ديفيد شاهنازريان**
بداية، أود أن أعرب عن خالص شكري لمنظمي هذا الحدث لإتاحة الفرصة لنا بالمشاركة. فعلى الرغم من أنني لا أتفق مع بعض ما قيل هنا، إلا أن التواصل مع هذا الحضور القيم مفيد وممتع بالتأكيد.
قيل هنا أن اللغة الإنجليزية هي لغة الإمبراطورية. أولاً، دعونا نفهم ماهية الإمبراطورية. الإمبراطوريات الجغرافية السابقة لم تعد قائمة اليوم. وبرأيي المتواضع، الإمبراطورية هي دولة تصدر الطاقات السياسية والإقتصادية والتكنولوجية والعسكرية. إذا نظرنا إلى فكرة الإمبراطورية من وجهة النظر هذه، فهناك ثلاثة إمبراطوريات في العالم الآن؛ تشكل الولايات المتحدة إمبراطورية سياسية وعسكرية واقتصادية وتكنولوجية، وتشكل روسيا إمبراطورية سياسية وعسكرية، بينما تشكل الصين في إمبراطورية اقتصادية وتكنولوجية وسياسية. من الواضح أننا نعيش الآن في عالم متعدد الأقطاب.
فيما يخص العولمة، أود التأكيد على أنني لست مع العولمة ولكنني لست من المعادين لها. أعتقد أن لها عوامل إيجابية وأخرى سلبية. في الوقت الحاضر، هناك نتيجة خطيرة جداً للعولمة تتمثل في عولمة الخطر والتهديد وعدم القدرة على التنبؤ. اليوم، تواجه جميع البلدان في أوراسيا، وليس بعضها، ما نسميه حال إنعدام الأمن. السبب الرئيسي في ذلك هو أن نظام الأمن الدولي، نظام الأمن الأوروبي الذي تم إنشاؤه عقب الحرب العالمية الثانية أو ما يسمى بنظامي “يالطا” و”بوتسدام” للأمن، توقف عن العمل منذ زمن طويل. حتى الآن، لم نر أية اتجاهات جدية نحو إنشاء أي نظام آخر بديل ليحل مكانه.
اليوم، نعيش في عالم يمكن قد يكون فيه صديق صديقك عدوك، وصديق عدوك صديقك. نحن نعيش في عالم شديد الانفجار.
لقد تم تطرق خلال الجلسات السابقة إلى الوضع في إيران. لن أقوم بتحليل الوضع الحالي عن إيران وحولها، لكنني أود التركيز فقط على مجموعة من المخاوف. لذلك، أود تقديم بعض الإعتبارات في ضوء التطورات الخطيرة في جميع أنحاء الجمهورية الإسلامية، حيث لا تزال واشنطن وطهران تخوضان مواجهة مستمرة لا يبدو بأن هناك أفق واضح لها.
على الرغم من بعض الإتجاهات والتحركات الإيجابية الأخيرة والتي قللت من خطر القيام بعمل عسكري محتمل ضدها، فإن الوضع في جميع أنحاء الجمهورية الإسلامية لا يزال متفجراً للغاية. فالمحاولات الأمريكية لتشكيل تحالف جديد من الدول لمواجهة ما تعتبره تهديداً بحرياً متجدداً من قِبل إيران، عبر نشر السفن الحربية في الخليج الفارسي – العربي والإستيلاء على ناقلات النفط وتدمير الطائرات العسكرية بدون طيار، خلقت موقفاً قد تؤدي فيه هذه التركمات من الأعمال العدائية إلى حدوث ما يسمى “الحرب بالصدفة”، والتي قد لا تقع بناء قرار سياسي لأحد الأطراف الرئيسية المشاركة.
وبالنظر إلى العدد الكبير من اللاعبين الرئيسيين وأصحاب المصلحة في هذه العملية، بما في ذلك الجهات الفاعلة العامة وغير الحكومية، لا يستبعد أن يحاول أحد اللاعبين القيام بعمل ما يتم تصويره على أنه “حرب عن طريق الصدفة”.
ففي حالة حدوث السيناريو الأسوأ كإندلاع أعمال عدائية أو قيام حرب، من الواضح أن العملية البرية ضد إيران ستكون مستحيلة عملياً بسبب عامل الجغرافيا، ونعني هنا سلسلة الجبال على طول حدودها والصحاري في الشرق والمستنقعات في الجنوب، إضافة إلى أن تركيا لن تسمح للقوات الأمريكية بإستخدام أراضيها لغزو إيران.
ولكن من الواضح أيضاً أن جغرافية مسرح العمليات العسكرية سيتوسع بشكل كبير في جميع أنحاء المنطقة، فقد تشمل العمليات العسكرية البلدان التي ستشارك في الحرب عن غير قصد. نتيجة لذلك، سيزداد عدد الدول المشاركة في الأعمال العدائية بشكل هائل، وستمتد في كافة أرجاء الشرق الأوسط، من سوريا إلى الإمارات ومن إيران إلى السعودية.. الخ.
أيضاً وفي حالة القيام بأعمال عدائية ضد إيران، من المحتمل أن يستغرق الأمر من أربعة إلى ستة أشهر كي تقوم طهران بتطوير سلاح نووي. يميل بعض الخبراء إلى اعتبار الوضع حول الجمهورية الإسلامية أكثر تعقيداً من الأزمة الكاريبية، قائلين إن الأخيرة تتعلق بطرفين فقط بحيث كان من الأسهل عليهما البحث عن مخرج؛ أما في حالة إيران، نرى أن الجهات الرئيسية، الواضحة وغير الواضحة، كثيرة.
من الواضح تماماً أنه في حالة حدوث أعمال عدائية أو حرب، سيكون من المستحيل توقع جميع السيناريوهات، ولكن هناك شيء واحد واضح: الضربات الجوية الضخمة ضد إيران ستؤدي إلى تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين من هذا البلد. على الأرجح، ستغلق تركيا حدودها بحيث تتجه تلك التدفقات شمالًا إلى الحدود مع أرمينيا وأذربيجان. هذا من شأنه أن يشكل تهديداً خطيراً ليس فقط على كل من أرمينيا وأذربيجان، ولكن على روسيا أيضاً. بالفعل، جرى نقاش عميق بين عدد من الخبراء العسكريين الروس محوره أنه يتعين على موسكو زيادة عديد قواتها الحدودية على الحدود بين أرمينيا وإيران وتمتينها، والسيطرة على الحدود بين أذربيجان وإيران أيضاً، وكذلك الحدود الفعلية بين ناغورنو كاراباخ وإيران.
في حالة وقوع مثل هذه التطورات، سيكون من الصعب على أذربيجان الجلوس على كراسي جيو – سياسية مختلفة في نفس الوقت، إذ أنه ومن المرجح أن تسمح باكو لروسيا بالسيطرة على حدودها مع إيران (بما في ذلك نخجوان) بحيث أن تدفق اللاجئين سيصبح مصدراً خطيراً لعدم الإستقرار السياسي الداخلي.
إن الأعمال العدائية ضد إيران لن تفرز فائزين، لا الصعيد العسكري ولا السياسي. الكل خاسر. ولكن ليس هناك شك من أن روسيا ستحصل على أكبر الأرباح السياسية، وربما الصين أيضاً. فالأعمال العدائية المحتملة ضد إيران من شأنها أن تعزز دور روسيا إلى حد كبير، ولا يمكن لأحد غير موسكو لعب دور الوسيط. ولكن قد تظهر الصين كمساعد لموسكو في هذا الشأن.
تكتسب العلاقات الروسية – الإيرانية بالفعل صفات التحالف الإستراتيجي. كدليل عل ذلك، يمكننا الإشارة إلى الاتفاقية الموقعة مؤخراً بشأن التعاون العسكري الموسع بينهما. من هنا، تسعى إيران إلى توثيق العلاقات مع الإتحاد الإقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا. كما يستكمل الجانبان، الإيراني والأوراسي، مجموعة من الإجراءات اللازمة لبدء نفاذ اتفاقية مؤقتة لإنشاء منطقة تجارة حرة بينهما، والتي سيبدأ العمل بها إعتباراً من 27 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
بالنظر إلى تعاون تركيا متعدد الأطراف مع روسيا، من الممكن القول إن المثلث بين موسكو وأنقرة وطهران سيصبح حاسماً، مع اكتساب روسيا تأثيراً كبيراً فيه. هذا التعاون الثلاثي، قد يصبح له معنى وتأثير مختلفين في مواضيع متنوعة ومناطق أوسع بكثير.
بالعودة إلى المظاهر السلبية للعولمة، هناك أمر واحد أود مشاركته معكم؛ إنه انتشار “عولمة القيم الجديدة” لا سيما في بلدي، أرمينيا. فهناك أمور تجري تشكل خطراً كبيراً على قيام دولتنا. فالمنظومة الغربية لها تأثير كبير على الحكومة الأرمنية الحالية، والتي تدير شبكة كبيرة من المنظمات غير الحكومية، التي تضعف دولتنا، وتحمي علانية أولئك الذين يرتكبون أعمالاً إرهابية. اسمحوا لي أن أوضح كلامي عن أي المنظمات أتحدث؛ إنها مؤسسات المجتمع المفتوح أو “مؤسسة سوروس” (جورج سوروس) التي تعمل ضد الدولة الأرمنية، ضد ناغورني كاراباخ، من أجل إضعاف قوتنا المسلحة.
في يوليو/تموز من العام 2016، وقع هجوم إرهابي في العاصمة يريفان ضد مركز للشرطة من قبل مجموعة إرهابية، إحتجزت عدداً من الرهائن وقتلت ثلاثة من ضباط. وبعد تغيير السلطة، في العام 2018، لم يتم تبرئة أعضاء تلك المجموعة فحسب، بل قامت بتأسيس حزب سياسي.
هذه الأمور تعد في غاية الأهمية بالنسبة إلى أرمينيا؛ لأنه إذا كانت جورجيا (حتى بدون أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية) وأوكرانيا (حتى بدون شبه جزيرة القرم وإقليم الدونباس ولوغانسك)، فإن جمهورية أرمينيا ستتعرض لخطر فقدان دولتها، دون جمهورية ناغورنو كاراباخ. إن أنشطة تلك المنظمة المذكورة أعلاه موجهة، في المقام الأول، ضد ناغورنو كاراباخ.
في النهاية، أود أن أقول بأنه لا يمكن إنشاء نظام أمني دولي جديد إلا من خلال المفاوضات. الآن وفي زمن الحروب المختلطة، يبدو أن الدبلوماسية قد تراجعت إلى المقعد الخلفي.
بأعتقادي أيضاً، لا يمكن إنشاء نظام أمني دولي جديد إلا من خلال التعاون بين روسيا والولايات المتحدة والصين. كما أنه يجب علينا جميعاً، بوسائلنا المتواضعة، الترويج للفكرة القائلة بإن العالم ليس لديه طريقة أخرى سوى إنشاء نظام أمني جديد.
أشركم على حسن إستماعكم.
*ألقيت في “منتدى شيشيناو” الثالث بعنوان: المؤتمر الدولي “بعيداً عن لحظة الأحادية القطبية – توجهات متعلقة بعالم ناشئ متعدد الأقطاب” الذي عقد في سبتمبر/أيلول 2019.
**مسؤول أمني وسفير سابق – أرمينيا.
مصدر الصورة: منظمو المؤتمر.