بول غيشيو**

سأبدأ حديثي بذكر حلقتين من كتاب الإنجيل؛ الحلقة الأولى، هي إغراء آدم وحواء في حديقة الفردوس. والحلقة الثانية، هي طرد التجار من الهيكل. في كتاب مايكل إندي الرائع “قصة لا تنتهي أبداً”، إن أرض الخيال تقع تحت تهديد اللا شيء. هذا هو بالضبط ما يحدث وينطبق على عالمنا اليوم.

هل التعددية القطبية حقيقية؟

اجتمعنا هنا للحديث عن التعددية القطبية. معظمنا، أو ربما جميعاَ، يدعم الفكرة ومبهور بها. هل هذا جيد؟ بالتأكيد لا يبدو كذلك. أخيراً، بدأت الإمبراطورية الأمريكية تواجه التحدي وهي في طريقها إلى الإنهيار. ولكن هل التعددية القطبية حقيقية؟ ليس لدينا إجابة واضحة على هذا الأمر. شخصياً، منذ اللحظة التي أعلن فيها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عن التعددية القطبية، مشيراً إلى الولايات المتحدة، فلقد حملها ذنب ومسؤولية التدهور الحاصل للغرب، وهذا ما لا أوافق عليه. قد يكون ذلك جزءاً من خطة، أو تطور أقل ملاءمة لها، ولكن أُخذ بعين الإعتبار. لا تقل لي أن روتشيلد قدم له بعض الملايين لبضعة أيام من العمل داخل البنك، الذي يملكه، ثم سمح له بأن يكون مفكراً حراً.

بيان الرئيس ماكرون ليس اعترافاً، بل نوع من الإحتيال: “حسناً أيها الناس، لقد فزتَ أنت، نحن نستسلم! لينام وعينا، لنحلم أنهم يستسلمون.” ثم يأتي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أو بالأحرى القوى التي تقف وراءه، كجزء من “المافيا” العالمية الفاعلة والنشطة ضمن حلقة تغيير العالم. وأخيراً، وما هو أهم، لا تنسَ أن مركز القيادة العالمي هو اليوم أكثر نشاطًا وقوة من أي وقت مضى: الأمم المتحدة بجميع هيئاتها ومؤسساتها ومنظماتها (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة الأمم المتحدة للطفولة، المعروفة أصلاً بإسم صندوق الأمم المتحدة الدولي لطوارئ للأطفال، منظمة التجارة العالمية.. إلخ) تعزز وتفرض أكثر السياسات خبثاً سواء لجهة هيمنة لرأس المال، وإفقار الشعوب وإثراء الأغنياء، والهجرة، والتطعيم، ومثليي الجنس، وغيرها الكثير.

لدي شعور بأنهم يحاولون اللعب بنا مرة أخرى. اعتباراً من مشهد الجنة هذا وأكثر إدراكاً لحضارتنا منذ الثورة الفرنسية، فهم يقومون دائماً بإعداد الكثير من الأمور مسبقاً، كالشعارات الزائفة، والنهايات المحتومة، والإتجاهات الخاطئة، ونحن علينا القيام بالرد طوال الوقت. وبالنظر حولنا، يمكننا أن نقول إنهم، حتى الآن، قد نجحوا إلى حد كبير جداً. هم لم يخطئوا أبداً، فهل يفعلوها اليوم؟

سيكون لدينا عالم متعدد الأقطاب. هل ستتعامل هذه الأقطاب الجديدة بشكل مختلف؟ هل ستواجه هذه الأقطاب الأسس الإقتصادية القمعية لمجتمعاتنا وتعمل على إيجاد رؤية جديدة؟ هل سيكون المال غداً أقل أهمية من الإنسان؟ من الصداقة، من الإحترام، من الحب؟ لا أعتقد ذلك، وسأشرح لكم السبب. ولكننا بالطبع سوف ندعمها طالما أنها ستؤدي إلى تفكك الإمبراطورية.

عالم لا بشري: إمبراطورية رأس المال

أُربط “إغراء الفردوس” مع رفض الله، في وقت نرى فيه أنفسنا كآلهة. أُربط “طرد التجار” من الهيكل مع من يحكمون عالمنا اليوم. التجار. ماذا فعلوا؟ لقد قدموا لنا ثمرة الليبرالية، الجزء العلوي، والجزء الظاهر والمفيد من إيديولوجيا رأس المال. لم نعد نعيش في عالم بشري. حتى وقت قريب، كانت تسميات المجتمعات والدول مرتبطة بشيء إنساني: النشاط، الأدوات، العلاقات، التسلسل الهرمي أو الوضع الإجتماعي، وما إلى ذلك.

لقد عشنا في العصر الحجري، العصر البرونزي، العصر الحديدي، العبودية، الإقطاع، دولة الرقيق، الملكية، الجمهورية، الديمقراطية، الأرستقراطية (أحد أشكال الدولة الثلاث لأرسطو). لكن العالم الذي نعيش فيه هو رأسمالي (أو الإشتراكية أو الشيوعية: المستويات الدنيا من كومة رأس المال الأيديولوجية). نحن اليوم ليبراليون، اشتراكيون، شيوعيون؛ كل الهويات الأيديولوجية قادمة من المصدر نفسه: الرأسمالية الناشئة في العصور الإنسانية ولّا إنسانية، والتي تبحث عن وسيلة للإطباق على القوة العالمية؛ بمعنى إضفاء الشرعية على نفسها كـ “دين” جديد للعالم.

اليوم، المال هو المحدد الرئيسي لـ “الحقيقة”. “الحقيقة” هي ما يقوله المال، والمال لديه القدرة على فرض “الحقيقة”. فالحقيقة الصادقة غير مرحب بها من قبل أية حكومة أو جهة حاكمة في عالم الغرب، أو حتى البلدان التي أفسدتها سياسات هذا الغرب. حالياً، لم يعد عدو الحقيقة في روسيا أو الصين، بل في واشنطن ونيويورك وهوليوود وقنواتها الإعلامية والإخبارية (CNN، وMSNBC، وNPR، وNew York Times، وWashington Post) وفي الجامعات والعلماء الذين يكذبون مقابل المال، وفي الأثرياء الذين يسيطرون على هذه الكيانات، بما في ذلك الكونغرس والسلطة التنفيذية والمكتب البيضاوي والقضاء. (بول كريج روبرتس: الحقيقة نوع مهدد بالإنقراض)

عالم يعاني “ورماً خبيثاً”

لن تتلاشى المافيا المالية – المصرفية العالمية مع بداية تشكل عالم متعدد الأقطاب، بل ستظل متواجدة؛ تحت منديل المائدة، تحت وسادتنا، في بيوتنا وسياراتنا، في جميع أجهزتنا كي “تملأ الفراغ في حياتنا”؛ تحت الأساس الثقافي الجديد؛ داخل النظام التعليمي؛ تحت الشبكات الإجتماعية؛ تحت 99٪ من وجودنا اليومي. بأموال ضخمة، مع جزء كبير من الأرض، كممتلكات عقارية، مع مئات الملايين من الأشخاص في شركاتهم عبر الوطنية والوطنية، وشبكات الدولة الهيكلية، والمجتمع المدني، ووسائل الإعلام، إلخ.

نحن نعيش في عالم استسلم بالكامل للمال. والمال ليس له “دين”، ولا قاعدة أخرى غير التكاثر. ليس لديه أية مشاعر (الكراهية تأتي من سيده)، ولا يتألم، ولا يمكنهم البكاء أو الضحك، أو الحلم. اصحابه دائماً جائعين. إنهم قتلة بدم بارد. مستبدون 100٪. ليس عندهم تعاطف ولا كيمياء ولا رحمة ولا نوايا حسنة. لا شيء إلا الكثير من المال، والفساد، والتفاهة. هذا هو السبب، إن أية قيم ومبادئ أخرى تعارضهم يجب أن تُحرَّف، وتباد بدون رحمة. لا يمكننا تخيل ذلك، فالأمور واضحة وضوح الشمس.

نحن نتعامل في عالمنا مع “السرطان”. ورم ضخم ليس من السهل اكتشافه لأنه يختبئ خلف المؤسسات والهيئات الوطنية والدولية. لكن المشكلة الحقيقية المميتة هي أنه أصاب كل خلية في جسد المجتمعات البشرية. الخلايا السرطانية موجودة في كل مكان وقريبة من الجميع، متخفية تنتظر نداء الإستغاثة. فنحن نتحدث ونفكر بطريقهم، ونأكل، وننام، ونحب ونكره ونضيع أوقاتنا كما يريدون. نحن استنساخ للعبد المثالي الذي طوروه في مختبراتهم الإجتماعية. لذلك، إذا كنا نريد صنع عالم أفضل، فعلينا أن نرفض كل ما هو من عالمهم.

هؤلاء الناس لن يتوقفوا عن “خدمة الشر”؛ إن الخوارزمية المزروعة بداخلهم تدفعهم بشكل مستمر لإستعباد الإنسان، أي هدم خلق الله. أنهم مضبوطون للوصول إلى النهاية الكاملة: تدمير الكوكب بأسره. أعتقد أنه سيكون هناك دمار وألم وموت قريب. وفي حال نجاح اي مشروع معارض لهم ولمشاريعهم، فهم على إستعداد كامل لتفجير كل شيء. ثلاثة هي الأمور التي لا يستطيعون تدميرها؛ الأمر الأول، إرادة الله. الأمر الثاني، عدم وجود قوة تنافسهم أو تقف في وجههم حتى الآن. الأمر الثالث والأخير، تضليل البشر والذي يعد انتصاراً رائعاً للشيطان أكثر من قتلهم مباشرة. إنها معاناة طويلة من طقوس محيرة قبل الموت.

من هنا، نحن نواجه ثلاثة بدائل رئيسية:

  1. تعددية قطبية وهمية. لقد نجحوا في استعباد العالم لكن ليس كل الناس وليس إلى الأبد (إن شاء الله). لاحقاً، سيبدؤون القتال مع بعضهم البعض حتى تدمير قسم كبير من العالم.
  2. تعددية قطبية حقيقية لا تعارض الإمبراطورية الأمريكية المزيفة فحسب، بل تعارض مع الإمبراطورية الحقيقية لرأس المال، وبشكل أساسي النواة الأنجلو – صهيونية لها. عندها، سيبدأ الإمبرياليون الحرب ويتم تدمير جزء كبير من العالم. (هذا هو الهدف الحقيقي لقواعد الصواريخ حول روسيا والصين)
  3. تعددية قطبية حقيقية واقعياً، بحيث أن هناك خوف من ان المجتمعات والدول التي تتألف منها تلك الأقطاب الجديدة واهنة، والأجيال القادمة، ستركع أمام السيد الظالم نفسه.

الحل الوحيد: العودة إلى الحقيقة

في أي من المتغيرات المذكورة أعلاه، لا يمكن القول بإن المستقبل مطمئن على الإطلاق. بل على العكس، يبدو أنه مظلم تماماً. أصحاب؟ مساعدة؟ لسوء الحظ، نظراً لأنه يفرض علينا الإعتقاد بأننا آلهة، فالتكنولوجيا لن تكون صديقتنا على الإطلاق. حتى التركيبة السكانية (معدل المواليد)، وتوزيع السكان بين المدن والقرى. الشيء نفسه مع الثقافة والتعليم وهياكل الدولة.

إن وتيرة التحول العالمي تزداد بإستمرار. نحن نتحدث عن عالم متعدد الأقطاب آخذ في الظهور، لكن صباح الغد سيختفي بالفعل. ستكون التعددية القطبية مجرد شيء تركناه خلفنا ومشينا، وعلينا أن نفكر بالفعل في المستقبل لنحاول، لمرة واحدة في تاريخنا، أن نفكر. ما هي الصيغة التالية؟ ما الذي يتعين علينا القيام به للتغلب على الواقع؟

إن الحل التقليدي والوحيد هو التخلي عن كل ما يربطنا بالعالم المزيف: المفاهيم، الإيديولوجية، العقائد، الكلمات، المراجع، العادات، الأشياء. يجب أن نتخلى عن كل ما ننتقده عند أعدائنا: السمات الخارجية، والسمات الداخلية بشكل أساسي.

إذا كنا نبحث فقط عن طريقة أو حل جديد لتغيير العالم بشكل أفضل دون القيام بتغيير أنفسنا أولاً، فسوف نستمر في العمل على منوالهم. إن الحل الحقيقي والوحيد هو الحل الكلاسيكي بالتغيير، أي إعادة ضبطنا داخلياً، وفقاً لنموذج يسوع المسيح من التفكير والتحدث والتمثيل. علينا العودة إلى الحقيقة.

*ألقيت في “منتدى شيشيناو” الثالث بعنوان: المؤتمر الدولي “بعيداً عن لحظة الأحادية القطبية – توجهات متعلقة بعالم ناشئ متعدد الأقطاب” الذي عقد في سبتمبر/أيلول 2019.

**صحافي وسياسي – رومانيا.

مصدر الصورة: منظمو المؤتمر.