مجد إبراهيم كاسوحة*

لفهم معنى الأمن الإستراتيجي والقومي لبلد ما، يجب فهم طريقة تكوين ذاك البلد وتحليل مكوناته وتصنيفها إلى طبقات متعددة، السياسية والإقتصادية والثقافية والبنيوية وأهمها الدينية، خصوصاً بما يتعلق بالعالمين العربي، عموماً، والإسلامي، خصوصاً، لما له من خصوصية على وجه التحديد.

حتى نعرف ما يحدث في الصين ولماذا الصين بالذات، لأن تلك الأمة تشكل “المارد” الإقتصادي الأسرع نمواً في العالم وأكثر البلدان إثارة للجدل بالنسبة للدول الغربية، عموماً، وبريطانيا والولايات المتحدة خصوصاً، من حيث آليات السطوة والسيطرة التي يتبعها الحزب الشيوعي الصيني ضمن معظم أرجاء الدولة والمدن الكبرى من أنظمة مراقبة، تعتمد على بصمة العين التي تلاحق كافة القاطنين والزائرين لها في كل مكان.

هذا النظام لا يمكن اختراقه أمنياً، أما اقتصادياً فالأمر ليس بحاجة للشرح حيث بات معظم أبناء الصين يحيون حياة ترف وبزخ تتفوق في المستوى على الترف الموجود في الدول الإسكندنافية. تلك الأمور، جعلت من المستحيل اختراقها بشكل جوهري يؤدي إلى تغيير جذري يُبى عليه هيكل جديد من قبل الدول الغربية.

ما حدث في الصين، من ظهور فيروس “كورونا” الذي سيتبعه ظهوره أنواع متعددة من الأوبئة في وقت لاحق، هو جزء من حرب إقتصادية متنامية، يصلح تسميتها بـ “الحرب الباردة الجديدة”، بشكل فتاك؛ لكن تجاه الشرق نحو الشعب الأصفر العظيم، هذا الشعب الذي يشكل بتعداده وقوته الإقتصادية وترابط وسطه الداخلي عقده متناهية التعقيد للمعسكر الغربي، الذي لا يمكن اختراقه إلا بنوع قديم – جديد في آن واحد من الحروب ألا وهي الحرب البيولوجية.

ولنلاحظ ما المقصود من هذا الكلام، نرى الأمر التالي بشكل موسع على سبيل المثال لا الحصر. إن الإعلام العالمي العابر للحدود هو إعلام متحرر متمحور حول جعل أمر تجاوز المكان ممكناً، وهو المحور الأساسي والحامل الرئيسي للجنون العربي، الذي سُميّ بـ “الربيع العربي”، لنرى أن معظم الدراسات سلطت الضوء بشكل جوهري على نمط السيطرة الفكرية والإقتصادية القائم على تعمية الحقائق، ونشر قصص تصلح لأن تكون أساطيراً عبر ذلك الإعلام، الذي أظهرت بياناته إلى إنكشاف ووهن العرب إذا سعينا إلى كشف العلاقة القائمة ما بين الإعلام والهويات الوطنية للدول.

لذلك، نرى أن الصحف والمجلات والأفلام والراديو والتلفزيون، وغيرها من الوسائل التي أُتيحت، كانت جميعها مسؤولة عن جلب وجذب وجمع الكثير من الجماهير المتعددة والمتفرقة والمتباعدة، بحكم المكان والجغرافيا واللغة والعرق والثقافة والدين، وذلك عن طريق إرسال ثقافة عامة لكل شرائح المجتمع وفئاته ضمن حدود الدول والأوطان. هذا الإعلام تخطى الفروقات والإختلافات ولم يزيلها، مما جعل منه حاكماً متحكماً بإظهار وإخفاء تلك الإختلافات حيث باتو الغرب يملك سلاحاً فعالاً يعتمد على الفروقات الفكرية التي تجعل الثقافات بعيدة عن بعضها الآخر أثناء استخدامها والمساس بها.

إن تعايش الثقافات المختلفة، تكون دائماً بطريقة غير سهلة، تحت النظام السياسي ضمن الدولة يجب أن يكون للإعلام دور أساسي فيه ليخيط ثقافة وطنية مهيمنة على الأجزاء الثقافية المتفرقة للوطن، ويصيغ هوية ثقافية جامعة، أو هكذا يتوقع منه، للحفاظ على سيادة الدولة واستقرارها وأمنها. لذلك، إن عملية تشكيل الأوطان والإيمان بها، هي جزء من الإجراءات العامة المتعلقة بالتجمع الثقافي والجماهيري الخاصة به، وهذا ما يجعل منه عنواناً لتجميع الجماهير ضمن الدولة التي تشكل هيكل الوطن حول ثقافة موحّدة، وهذا ما يؤديه الإعلام والتوجيه البشري ضمن النهج المجتمعي.

فإذا نظرنا من هذه البوابة، نعلم ما الذي يجري في إدلب السورية اليوم من نزاع حضاري وجودي بين كل من الفكر القومي العربي، الممتد من حزب البعث العربي الاشتراكي، والحزب الإخواني، الإخوان المسلمين. إن ما يحاول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فعله فيها بعد إرسال تعزيزات عسكرية إلى المنطقة وما الذي يسعى للقيام به، نلاحظ هذا التعنت ومحاولة السيطرة على منطقة خارج حدود بلاده، تحت مناجات اسم “الإنسانية” ومكافحة التهجير، ليس في الواقع إلا محاولة لإسقاط التجربة الروسية في شبه جزيرة القرم، ولكنها هنا تحظى بمباركة أمريكية؛ بالتالي، وجب القتال حتى آخر رمق. وفي حال حدوث هذا الأمر، يبدو أنه من الواجب توجيه ضربة قاصمة لتركيا، داخلياً وخارجياً، والعمل على تحرير لواء إسكندرون بقوة السلاح دون الأخذ بعين الإعتبار أية اتفاقيات أو مواثيق قد تمت سابقاً لأنه، وفي هذه الحال، يكون الأمر فعلاً جوابياً على عدم احترام الجمهورية التركية لمواثيقها واتفاقياتها المتعلقة بالشأن السوري.

ولكي نعلم ما الذي أوصل البلاد العربية، عموماً، وسوريا، خصوصاً، وأجزاء أُخرى من الصين والعالم إلى هذه المرحلة، يجب علينا ملاحظة متغيرات المعسكر الغربي وأدواته. ففي سوريا، نتساءل عن فترة التنمية أو الإنماء الإقتصادي، وما الذي أدى إلى هذا الحال الذي هي عليه اليوم. كانت لدينا، كسوريين، مدة إنماء وتطور اقتصادية بمستويات معقولة جداً، لكن ما لم نبرع به، خلال هذه الفترة الماضية، هو الإعلام العالمي المفتوح على الوسط السوري والذي لم نعره إهتماماً كافياً. هذا الاعلام، أدى إلى إيجاد جمهور من المستمعين والقراء والمشاهدين، ليس فقط جماهيرياً بل أيضاً وطنياً من خلال استخدام القضايا الجوهرية في التوجيه الفكري، والمثال على ذلك قناة الجزيرة التي كانت بثت رونقاً عربياً يظهر أصيلاً ينادى به لتحرير فلسطين وأغاني دائمة للقدس عاصمة فلسطين الأزلية. هذا الأمر تم في حين كانت الدول العربية ودول العالم الثالث تسعى وتجهد في تطبيق النظرية المختلطة لإيجاد نوع من التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع ما دفع معظم الدول والحكومات إلى تبني النظامين الرأسمالي والإشتراكي. لكن التوازن بين الرأسمالية والإشتراكية لم يمضِ على وتيرة واحدة في العالم العربي، بل أصبحت تجارب هذا العالم تحتوي على خليط من النظم السياسية والإعلامية والإجتماعية المتضاربة في أكثر الأحيان والناجحة في أحيان ضئيلة جداً.

نتيجة لذلك، انعكست المسألة على طبيعة الولاء للهوية الوطنية في كل قطر عربي، ورسمت صورة عن ماهية الهوية العربية، وإجراءات تشكيلها وإعادة تشكُّلها ما أظهر شكوكاً مشابهة يمكن طرحها حول ما إذا كان الإعلام المتخطي للحدود القومية، وما يتبعه من محتويات وتكنولوجيا وصناعات إعلامية، سيؤدي إلى خلق ثقافات متخطية للحدود الوطنية، وثقافات ما بعد الوطنية.

بالنظر إلى الواقع الحالي، نرى بأن هناك الكثير من المواقف التي استنتجت أن عولمة الإعلام تعيد رسم الحدود الثقافية المحددة وطنياً، وتضعف من الخرائط الثقافية والخطط المرسومة وطنياً ومحلياً، أو حتى تجعلها عديمة الفائدة أحياناً. إن العولمة، كما هو معروف عنها، هي ضغط للزمان، وتحطيم للمكان، وتقليص للمسافات تتخطى عبر الحدود القومية، تظهر على أنها الصفة الرئيسية للعالم الراهن. بطريقة ما، فإن عولمة الإعلام الإلكتروني أدت إلى تمدد أساسي للإجراءات الأولى القائمة على احتواء المسافات والأمكنة الجغرافية، لتطويعها وجعل أمر التحكم فيها ممكناً وسهلاً.

هذه الإجراءات تقوم على الأُسس نفسها، وتصل إلى النتائج نفسها، وهو تقديم أكبر قدر ممكن من الجماعات الثقافية العالمية على حساب تلك المحلية. إن تكنولوجيا الإعلام الحديثة قادرة على أن تفصل المكان عن الهوية، وتقفز فوق الحدود الثقافية والسياسية وتزيد من ضعف الشعور بالإنتماء المرتبط بالوطن، وتعمل على تقويضه وتنسج هويات غير متعلقة بالحيز المكاني، وتقلل من شعور الإنتماء إليه. لنلاحظ ذلك، يجب أن ندقق على التحولات التكنولوجية التي قد غيرت حدود المكان وما يتعلق به من قضايا اجتماعية وظواهر ونظم بشكلٍ جذري.

لقد أثارت النقطة هذه التيار المتشدد، حيث إن الجماعات المنفصلة عن بعضها الآخر بواسطة المكان تميل إلى إنشاء تجمعات وجماعات تسعى إلى تطوير روابط اجتماعية تجمع فيما بينها أبعد من المحلي والوطني، وذلك إذا تواصلت فيما بينها تكنولوجياً، واستهلكت وتعرضت للرسائل الإعلامية نفسها. إن ضغط عاملي الزمان والمكان يؤدي إلى إنشاء وعي جديد، وحينها تنفصل الحدود عن الهوية فلا يعودان متحالفين، وهذا ما حدث ويحدث في عالمنا العربي وفي العديد من البلدان والدول الأُخرى.

أما بالنسبة لتيار ما بعد الحداثة، فإن الأمر المحير بالنسبة للمسألة الوطنية، وإستحالة حصرها وشبكها ضمن نطاق الحدود الجغرافية، يتجذر من حقيقة أن الإعلام قد قلل من شأن عنصر المكان كوعاء ومحتوى للهويات الوطنية. إن إستمرار هويات الشتات غير المحصورة بالحدود الوطنية قدم الدليل الواضح والملموس على أنه في نطاق العولمة، يتجاوز الإعلام العالمي تعريف الهويات، ونظم الحياة التي تتجاوز حدود الدولة والهويات الوطنية.

إن الهويات المشكلة بعناية والمصوغة حسب قوالب الدولة والمدمجة بعناية كانت موجودة في الماضي، وكانت حالات تاريخية غير سوية، وهي نتاج ورمز من رموز ونتاجات الحداثة، وهذه الهويات في طريقها إلى الزوال نتيجة التحولات الثقافية والإعلامية. فرحيل الحداثة وحلول التجزئة الثقافية، يجعل من المستحيل تحقيق الآمال بإقامة ثقافات وطنية موحدة، فالتناغم الثقافي تقمص الواقعية المتكاملة للحداثة وهذا المشروع بات تحقيقه مستحيلاً نتيجة التدفق المتعدد والمتواصل للمعلومات، والتي تمر عبر الحدود الوطنية والصعوبات الحاصلة لجعل الحدود الثقافية مغلقة بإحكام كما الحال في معظم ارجاء الصين.

بالتالي، إن سيناريو نهاية العصر من عمليات التشتيت وديناميكيات الإبعاد عن المركز تشير إلى أزمة ثقافة الحداثة وتعبر عن نهايتها، والتي كانت الوطنية إحدى نماذجها ونتاجاتها. فالمفهوم المحدث للجماعات والتجمعات الوطنية يُفهم ككل ثقافي متكامل، والذي يستمر ويبقى على مر الزمن ويتحدى الخصائص المتغيرة دوماً، والسريعة الزوال للثقافات الوطنية.

بالمقارنة مع الإمبريالية الثقافية، إن الإستنتاج هيكمن في أنه لا يوجد هناك توحُّد ثقافي حاصل من الوجود العالمي للإعلام الغربي مهما كان نوعه، أو أي نوع من التشابه الثقافي. أما تيار ما بعد الحداثة، فإنه يقيم بشكل إيجابي وتفاؤلي للشكل التعددي والمتجزئ للهويات، وبعيداً عن الإختلافات النظرية ما بين ما بعد الحداثة وجدالات الإمبريالية الثقافية؛ فإنهما معاً يضعان في المقدمة الدور الأساسي لتكنولوجيا الإعلام في صنع الحدود الثقافية، وهما بهذا يغلقان على الجدالات القائمة حول تكنولوجيا الإعلام وأثرها في التنمية الثقافية.

عن طريق دمج سهولة الوصول إلى المعلومات وإتاحة الإعلام واستمرارية التعرض له مع الهوية وآثار ذلك فيها وفي تشكلها، نصل إلى استنتاج قوي حول الآثار الثقافية الحاصلة من التكنولوجيا وهي أن التوزيع الوطني والعالمي لتكنولوجيا الإعلام وتوسُّعه وازدياد استهلاكه له نتائج مؤثرة في تشكّل الهوية للثقافات الوطنية والعالمية. فتقدم تكنولوجيا الإعلام يسهّل نشوء وقيام وعي جديد، أي التعرف على روابط عامة تبلورت في هويات وطنية ومتخطية للحدود الوطنية. هذا الإعلام التفاعلي يقدّم وعياً حول الأماكن البعيدة والعوالم الشاسعة، ومن ثم يؤدي إلى ولادة وعي ومعرفة ثقافية جديدة.

لكن المشكلة الأساسية للإتجاهات القائمة على التكنولوجيا والمتعلقة بصنع الحدود الثقافية هي معادلة الإتاحة الإعلامية، والتعرض للإعلام، مع الأخذ بعين الإعتبار المشاعر المشتركة للتجمعات الثقافية، ذلك أن الوعي بالأحداث الحاصلة في الأماكن البعيدة، والتي تضم ثقافات مختلفة، يصبح سهلاً بواسطة التعرض للإعلام، وهذا لا يعني بالضرورة إقامة تجمع ومساهمة في تكوينه ذلك أنه لا تتم ترجمة هذا الوعي فوراً إلى روابط للوحدة داخل التجمع، أو لصنع الهوية الوطنية أوالهوية المتخطية للحدود الوطنية.

*باحث سوري

مصدر الصور: موقع تعليم جديد – سكاي نيوز عربية.

موضوع ذا صلةالنظام الدولي الحالي: من العولمة إلى التعددية*