سمر رضوان*
لا تترك الولايات المتحدة فرصة إلا وتستخدمها، وبالتوقيت المناسب، من أجل “تعكير” صفو الانتصار الروسي في العديد من الملفات. فنزول واشنطن من على قمة النظام الدولي لن يكون بالأمر السهل، بل أكثر من ذلك إذ سيكلف العالم الكثير من الدماء وهو شيء طبيعي، بالنسبة لتاريخ السياسة الدولية، عند حدوث تغير جذري فيه والانتقال من نسق إلى آخر.
لعل موقف الولايات المتحدة، وعلى لسان مندوبتها الدائمة في الأمم المتحدة نيكي هايلي، بتوجيه بلادها ضربات عسكرية “استباقية”، سواء في سوريا أو كوريا الشمالية، من خارج إطار مجلس الأمن يعكس حالة “التفرّد” التي تعيشها واشنطن وتريد فرضها بالقوة حيال كل ملف يخرج عن سيطرتها أو ادارتها. حيث لا تزال “سياسة القوة” مسيطرة على الإدارة فيها، خصوصاً وان العديد من الدول باتت في مصافي الدول الكبرى التي قد تهدد “عرشها” مستقبلاً. من هنا، تسعى إلى كبح جماح أي انجاز تقوم به وعرقلته كي تبقى “المايسترو” الذي يوازن السياسات الدولية على قياس مصالحها الخاصة ونفوذها.
لا شك بأن “الخطاب النووي” للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين وبالرغم من تقليل واشنطن لأهميته، قد أضاف الكثير على المشهد الدولي لا سيما بعد الإنجازات التي حققها السلاح الروسي في سوريا، بالتحديد وإثباته لفعالية كبيرة، ناهيك عن الأسلحة التي تم عرضها خلال الخطاب، ومن يعلم فقد يكون ما خفي أعظم.
إضافة إلى ذلك، منحت النسبة الكبيرة، التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسية، الرئيس بوتين زخماً كبيراً جديداً للانطلاق في مشاريعه، حيث أكد المجتمع الروسي على إرادته في أن يكون لبلاده دور مهم على الصعيد الدولي عبر اختيار الشخص الذي ساهم في نهوض روسيا بعد أقل من عقد، خلال حكم الرئيس الراحل بوريس يلتسن، ذاقت فيه الأمرَّين.
لقد كان الرد الأمريكي متعدداً وعلى أكثر من جبهة، وأبرزها طرد لندن، حليفة واشنطن، لـ 23 دبلوماسي روسي على خلفية تسميم عميل مزدوج سباق، سيرغي سكريبال، في خطوة ترمي إلى هدفين؛ الهدف الأول، ربط عملية تسميم العميل بالسلاح الكيماوي السوري وإبراز دور ما لروسيا بتزويد دمشق بتلك الأسلحة او غض النظر عنها. الهدف الثاني، التأثير على مجرى الانتخابات الرئاسية الروسية وهو ما أبرز ايضاً موقف أوكرانيا، حليفة الغرب أيضاً، من خلال منعها المنتخبين الروس من الإدلاء بأصواتهم في قنصلية بلادهم للتخفيف من نسبة الاقتراع وبالتالي الضغط على روسيا، والرئيس بوتين بالتحديد، من هذه النقطة بالذات.
غير أن الرد الروسي المماثل، والسريع، قد أدى إلى زيادة الثقة في الرئيس بوتين من جديد؛ وبحسب مراقيبن، فلقد ساهمت قضية الجاسوس سكريبال بشكل إيجابي على مجرى الانتخابات خصوصاً وأن موسكو قد أعلنت استعدادها للمساعدة في التحقيق بغية كشف أية ملابسات وضحد أية مزاعم، كتلك التي اتهمت الرئيس بوتين بالوقوف خلف عملية الاغتيال تلك.
على المقلب السوري ومع قرب انتهاء عمليات العسكرية في الغوطة الشرقية لدمشق، دخلت واشنطن على الخط من خلال تركيا التي أعلنت الاستيلاء على مدينة عفرين، بعد انسحاب القيادات الكردية منها، وتدمير كامل مقراتهم وانسحابهم إلى مدينة منبج. وبالتالي، حاولت أن تفقد سوريا، ومن خلفها روسيا، “نشوة الانتصار” في تأمين الجوانب الخطرة من العاصمة السورية.
من هنا، يبرز سؤال مهم: هل من مقايضة ما بين الغوطة الشرقية وعفرين؟ إن إعلان سقوط عفرين بهذه السرعة، بمقاومة خجولة (إن جاز التعبير) من قبل قوات حماية الشعب الكردية وتعنّتهم بعدم طلب مساعدة الدولة السورية، يوصل رسالة واحدة مفادها أن الولايات المتحدة لا تزال هي المتحكم بملف الكرد، حيث انتظرت إلى أن تحين الفرصة لتطبق على عفرين، برعاية تركية، وهو الأمر الذي سيلقي بظلاله، أي المسألة الكردية، على مقررات “أستانا” و”جنيف” وسلسلة من المعارك الطويلة، من الجنوب، في درعا والقنيطرة والتنف، والشمال، في إدلب.
على الضفة الأخرى، يبرز إلى الواجهة ملف كوريا الشمالية النووي وتصريح زعيمها، كيم جونغ اون، بأنه على استعداد لبحث هذا الملف مع الولايات المتحدة، خصوصاً بعد توقف المحادثات السداسية منذ فترة طويلة، ولقاء الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب. من هنا، يرى بعض المراقبين، خصوصاً بعد تصريحات الرئيس ترامب النارية تجاه كوريا الشمالية وزعيمها، إلى أن خطط البيت الأبيض لفتح صفحة جديدة، مع بيونغ يانغ، سيترك باب المفاوضات مشرعاً بمساعٍ ومساعدة من جارتها الجنوبية لخلط أوراق العلاقة الروسية – الصينية – الكورية.
في مقابل هذا الرأي، يمكن القول إن هناك عدة عناصر تتداخل في الملف الكوري. العنصر الأول، أن السلاح الكوري الشمالي، بالرغم من وضع اللمسات المحلية عليه، هو سلاح سوفياتي وبالتالي سيكون المكون الروسي أساسياً في أية مباحثات مستقبلية، وبالتالي لن يكون من مصلحة موسكو تسهيل إنهاء هذا الملف ما لم يصب في صالحها وصالح حلفائها. العنصر الثاني، الصين التي ترى في “تمترس” القوات الأمريكية، عبر نشر منظومات صواريخ، قبالتها خطراً تريد تجنبه، إن لم يكن إنهاءه. فالصراع القائم في منطقة المحيط الهادئ معقد ومتداخل بشكل كبير بين قوى عظمى، كالولايات المتحدة والصين وروسيا والهند.
في الختام، يبقى التساؤل حول السياسات الروسية الجديدة، لا سيما بعد “تجديد البيعة” للرئيس بوتين، في ظل عالم يشهد الكثير من التغيرات ومدى قدرة موسكو على القيام بأي إنجاز دون أن يتدخل العنصر الأمريكي “المفسد” عليه.
*المديرة التنفيذية في مركز “سيتا”
مصدر الصور: القدس العربي – إرم نيوز.