د. رائد المصري*
بهدوء.. الجنرال قاسم سليماني كان مسؤولًا كبيراً في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وإستهدافه بصفته الديبلوماسية بشكل علني وتبني الولايات المتحدة المسؤولية جهاراً يعني تصعيداً حاداً في الصراع بين واشنطن وطهران. وها هو الرد الإيراني قد جاء مباشراً ومعلناً في دك القواعد العسكرية الأميركية في العراق، أربيل والأنبار.
لقد تحولت الإغتيالات عند الأميركي إلى منهج عملي للعقيدة الأميركية – الصهيونية بعد قيام الكيان على أرض فلسطين، بل قبل ذلك، وسياساته صارت متطابقة نَسْخاً مع السياسات الصهيونية في الكثير من ملفات الشرق الأوسط؛ ورغم كل تفاهات بعض المنظرين والنخبويين المتلحفين بعباءات الدين والمذهب والطائفة ويسارياتهم المشوهة المرابطين عند كل مفترق للشماتة، فالشهيدين الجنرال سليماني وأبو مهدي المهندس هما من أوقفا ماكينة تقسيم الشرق الأوسط التي أرادها المستعمر الأميركي لبلادنا، وأراد معها إعادة رسم حدودها بالريشة التكفيرية – الإرهابية.
إنها مرحلة تثبيت التشكُّل الجديد في الإقليم وفي الدور المرسوم للقوى التي واجهت الغرب وحصاره، وإسرائيل وغطرستها وإعتداءاتها، والإرهاب التكفيري ودمويته ومحاولته السطو على خيرات وثروات شعوب المنطقة العربية والشرق أوسطية.. فهل من أحد يقول خلاف ذلك؟
من يعرف ويتعمق في شخصية الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لا يستغرب قيامه بمثل هذه المغامرة “الوقحة” وغير المحسوبة والمخالفة لقواعد القانون الدولي والديبلوماسي، والتي أجزم بأنها ستكون كفيلة بإخراج القوات الأميركية من سوريا والعراق والأردن وأغلب منطقة الشرق الأوسط، رغم التهويل والتحشيد العسكري لقوات المارينز وتدعيم القواعد العسكرية بإرسال دفعات جديدة لتعزيزها. فلقد تغيرت المعادلة، وإيران وحلفاؤها يبدو أنهم إتعظوا وأخذوا الدروس والعبر مما جرى ويجري في لبنان والعراق من حراك شعبي كبير وسريع ومجهول الرؤية والأهداف بالنسبة لهم، بسبب النقمة على الإقتصاد وسياسة الفساد والنهب المنظّم لثروات الدولة، والتي عزز منطقها ونشر أدواتها الأميركي، ومدرسته في البنك الدولي، فجعلها “ثقافة عامة” تستنزف أموال الشعوب وبنية الدولة وتعميم الإحتكار، ومعه الفساد وعمليات النهب المخيفة للأموال العامة.
لن تقبل إيران ومعها، محور المقاومة، بعد اليوم ولا يجب أن تقبل بتلقي الصدمات والإكتفاء برد الضربات وإبقاء الحصار على شعوب المنطقة؛ وبالتالي، تضييق الخناق والتسبب بالمعاناة والإفقار الإقتصادي بسبب سياسات البنك الدولي وأدواته وسماسرته. وفي المقابل، وضع المقاومة وإيران ومحورها بوجه الشعوب المنتفضة والجائعة وتصويرها على أنها حامية لأنظمة الحكم والفساد والسرقات والنهب التي دعمها وساندها النظام النيو – ليبيرالي المعولم، وسياسة أميركا في تعميم الإحتكارات وسطوة البنوك على أموال الناس والأموال العامة. إنها معادلات رسم الحدود في الإشتباك، وإستعراض القوة، وتقاسم النفوذ حيث بدأ محور المقاومة إندفاعته التي طالما إنتظرتها الشعوب المقهورة والمظلومة.
ما يفيدنا هو الإشارة، حتى لو كان هناك تزامن في عملية إغتيال الجنرال سليماني ورفيقه المهندس مع المحاكمة القريبة للرئيس ترامب في إطار إجراءات عزله، فهو يثير أسئلة مقلقة حول الدوافع الحقيقية، سواء ما يتعلّق منها بتعزيز حظوظه الإنتخابية مع المتعصبين من الإنجيليين المسيحيين أو مع اللوبي الصهيوني في أميركا وغيرها من إجراءات الداخلية، لكن الأهم هو أن فشل العقوبات القاسية في الضغط على إيران ومحور المقاومة لإنتزاع تنازلات جيو – سياسية عزز المخاوف الإسرائيلية في الدور المستقبلي وفي إمكانية الوجود، حيث أن تحولات كبيرة في قوة هذا المحور أدت إلى إنقلاب في دور الكيان الصهيوني في المنطقة بصورة كلية. فبعد أن كانت إسرائيل تشكل القاعدة العسكرية الغربية الإستعمارية من أجل الدفاع عن المصالح الإستراتيجية في الشرق الأوسط، بات على الدول الغربية ومعها أميركا واجب حماية إسرائيل حتى ولو أدى ذلك إلى المغامرة بالحرب، وهو ما غامر به الرئيس ترامب بإشرافه المباشر على عملية الإغتيال في العراق، فكان الرد الإيراني كبيراً قابله خوف أميركي من مدى الرد حتى لا تتوسع دائرة الإستهدافات وتطال الكيان الصهيوني الغاصب؛ فعجزت وخسرت أميركا المواجهة.
من هنا، نقول قولاً واحداً: لو لم يكن الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما أيام إكتساح المنظمات الإرهابية، كـ “داعش” و”جبهة النصرة” في سوريا والعراق ولبنان، ومنعا هذا التمدد “السرطاني”، بالتعاون مع كافة فصائل المقاومة في لبنان والجيش السوري، لكانت هذه العصابات الإجرامية تحكُم الآن في بغداد ودمشق ومكة والقاهرة من دون أن تفرق بين سني وشيعي وعلوي ومسيحي، وبين كردي وعربي وتركي وفارسي. إن هذه الأيديولوجيا العنصرية للغرب الأميركي والصهيوني هي من تسبب في الصراعات والخلافات بين أبناء الشعب الواحد، وطبعت أسلوب وحياة النسيج الوطني والإجتماعي بتطبع الخيانات والمؤامرات، حيث أنه لولا هذه الأنظمة الذليلة في منطقتنا العربية لما تجرأ الرئيس ترامب، ومن قبله القادة الصهاينة، على النيل من شرفاء هذه الأمة ومن شهدائها، وسيبقى هذا الإستهداف قائماً طالما الوجود الإستعماري الأميركي والصهيوني لا زال محل جدل ونقاش وقبول وأخذ ورد، فلا بد من رادع ومن ردع سريع. فما بين الجرأة الايرانية بالإنتقام ومنع المساس بأمنها وقياداتها وسيادتها على أراضيها، والأراضي العربية التي تشكل مرتعاً وقواعداً للمستعمرين الاميركيين والأوروبيين والصهاينة وبؤر للتآمر على أبناء جلدتهم فرق كبير.
*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
مصدر الصور: سكاي نيوز.
موضوع ذا صلة: مبررات البقاء وسيناريوهات الخروج