في ستينات القرن الماضي، شاع مصطلح “الأمن القومي العربي” ضمن الشعارات القومية، وكان يقصد به أن الأمة العربية أمه واحدة وأن أمنها واحد لا يتجزأ؛ لذلك، وجب التضامن بين كل أعضاء الجسد العربي واعتبار أن أي مساس بأية دولة يعد مساساً بكل الدول العربية حتى دون أن تتحقق الوحدة العربية الشاملة، فلقد كان الهدف خلف هذا الشعار هو الدفاع عن المصالح العريية ضد الدول غير العربية، كما كان يهدف إلى الدفاع عن فلسطين في مواجهة “الالتهام” الصهيوني.

الواقع، أن هذا الأمن القومي العربي كان محدوداً ولم تكن قضية المياه قد أثيرت رغم أنها قديمة لكون استخدام الانهار والمياه العذبة متاحاً. غاية ما فعلته الدول العربية هي أنها وحدت موقفها في مؤتمر قانون البحار طوال جلساته وسجل البعض هذه التجربة في معهد الدراسات العربية في القاهرة.

لكن المشكلة الحالية هي أن الوجود العربي نفسه مهدد بحجب المياه عن العرب، لأن العالم العربي ليس به سوى 5 دول تعتمد كلياً أو جزئياً على الأنهار وهي مصر والسودان على نهر النيل، وسوريا والعراق على نهري دجلة والفرات، بالاضافة إلى لبنان من خلال نهري الليطاني والحاصباني، الذي يعتبر أحد روافد نهر الأردن، وكذلك الأردن على النهر نفسه. من الملاحظ أن بقية الدول العربية لا تتمتع بهذه الميزة، وهي الإطلال على الأنهار؛ ولكن المشكلة الحالية هي أن الدول الثلاثة المتحكمة بالمياه العربية تتساند فيما بينها ضد المصالح العربية، وهي إثيوبيا (الحبشة) وتركيا وإسرائيل، وقد تردد خلال العشر سنوات الماضية أن إسرائيل ضالعة في كل مشاكل مصر المائية، حيث نذكر أنها أجبرت الرئيس المصري الراحل ، أنور السادات، للموافقة على مدها بالمياه من نهر النيل حيث أنشأ بالفعل ترعة في سيناء أطلق عليها “ترعة السلام” بإعتباره بطل السلام، كما قال الدستور المصري لعام 2014.

وفي أزمة مصر مع إثيوبيا، رتبت إسرائيل أوراقها مع الأخيرة وغانا وكينيا منذ وقت طويل حيث قام أفيغادور ليبرمان، وزير الخارجية الاسرائيلي السابق ربيع لعام 2010 – بزيارة لها، ولما سئل المتحدث بأسم وزارة الخارجية المصرية عن تلك الجولة التي أُحكم فيها الطوق على مصر – قال “إن هذه الجولة لا تعنينا”، والغريب أنني نشرت في جريدة الأهرام، أكتوبر/تشرين الأول 2010 أي بعد هذا التصريح بعدة أشهر – تقرير عاموس يادلين، مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية، حول انجازات الأمن الإسرائيلي في مصر حيث قال أنهم تمكنوا من التحكّم في جميع مفاصل الدولة المصرية، وطالبتُ يومها من اللواء المرحوم عمر سليمان، مدير المخابرات العامة المصرية في ذلك الوقت، أن يعلّق على هذا التقرير ولو في جلسة خاصة لمجلس الشعب.

بالنسبة إلى إثيوبيا، فهي منبع نهري النيل الأزرق والأبيض الذين يؤمنان كل احتياجات مصر المائية مع ملاحظة أن 85% من هذا القدر يأتي من النيل الأزرق، ويتغذى على بحيرات أوضحنا تفاصيلها في ملحق كتابنا الصادر في يناير/كانون الثاني 2020 حول الحماية القانونية لحقوق مصر المائية في نهر النيل في ضوء القانون الدولى.

أما إسرائيل، فقد زُرعت في المنطقة وسيطرت على الأنهار السورية واللبنانية، وعلى المياه الجوفية الفلسطينية وكذلك على نهر الأردن بعد إحتلالها للضفة الغربية وكل فلسطين، العام 1967، كما أنها هي من خلق مشاكل المياه في كل من الأردن وسوريا ولبنان.

أما فيما يخص نهري دجلة والفرات، فهما ينبعان من الأراضي التركية ولا يزال موقف أنقرة – حتى في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان – نفس الموقف الذي اتخذه سليمان ديميرل بداية تسعينات القرن الماضي عندما أوقف معظم المياه في النهرين لصالح “سد أتاتورك” والسدود الأخرى التي حجبت أكثر من 70% من مياه النهرين، وأثرت تأثيراً فادحاً على كلا البلدين، أي سوريا والعراق.

في إدعاءاتهما، تتمسك كل من إثيوبيا وتركيا بمسألة أن مياه الأمطار التي تغذي هذه الأنهار تسقط على أراضيها ومن حقها الاستفادة بها على أن تطلق ما يفيض عن حاجتها إلى الدول الأخرى دون الاكتراث لقواعد القانون الدولي للانهار. فلقد اتخذت الدول الثلاثة هذه، أي تركيا وإثيوبيا وإسرائيل، موقفاً مماثلاً عند ابرام اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بالانهار الدولية العام 1997، ولكن هذه الاتفاقية – بنصوصها الموضوعية – تمثل العرف الدولي واجب الاحترام حتى لو لم تكن الدولة طرفاً في الاتفاقية، بحسب ما ذكرته محكمة العدل الدولية في الكثير من أحكامها عندما تصدت لمعالجة هذه الاتفاقية.

والسؤال هنا: كيف يمكن اقناع الدول الثلاثة أو ارغامها على احترام القانون الدولي للانهار والمياه العذبة خاصة وأن إسرائيل حاولت أن تقايض السلام الوهمي مع الأردن بمدها بكمية محددة من المياه في نهر الأردن، في حين أن وجود إسرائيل وتعنتها وطبيعتها السرطانية هو الذي يسبب مشاكل المياه للدول العربية المحيطة؟ الثابت أن إسرائيل تدعم إثيوبيا ضد كل من مصر والسودان، ولكن لم يثبت لدينا أن إسرائيل تدعم السياسة التركية المائية.

من خلال ما سبق، يترتب العمل على تأسيس مفهوم جديد للأمن المائي العربي، وأن تتكاتف جميع الدول العربية بما فيها الدول غير النهرية لإرغام هذه الدول الثلاثة على احترام قواعد القانون الدولي. وأذكر في هذا الخصوص أنه وفي العام 1993 جاء إلى القاهرة وفد إلى العراق للتنسيق بين مصر والعراق في مسألة “سد أتاتورك”؛ لكن انصراف مصر إلى التوسط بين تركيا وسوريا فيما بعد، جعل التنسيق المصري في مسألة المياه ضد تركيا يعارض التوجهات السياسية المصرية الجديدة حينها.

خلاصة القول، إن حياة كل من مصر والسودان والعراق وسوريا ولبنان مهددة، ولا يمكن لهذه الدول منفردة أن ترغم دول المنبع على احترام القانون الدولي للانهار خاصة مع بروز مسألة تغيّر المناخ إلى الواجهة، بالاضافة إلى تقلّص كميات المياه التي يحصل عليها المواطن العربي حتى دون أثار هذه الأزمات.

مصدر الصور: الحرة.

موضوع ذا صلة: حرب السدود في الشرق الأوسط

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر