إعداد: يارا انبيعة
اعتادت النخبة العالمية، منذ ما يقرب على الـ 50 عاماً، الإجتماع سنوياً في منتجع “دافوس”، شرق سويسرا، حيث استعد نحو 3 آلاف من الأثرياء، وأصحاب السلطة في العالم التوجه إلى البلدة الجبلية الصغيرة لمناقشة المشاكل السياسية ومستقبل الإقتصاد العالمي. لكن، يبدو أن الزخم الذي يحيط بالمؤتمر لم يشهد مزيداً من الأضواء هذا العام، خاصة بعدما ألغى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب وكان ضيف الشرف، رحلته وتبعه كل من الرئيس الصيني، شي جين بينغ، والفرنسي، إيمانويل ماكرون، ورئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، ورئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، وهو ما عكس مخاوف من انسحاب آخرين، فيما حضر، رئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي، والرئيس البرازيلي، جايير بولسونارو، والمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل.
وناقش المنتدى العديد من التحديات، أبرزها مخاطر تغير المناخ هذا العام، وتباطؤ الإقتصاد العالمي، ووضع البنوك المركزية السيء في مواجهة الركود، إضافة إلى التحديات التي تطرحها التغيرات التكنولوجية.
تنوع يسوده التوتر
دورة “دافوس” هذا العام جاءت بنكهة مختلفة، عكست التوتر السائد في مجتمع الأعمال من سلسلة التقلبات السياسية المتواصلة منذ أشهر، ولم ينجح حضور نجوم مجتمعات المال والأعمال وندواتهم الكثيرة في إخفاء الغياب الصارخ لأبرز قادة العالم، إذ لم يحظ أي من المشاركين بالحماس والترقب نفسهما اللذين أحاطا، السنتين الماضيتين، بالقادة الأميركيين والفرنسيين والصينيين والهنود، بل حتى الكنديين والألمان، وتكفي جولة في الصالة الرئيسية للمنتدى لإستشعار الإحباط المنتشر خصوصاً بين رجال وسيدات الأعمال والناشطين البيئيين في غياب توافق سياسي دولي حول سبل مواجهة تراجع معدلات النمو العالمي، والمخاوف المتزايدة من فترة ركود جديدة.
وفي مقابل هذه المخاوف، طرح لاعب شهد صعوداً سريعاً إلى قلب الساحة الدولية نظرة تفاؤلية، فقد رفضت الصين، على لسان نائب رئيسها وانغ كيشان، التوقعات الإقتصادية المتشائمة وجددت ثقتها في استمرار نموها ونمو العالم، شريطة الحفاظ على تجارة عالمية حرة.
على المقلب الآخر، ترددت في أروقة المؤتمر أسئلة حول ما إذا كان المنتدى يعمل فعلا تجاه تحقيق الهدف الذي حدده لنفسه، الذي لخصه مؤسسه الثمانيني كلاوس شواب بتحسين وضع العالم، حتى ان بعض المشاركين ذهبوا الى اعتباره منفصلاً عن واقع مواطني العالم وهمومهم اليومية.
وفي محاولة لتفنيد هذه النظرة، عمد المنتدى إلى تنويع المشاركين ومجالات عملهم واهتماماتهم. فإلى جانب رجال وسيدات الأعمال والسياسيين والصحافيين، تجد بين رواد المنتدى عدداً من الناشطين البيئيين والموسيقيين وعلماء الأحياء والأطباء وغيرهم. كما سلط المنتدى الضوء على مبادرات لدعم ذوي الإحتياجات الخاصة، كمشروع موسيقي يمكّن ضعيفي السمع من استشعار الموسيقى عبر قمصان ذكية. كما اهتم منظموه بالمبادرات البيئية، عبر تخصيص ندوات لمواجهة ظاهرة الإحتباس الحراري وتقديم تجربة واقع افتراضي تتيح لمستخدميها تجربة الحياة كشجرة لدقائق. وكان الأمير ويليام من أبرز المشاركين في قضايا التغير المناخي والصحة النفسية، وتحول الأمير البريطاني إلى صحافي لساعة واحدة، حاور خلالها مقدم البرامج المخضرم ديفيد اتينبورو حول سبل مواجهة التغير المناخي وتداعياته.
أسباب داخلية
يشهد العالم أزمة تزامناً مع عقد أعمال المنتدى وهو السبب الرئيس الذي أدى إلى انسحاب الدول التي تمثل أكبر الإقتصاديات تباعاً. فالولايات المتحدة التي تأتي على رأس أقوى اقتصاد عالمي تشهد إغلاقاً حكومياً في ظل خلاف بين الكونغرس والرئيس، الذي يرغب في الحصول على تمويل لبناء الجدار العازل على الحدود الأمريكية مع المكسيك؛ فإنسحب الرئيس ترامب، من المنتدى الاقتصادي، وألغى رحلة الوفد المندوب له أيضاً.
أما رئيسة الوزراء البريطانية، فقد ألغت أيضاً رحلتها بعد هزيمة مدوية في تصويت البرلمان على خطتها للإنسحاب من الإتحاد الأوروبي، قبل أن تنجو للمرة الثانية من تصويت سحب الثقة لحكومتها، وهي حالياً تواجه أزمة قيام الشركات إلغاء أو تأجيل استثماراتها انتظاراً لما سوف يستقر عليه الوضع في النهاية.
وأتت أسباب أكثر خطورة انسحب الرئيس ماكرون، التي تشهد بلاده احتجاجات “السترات الصفراء” التي جابت عدة مدن اوروبية ووصل صداها إلى البلدان العربية، حيث فشلت الحكومة من الوصول إلى اتفاق مع المتظاهرين الذين يحتشدون في الشوارع منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2018.
وبسبب تسجيل ثاني أكبر اقتصاد في العالم إلى أبطئ معدل نمو له منذ 30 عاماً، لم يحضر الرئيس الصيني المنتدى؛ أما تفويت رئيس الوزراء الهندي فرصة الحضور فهي راجعة إلى أسباب تمثلت في انشغاله بالإنتخابات البرلمانية التي ينافس فيها على الفوز بولاية ثانية.
هجوم الملياردير
كانت مشاركة بكين في فعاليات “دافوس”هي الأبرز هذا العام، بفضل تقاطع عوامل تشمل مواجهتها التجارية المستمرة مع أكبر اقتصاد في العالم، وتأثير تباطؤ نموها على الأداء الاقتصادي العالمي، والإنتقادات الغربية المحيطة بعملاقي الإتصالات “هواوي” و”زي.تي.إي”. وفيما حمل الوفد الكبير رسالة تفاؤل وتحد، لم يتردد مشاركون في انتقاد سياسات الصين المتعلقة بالملكية الفكرية ومزاعم التجسس عبر شركات الإتصال، وعمليات التجسس الإلكتروني التي اتهم الغرب بكين بالوقوف وراءها، وكان آخر المنتقدين الملياردير، جورج سوروس، الذي هاجم الرئيس الصيني معتبراً إياه “أخطر عدو للمجتمعات الحرة والديمقراطية”. وأوضح سوروس، في خطابه التقليدي على هامش أعمال المؤتمر، أن الصين “ليست النظام المستبد الوحيد في العالم، لكنها بلا شك الأغنى والأقوى والأكثر تطوراً في مجال الذكاء الإصطناعي”، وأضاف “أن هذا يجعل شي جين بينغ أخطر عدو للذين يؤمنون بالمجتمعات الحرة.”
ودعا سوروس، أمام حشد من الصحافيين والسياسيين والإقتصاديين، الولايات المتحدة إلى التحرك ضد مجموعتي الصناعات التقنية الصينيتين “هواوي” و”زي.تي.إي”، واعتبر أنهما، إذا تمكنتا من السيطرة على أسواق الجيل الخامس من تقنيات الهواتف الجوالة، فإنهما ستمثلان “خطراً غير مقبول على أمن العالم”، متابعاً “العام الماضي (2018) كنت اعتقد أنه يجب تعزيز استيعاب الصين في مؤسسات الحوكمة العالمية، لكن منذ ذلك الحين، دفعني سلوك شي إلى تغيير رأي.” في المقابل، لم تتأخر الخارجية الصينية في الرد على هذا الهجوم اللاذع، وقالت في بيان لها إن تصريحاته بلا معنى، ولا تستحق التفنيد.
تطمينات صينية
بعيداً عن التصعيد السياسي بين الصين والغرب، سعت بكين إلى طمأنة المستثمرين، حيث أشار أحد أعضاء الوفد إلى أن تراجع نمو الإقتصاد الصيني لا يشكل كارثة، وأوضح فانغ شين هاي، نائب رئيس هيئة تنظيم سندات الضمان الصينية مخاطباً جلسة حول المخاطر المالية الدولية، أن السياسات الإقتصادية الصينية سريعة الإستجابة للمتغيرات، وتقوم على الإنفتاح وإتاحة فرص استثمار للشركات عبر العالم.
وعزز نائب الرئيس الصيني، وانغ تشي شان، هذه الرسالة بقوله إن اقتصاد بلاده لا يدخل نهاية دورته التوسعية، وأنه سيواصل تحقيق نمو مستدام على الرغم من الشكوك العالمية، ووجه وانغ رسالة مبطنة إلى واشنطن بتأكيده على الترابط العضوي للإقتصادين الصيني والأميركي، مشيراً إلى أن أي مواجهة بين البلدين ستلحق ضرراً بمصالح الجانبين.
إنقسامات أوروبية
يصعب تجاهل التباين الكبير في السياسات الأوروبية، لا سيما فيما يتعلق بمستقبل الاتحاد الأوروبي والتعاون الدولي واتفاقيات التجارة الحرة. ففي الوقت الذي دافعت فيه ميركل عن التعددية والإصلاح لمواجهة تفاقم الإختلالات العالمية، هاجم رئيس الوزراء الإيطالي، جوسبي كونتيه، المشروع الأوروبي واليورو، الذي تسبب في تنامي الدين العام وتباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي، وتحدث كونتي عن حاجة ملحة إلى رؤية جديدة تركز على الإنسان والعائلات والمجتمعات.
كما فرضت قضية خروج بريطانيا نفسها على فعاليات المنتدى بالرغم من غياب رئيسة الوزراء البريطانية، وقوبلت جهود أعضاء الوفد، الذي ضما وزير الخزانة فيليب هاموند والتجارة الدولية ليام فوكس، لطمأنة المستثمرين الدوليين بكثير من التشكك.
مشاركة عربية
خصص المنتدى الاقتصادي العالمي عدداً من الجلسات حول آفاق العالم العربي الأمنية والاقتصادية، وأجمع المشاركون فيها على أن الإستقرار السياسي هو “مفتاح” تنمية وازدهار اقتصاديين محورهما الشباب. وبرزت السعودية كنموذج إصلاحي يقتدى به ويرسم الطريق لجذب رؤوس الأموال الأجنبية إلى المنطقة، حيث أكدت الرياض التزامها بالمضي في برنامج الإصلاحات الإجتماعية والإقتصادية والمالية تماشياً مع “رؤية 2023”. وقال وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، في هذا الإطار إن بلاده حولت الوعود إلى إنجازات ومشاريع واضحة نفذت، وترجمت بإستثمارات كبيرة جداً من القطاع الخاص خلال الشهور الماضية.
وبحثت الجلسات حول المستقبل الأمني للشرق الأوسط سبل إرساء الإستقرار السياسي في المنطقة، وحظي الوضع السوري بإهتمام خاص في هذا السياق، واعتبر وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، أنه ينبغي التعامل مع الأزمة السورية عبر مقاربات واقعية تقدم مصلحة سوريا والسوريين على صراع الأجندات الدولية والإقليمية.
من جهته، وصف عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، في تصريحات، المشاركة العربية بـ “الجيدة” على مستويي التمثيل السياسي والأعمال، ولاحظ في المقابل ضعف المشاركة الإيرانية، وقال إنها تراجعت خلال السنتين الماضيتين. وفي هذا السياق، قال موسى إن إيران في حاجة إلى مراجعة علاقتها مع العالم العربي، إذ قال “ارتكبت إيران أخطاء كثيرة، ونعارض كثيراً من سياساتها، لكنه ينبغي عدم الخلط بين مشكلاتنا ومشكلات طهران مع إسرائيل، ومشكلاتها مع الولايات المتحدة.”
أخيراً، من اللافت أن المنتدى الاقتصادي لا زال يسجل كل مرة فشله في قراءة المستقبل، وهو الهدف الذي يجتمع القادة من أجله. ففي دافوس 2016، لم يتوقعوا محاولات خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، كما أنهم استبعدوا فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وانسحاب واشنطن من اتفاقية “باريس” للمناخ، وبروز الحرب التجارية، والإنسحاب من الإتفاق النووي مع إيران وتداعياته.
فبالرغم من كل الإخفاقات التي يواجهها “دافوس”، إلا أن البعض لا يزال يأمل فيه بإعتباره فرصة حقيقة لإنعاش الإقتصاد المتأزم في ظل تقارير صندوق النقد؛ ويعتبر كلاوس شواب، مؤسس المنتدى العالمي، أن العولمة “تنتج الرابحين والخاسرين”، في إشارة إلى أن الجميع يختار مصالحه أولاً متخطياً الهدف العام الذين من أجله يلتقي الزعماء.
مصدر الأخبار: وكالات.
مصدر الصور: الجزيرة – إيلاف – يورو نيوز.