقعة الجغرافية من خلال إعادة تفعيل مبدأ “مونرو” على الطريقة التي كرستها “الروزفلتية” (عدم تدخل غير الأمريكيين في شؤون ودول القارة الجنوبية). بالتالي، على الإدارة الحاكمة استعادة ما خسرته من الدول بأي شكل وبأي ثمن.

من هنا، رأينا منذ فترة، وقوع محاولة اغتيال للرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، في عرض عسكري، تلاها تمرد داخل صفوف الجيش، وبعده بأيام عديدة محاولة انقلاب قام بها رئيس البرلمان، خوان غوايدو مع عدد من أنصار المعارضة، حيث كانت الولايات المتحدة من أوائل الدول التي اعترفت به كرئيس للدولة. للموضوعية، قد لا يكون هناك دخل لواشنطن في بعض هذه الأحداث، مباشرة، لكنها حتماً ستكون مستفيدة من نتائج الإطاحة بمادورو، فالعين الأمريكية قد “إحمرت” من كراكاس لأسباب كثيرة يتمثل أبرزها، وأخطرها، في وصول “البجعة البيضاء” الروسية للمشاركة في المناورات العسكرية المشتركة وهو ما يعد، بالمفهوم الأمريكي، تخطٍ للخطوط الحُمر.

فيما يخص حالة الإنقلاب، قال السفير الروسي لدى كراكاس، فلاديمير زايمسكي، “تلقيت معلومات مفادها بأن غوايدو، كان قد تعرض لضغوط قوية في 5 يناير/كانون الثاني (2019)، عندما تم انتخابه رئيساً للبرلمان، وفي 10 يناير/كانون الثاني (2019)، عندما تولى (رئيس فنزويلا) نيكولاس مادورو منصبه. وتم دفعه نحو هذه الخطوة بنشاط كبير، ولكنه امتنع عن القيام بذلك. لكن، يبدو أنهم أصروا في الضغط عليه.” (سبوتنيك 24/1/2019)

كل هذا يدل على أن الأمور قيد التطور خصوصاً وأن رئيس البرلمان لديه مناصرين أيضاً في الشارع، كما للرئيس مادورو. لكن الأخير مستند إلى وقوف “الجيش البوليفاري” خلفه بعقيدته “التشافية”، وبالتالي يمتلك القوة على الأرض. وهنا تكمن الخطورة، حيث من الممكن أن تشهد فنزويلا “وجبات” عنف واسعة، لا سيما وأن واشنطن تعي تماماً الحاكم الحقيقي للدولة، أي الجيش، إذ ليس هناك ما يمنع من استمالة عدد من القادة العسكريين إلى خارج السرب المادوري، كإعلان انشقاقهم أو ما شابه، فيقع المحظور وتدخل كراكاس في حرب أهلية تُفقدها موقعها في المحور المعادي، أو المقاوم، لواشنطن.

في هذا الشأن، يشير خبير المعهد الروسي للأبحاث الاستراتيجية، إيغور بشنيشنيكوف، إلى أن هذا السيناريو الفنزويلي تم وضعه مسبقاً من قبل الولايات المتحدة، ولم يكن عفوياً “فقد أعلن الأمريكيون على مختلف المستويات دعمهم لزعيم المعارضة، وربما يطلب من مادورو، من أجل تجنب سفك الدماء، مغادرة البلاد. وإذا ما رفض، فإن فنزويلا مهددة بحرب أهلية وإدخال لاحق لقوات حفظ سلام.” (روسيا اليوم 24/1/2019)، وهو ما ظهر من خلال رغبة الولايات المتحدة تدويل الأزمة ووضعها على طاولة مجلس الأمن.

سبق هذه الأحداث المتكررة، اتهام رئيسة الأرجنتين السابقة، كريستينا كيرشنر المناهضة للسياسة الأمريكية، بعمليات فساد إذ تم تفتيش منزلها، وهي سابقة خطيرة في الحياة السياسية الأرجنتينية، بموافقتها، عند طرح الأمر على مجلس الشيوخ، لكنها أشارت بوضوح إلى أن الموضوع سياسي محض لاعلاقة له بالقضاء. إضافة إلى ذلك، تواجه كوشنير قضية “استغلال نفوذ” فحواها التستر على ما تعتبره السلطات الأرجنتينية تورطاً لكل من إيران وحزب الله اللبناني في تفجيرات المركز اليهودي، في العاصمة بيونس آيرس التي أودت بحياة 85 شخصاً العام 1994، حيث تشير لائحة الإتهام إلى أن الرئيسة السابقة استغلت نفوذها وقدمت ضمانات لبعض المسؤولين الإيرانيين، وبعض عناصر من حزب الله المتهمين في الهجوم، بعدم ملاحقتهم قضائياً مقابل عقد صفقات تجارية بين البلدين. (الأهرام 5/1/2019)

ومن الجدير ذكره هنا، أن الصحافي الفرنسي الشهير تيري ميسان قد أوضح في العديد من كتاباته، بعد زيارته للقارة اللاتينية وتحديداً الأرجنتين، أن التحقيقات في بوينس آيرس لم تستطع الحصول على دليل واحد لتورط إيران أو حزب الله اللبناني، بالتحديد.

لذلك، ترى الرئيسة كوشنير بأن تلك الإتهامات لا تصب إلا في مصلحة إقصائها عن خوض غمار الإنتخابات الرئاسية، كما تخشى أن يكون مصيرها كمصير رفقائها في اليسار البرازيلي، لولا دي سليفا وديلما روسيف، الذين اتهموا بالفساد وتبييض الأموال وتم اعتقالهم أو سجنهم.

إلى ذلك، ركزت واشنطن على دعم المرشح اليميني المتطرف، جايير بولسونارو، في معركة الرئاسة البرازيلية، في تحدٍ واضح لحزب الرئيس الأسبق، دي سيلفا، ونهجه، الذي عبرت عنه الرئيسة السابقة روسيف والمرشح عن حزب العمال فرناندو حداد. فلقد كان أول ما قام به “ترامب” البرازيل تأييد السياسات الأمريكية ورفضه النهج اليساري، إضافة إلى دعوته لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى حضور حفل تنصيبه وهي أيضاً إشارة إلى خلو سياسيته الجديدة من دعم القضايا العالمية المحقة، مثل القضية الفلسطينية على عكس كوبا وفنزويلا، والإنتقال إلى محور السياسات النيو – ليبرالية.

لا شك بأن هذا التحول الإستراتيجي في البرازيل، ستكون له انعكاسات كبيرة على الدول المناهضة لواشنطن لا سيما فيما يخص تكتل “البريكس”، حيث تعتبر برازيليا أحد الأعمدة الأساسية فيه. فهذا التكتل “يؤرق” واشنطن كثيراً من الناحية الإقتصادية خصوصاً لجهة الإنتقال الى التعامل بالعملات المحلية للدول المكونة له، وهي دول ذات اقتصاد قوي ومؤثر جداً، وبالتالي الخروج من دائرة “وول ستريت”؛ أو لجهة فك الربط بين الدولار والطاقة فيما يسمى “البترو دولار” التي تستمد منه العملة الأمريكية قوتها وصلابتها وتأثيرها.

من المهم جداً قراءة كتاب “العقد المقبل”، لجورج فريدمان، الذي ركز خلاله على أن البرازيل هي الدولة اللاتينية الأبرز التي يجب أن تكون تحت السيطرة لأنها الوحيدة القادرة على أن تشكل خطراً مستقبلياً لواشنطن خصوصاً إذا ما امتلكت أسطولاً بحرياً قوياً يمكنها من خلاله قطع الطرق البحرية بين القارتين اللاتينية والأفريقية.

من خلال ما سبق، لا يبدو بأن الولايات المتحدة تريد فقط استعادة دول أمريكا اللاتينية إلى جلبابها سياسياً؛ بل الهدف الأكبر والأهم هو وقف، إذا لم نقل ضرب، النفوذين الصيني والروسي بالتحديد، سواء الإقتصادية أو الشراكات السياسية، خصوصاً بعد أن تعمقت هذه العلاقات عبر المشاريع الإستثمارية، أو خطوط سكك الحديد، أبرزها الخط الرابط ما بين المحيطين الأطلسي والهادئ، أو الممرات المائية، قناة نيكاراغوا، وهو ما اعتبرته واشنطن خطراً قومياً على مصالحها الإستراتيجية، وبالتالي عليها القيام بخطوة ما لإستعادة زمام المبادرة.

أكثر من ذلك، لا يمكن استبعاد قيامها بإستخدام القوة العسكرية، عبر الغزو أو عمليات خاصة، من أجل تحقيق مصالحها، إذ أن تاريخها، في تدخلات دول القارة وتغيير الأنظمة فيها، حافل جداً وليس هناك من مانع بإعادة السيناريوهات نفسها.

فساد القيادة اليسارية

من خلال إعلامها، تبرز الولايات المتحدة الأزمات التي تعيشها شعوب هذه الدول متناسية بأن أحد أهم الأسباب التي أوصلتها إلى هذه الحالة المزرية يكمن في العقوبات الإقتصادية التي تفرضها على أنظمة الدول “غير الصديقة”، مستفيدة من ارتباط الدورة المالية العالمية بها، مدعومة بقوتها العسكرية.

فيما يخص فنزويلا، بدأت الحرب الإقتصادية عليها، بشكل كبير منذ العام 2014، بإستعمال أسعار النفط كسلاح لمواجهة روسيا، بعد ضمها شبه جزيرة القرم، وهو أيضاً ما انعكس على كل من إيران وفنزويلا، التي يشكل حوالي 92% من دخلها.  

بالعودة إلى عنوان الفقرة، فإن الكثير من الأنظمة اليسارية التي تولت مقاليد الحكم لم تكن على قدر آمال وتطلعات الشعوب، ومن خلال المقدمة البسيطة أعلاه والتي تهدف إلى تخفيف المسؤولية عن كاهل العديد من الزعماء اليساريين فيما يخص تردي الأوضاع الإقتصادية، إلا أن المنطق يقضي بعدم تبرأتهم بالكامل فهم يتحملون قسطاً من الأزمة، لا سيما وأن الكثير منهم أصبحوا أصحاب ثروات في الخارج، والمقربين منهم أيضاً، ناهيك عن الإساءة في استعمال السلطة، بحجة مواجهة “الإمبريالية”، من أجل منافع خاصة وآنية. هذا بالضبط ما حصل في منطقتنا العربية لجهة القضية الفلسطينية، حيث ظهرت طبقة من المنتفعين، لا بل المستغلين، مالياً جنت ثروات طائلة تحت ستار القضية، وهي منهم براء.

فعندما تنظر تلك الشعوب إلى حياة البذخ التي يعيشها حكامها، لا بد أن يكون الفقر، المدعوم بالجهل، أحد الدوافع والمحركات الأساسية لأعمال العنف، بل السرقة والنهب وحتى القتل. فالفقر لا يعرف الحرام، والجوع لا يعرف القلة.

إضافة إلى ذلك، من المهم أن تتطور طريقة الأداء اليساري، لا مبادئه، من أجل مواكبة تطورات العصر؛ فالسياسة الصحيحة منذ عقد قد تعد خطأً اليوم. لذلك، يجب ضخ جرعات “براغماتية” على عملية الحكم لجهة إقران المبادئ بالسياسة مع الحداثة. من هذا الباب، لو كانت الشعوب مقتنعة تماماً بأن أنظمة حكمها اليسارية تقف إلى جانبها وتدافع عن قضاياها وتحميها من الإستغلال، لما فكرت للحظة بالإنقلاب عليها، أو استطاع أحد التغرير بها. فالأغنياء يدفعون لكنهم لا يموتون. الغالبية العظمى ممن يسقطون في مواجهات الشارع هم الفقراء والمعدمين والعاطلين عن العمل واليائسين.

إن الأداء السياسي الرديء هو الباب الذي دخل منه الغريب، الولايات المتحدة كانت أم غيرها؛ وبالتالي، يجدر بالقادة اليساريين الحقيقيين “سد الذرائع” من خلال وضع سياسات يكون فيها الزعماء قدوة ومثلاً أعلى يحتذى به، وهذا ليس بمستحيل فهناك أمثلة لا تزال في الذاكرة أهمها وأبرزها تشي غيفارا.

ومن الأمور التي تبعد شبح التدخلات أيضاً، هي العمل على تشبيك السياسات وخطط الدفاع المشتركة بين تلك الدول. حينها، يصعب على أية دولة عظمى، حتى لو كانت الولايات المتحدة بذاتها، اختراق هذه الكتلة الضخمة إذ ستكون الخسارة أكثر بكثير من الأرباح.

*مؤسس ومدير مركز سيتا

مصدر الصور: مونتي كارلو – الإندبندنت – مركز البيان للدراسات والتخطيط.