لطالما إتسمت مقابلات الرئيس السوري، بشار الأسد، بالشفافية المطلقة التي عوّد عليها شعبه. فليس مستغرباً إجابته على أي سؤال يطرح عليه من أي طرف كان. فجوابه كان جواب الواثق والمقتدر والمطّلع على مفاصل القضايا الأساسية بالتفصيل الخارجية منها، وعلى الصعيدين السياسي والعسكري، والمحلية، على الصعيد الإجتماعي.
سوريا أولاً
في المقابلة الأخيرة التي إمتدت قرابة الساعة ونصف الساعة، تطرق الرئيس الأسد إلى كل التفاصيل المتعلقة بالوضع السوري، مركزاً فيها على أبرز النقاط الحيوية التي تمس الوضعين الإستراتيجي والداخلي للشعب والدولة. فكل التطورات التي تحدث في سوريا تمس بشكل مباشر كافة الشرائح التي تتشارك هذا المجتمع، فالألم واحد والفرح واحد، وهذا أمر إعتاد السوريون على عيشه معاً.
من هنا، جاء كلام الرئيس الأسد ليؤكد صدق هذه المعادلة من خلال عدم خلط الملفات أو التحدث بطريقة تدين أحداً؛ على العكس، لقد وضع سوريا نصب أعينه من خلال تركيزه على كل قضاياها والتي تتسم، إجمالاً، بأنها قضايا محقة يطالب بها أي شعب يعاني، فكيف وإن كانت سوريا لا تشبه بمعاناتها أي بلد آخر في العالم.
من هنا، أتت زيارة الرئيس السوري إلى الخطوط الأمامية للمواجهة، في منطقة الهبيط في ريف إدلب لتفقد الوحدات العسكرية للجيش المنتشرة هناك، خير دليل على أن الهم الوطني هو في المرتبة العليا ضمن سلَّم أولويات القيادة السورية؛ فكل المناطق سواسية، وكلها يستحق الأفضل. لقد أعطت هذه الزيارة دفعاَ معنوياً خاصة في وجه البعض الذي كان يعتقد أن هناك شعباً سورياً منسياً أو محروماً، فكانت خير دليل على دفع ونفي تلك المزاعم من خلال تأكيدها على وجود رابط قوي يجمع كل أبناء الوطن وأن ما يحدث في الشمال السوري لن يكون على حساب تحرير إدلب ومحيطها.
الإستراتيجية الوطنية
أعدت تركيا إعلامياً كل ما هو متاح لإنجاح عملها العسكري على شمال شرق سوريا المسمى “نبع السلام”، من أجل إقامة المنطقة الآمنة بعمق 30 -40 كلم، الأمر الذي قُبول برفض دولي غير مسبوق، خلافا لتوقعات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي بدوره هدد دول الإتحاد الأوروبي بفتح بابه الغربي أمام اللاجئين، إن لم تتحقق غايته، خاصة لجهة الموافقة على توطين النازحين في محاولة منه لتغيير ديموغرافيا المنطقة.
في المقابل، شدد الرئيس السوري على أهمية إستعادة الأرض بشتى الوسائل وإن تطلب ذلك مواجهة عسكرية؛ فسوريا جاهزة لتحرير أراضيها كافة، على الرغم من تعنت الكرد في مراحل سابقة كحالة عفرين عندما رفضوا تسليمها للجيش السوري وإحتلتها القوات التركية في عملية “غصن الزيتون”، وهو ما نراه بوضوح في مناطق الشرق وخلافاً لتوقعات حكومة الرئيس أردوغان.
فعلى الرغم من الإتفاق الروسي – التركي الأخير، إلا أن روسيا إستطاعت سحب البساط لصالح الدولة السورية من خلال التفاهم مع القيادات الكردية لتسليم عدد من المدن والبلدات وإنسحابها لمسافة 40 كلم من على الحدود المشتركة مع أنقرة، ليأتي ذلك سحباً للذريعة التركية المرافقة لعدوانها على تلك المنطقة.
ضمن السياق نفسه، إعتبر الرئيس الأسد أن عودة المناطق إلى سيطرة الدولة، وتحديداً الجيش، هي مسألة طبيعية سيرافقها عودة المؤسسات الحكومية إلى أعمالها السابقة وتسيير شؤون المواطنين. فإذا لم يكن ذلك هو الغاية، فإن هذا الدخول سيبقى منقوصاً. بالتالي، على القوات التركية الإنسحاب من سوريا، سلماً أو حرباً، إنطلاقاً من المواثيق والتعهدات الدولية، فسيناريو لواء إسكندرون لن يتكرر في شرق البلاد، وعلى هذا الوضع الهجين أن ينتهي.
سياسياً، حسم الرئيس الأسد موضوع اللجنة الدستورية، ببعدها التنظيمي والوظيفي ونتائجها التي ستنتهي بها، إنطلاقاً من مصلحة سوريا لأن هذا الخيار هو خيار الشعب وليس خيار الغرب أو حتى المعارضة المسيسة. وبذلك، يكون قد قطع الطريق أمام كل المحاولات التي تريد التحكم بالقرار السوري أسوة ببعض الدول التي لا تملك قرارها السياسي.
محاربة الفساد
لا يخفى على أحد أن الحرب السورية أفرزت أوضاعاً هجينة، وزادت من حدة الفساد الذي كان موجوداً وإستفحل نتيجة الظروف التي تعاني منها البلاد، إضافة إلى ما خلفه الحصار الإقتصادي من غلاء معيشة وفقدان بعض أساسيات الحياة، الأمر الذي يتطلب إيجاد آلية حل سريعة لأن الشعب دفع ثمناً باهظاً من دون أن يكون سبباً في هذه الأزمة. إن من الطبيعي حدوث ذلك خلال فترات الحروب لا سيما أنه سيكون عاملاً ضاغطاً على الحكومات ما قد يتسبب في تأليب الشعب ضد حكامه، وهو ما كانت الدولة السورية على دراية كاملة به. إلا ان الوضع كان يتطلب حسماً للملف الأقوى ألا وهو مكافحة الإرهاب.
أما وبعد إستعادة الكثير من المناطق، بات لزاماً على الحكومة إيجاد حلول لملفات مكافحة الفساد وسوء المعيشة حتى البطالة وكل المشكلات الداخلية، التي تناولها الرئيس الأسد بكل شفافية ووضوح، حيث أكد بأن كل فاسد سيخضع للمحاسبة.
لقد بدأت سوريا بعلاج هذا الملف بدءاً من المؤسسة العسكرية ذاتها، وزج البعض في السجون، ومصادرة بعض الأملاك المنقولة وغير المنقولة لـ “حديثي النعمة”، وهو ما يؤكد على أن البلاد تسير على الطريق الصحيح خصوصاً وأن صعوبة الوضع الاقتصادي يجعل من عملية التطهير أولوية سورية وفي المقدمة، بالتوازي مع مكافحة الإرهاب العابر للقارات.
أخيراً، جاءت مقابلة الرئيس الأسد هامة بالتوقيت والمواضيع لا سيما لجهة توصيل الرسائل للخصوم، وإبلاغ الحلفاء بإستراتيجية سوريا الحالية، من دون إستثناء أحد، مبينا المواقف الرسمية العامة والحيوية، لعل أبرزها إفهام الغرب أن سوريا لن تقبل بأن يتحكم في قرارها أحد لا في السياسة ولا في المعارك.
في كلمة حق، إن التماسك السوري الذي ظهر خلال الأزمة، الممتد من العام 2011، كان نتيجة بناء إستراتيجية حقيقية للدولة أسس لها الرئيس الراحل حافظ الأسد، والتي إستطاعت الوقوف بوجه أعتى الظروف. إن المستقبل القادم يبشر بالخير، خاصة وأن المرحلة المقبلة ستكون مخصصة للبناء وإعادة الإعمار بعد التخلص من الإرهاب وتحرير الأراضي السورية بشكل كامل.
*المدير التنفيذي في مركز سيتا.
مصدر الصور: البيان – العربية.
موضوع ذو صلة: أبعاد زيارة الرئيس بشار الأسد إلى سوتشي