د. رائد المصري*
يعتقد البعض في لبنان ممَّن لا تزال تحكمه عقلية المزرعة وينتابه القلق من بقاء جموع المتظاهرين في الساحات عند كلِّ حدث وفعل سلطوي بأنَّ الأزمة قد انتهت والثورة قد خَبَت والناس قد ضجِرت أو ملَّت، وما بقي يتكفَّل بهم زعران الأحزاب الحاكمة وميليشيا الطوائف بضربهم وتشتيت شملهم حتى لو كانت مطالبهم محقَّة ومشروعهم يقف في وجه المستعمر الأميركي والصهيوني، وهنا تكمُن الإشكالية الحاصلة التي لم يقرأها بعض الأحزاب وهذا الكم الكبير من التحوُّل في المزاج اللبناني العام وفي تسعير الخطاب المذهبي والفئوي الذي يكاد أن يودي بالناس للقبول بخيارات قد تكون خطرة ترتسم فيها حدود الطوائف كما ترتسم اليوم بلوكات الأعمدة والجدران الإسمنتية حول المباني الحكومية والمؤسسات التي يفترض أنَّها تنقل الصراع الى داخلها بديموقراطية وسلمية وضمن أطر المؤسسات.
فلا يمكن ميليشيا الأحزاب الحاكمة أن تتبجَّح وتنظِّر على الثوار السلميين المطالبين بالتغيير وحفظ الكرامة العمل وفق الإطار القانوني والدستوري والديموقراطي لأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يمكن القوى والميليشيا التي تعتدي على الناس الجائعة والفقيرة والمعدمة والتي تمَّ السَّطو على أموالها في البنوك أن ترسم معالم وخريطة الطريق المطلبية للشعب إنفاذاً لرغبة الزعيم وأمراء الحرب.
إنَّها العدمية في إنتاج حالة سياسية في لبنان والعدمية في حكم الإقطاع السياسي المتزاوج مع حرية إقتصادية ومالية مفرطة وهو الذي أنتج هذا الكمَّ الاحتكاري في أسلوب الحكم المقنَّع بغلاف الطائفية والمذهبية والمال والمصرف.
تكسَّرت قلوب الناهبين والسارقين للأموال العامة طوال عقود على بعض الأعمدة والإشارات وبلاط الأرصفة جراء عُنف المتظاهرين ولم يخجلوا ويخافوا ويحرصوا على أموال الناس وإذلالهم أمام البنوك وسرقة تعبهم وجنى عمرهم ولم يسألوا عن سرقة الـ 400 مليار دولار من أموال الدولة بل هالتهم بعض أعمال العنف الثورية.
أمراء الحرب في لبنان وزعماء الميلشيات الحاكمون والقابعون على إمبراطوريات مالية وعقارية لم ينبئوهم حدسهم الميكيافيلي في إدارة الحكم بأن إنتفاضة الشعب هذه صارت حالة سياسية بحجم الوطن وشروط التفاوض معها صعب واقتسام النفوذ والمغانم مستحيلاً كما جرت عادتهم، ولذلك هم يتهيَّبون المشهد أولاً ويمرِّرون الوقت قدر استطاعتهم ثانياً علَّهم يهربون ويهرِّبون أموالهم خارجاً وهو ما جرى بالأمس القريب حيث بدأ السيف الأوروبي يُصلت على رقاب المسؤولين الذين هرَّبوا هذه الكميات المالية النقدية الى بنوك سويسرا.
كل السلطة وأزلامها اعترفت بأنَّ هناك سرقات للمال العام واعترفت بأحقيِّة الثورة ومطالبها والإصلاحات المالية والإقتصادية وضرورتها، وكل السلطة ومافياتها تدرك بأنَّ يوم الحساب الشعبي آتٍ لا محال لكن حتى الآن لا يوجد فاسد واحد يقبع خلف قضبان السجن ولو للزينة.
يريدون من الرئيس سعد الحريري الاستقالة وتقييد الصناديق الخدماتية الفاسدة التابعة له (وهذا مطلوب ومهم) ويريدون منه محاسبة ورفع الغطاء عن وزرائه والمحسوبين عليه وسوقهم الى العدالة ويريدون منعه من إستغلال الطائفة السنية وتجييرها نحوه ومنع إقفال الطرقات والإحتجاج ويريدون من الحريري البقاء في رئاسة الحكومة لكن بشروطهم والاستفادة من سمعته الدولية والعربية وجلب المساعدات والتسوّل على اسمه وتقاسم المال والمساعدات والهبات والقروض وعند الإنتهاء البدء بعرقلة مشاريعه (التي لا نوافق أصلاً عليها) ووضع العصي في دواليب العمل الحكومي وبالنهاية إسقاطه بعد حَلْبِ ما في جعبته داخلياً وخارجياً… وهذا ما حصل أصلاً طوال كلِّ السنوات الماضية.
وفي المقابل، يمتنع بعض القوى الميليشياوية في السلطة وتمنع الاقتراب من حصصها ووزاراتها وصناديقها وكل ما يخصها تعليقاً على خط المقاومة التي تعتبره رابحاً لها طوال سنين مضت، فيتم الاعتداء على الناس المعترضة على الفساد والسرقة وتسريح الزعران في الطرقات ومئات الآلاف منهم المحشورين في الوزارات والمؤسسات العامة كقوة ضاربة من دون دوام وعمل عند الحاجة المذهبية خدمة للزعيم والطائفة… ويريدون من الناس السكوت عن بلطجاتهم وتعدِّياتهم وسرقة أموالهم واستباحة كراماتهم في كل يوم. فكيف يمكن السكوت على عمليات الموت البطيء هذه؟
لذلك لا تستطيع أنت كميليشيوي أن تتحدث عن مقاربات دستورية وإنتظام عمل المؤسسات في البرلمان والحكومة وبضرورة تعزيز الديموقراطية، فأنت سارق وفاسد وحاقد وتعتدي على الناس الآمنة وبحماية من زعيمك الطائفي والمذهبي، فلا يمكنكم أن تكونوا دستوريين وديموقراطيين وتعملون حراساً عند أبواب الزعماء وأولياء نعمتكم. ما زالت المكابرة تحكم أركان السلطة وعملها المتوتر بدليل اليوم أقلُّه على رئيس الحكومة الجديد حسان دياب الطَّلب لاسترداد الموازنة لإعادة درسها.
كيف موازنة تتطلب تشريعها في البرلمان لحكومة سقطت وصارت من الماضي أمام حكومة جديدة لم تعمل فيها وعليها مطلقاً ولم تنلْ بعد ثقة البرلمان؟ على من تقع المسؤولية بإقرار الموازنة وإذا كانت مجحفة بحقِّ الناس؟ هل وصل عقم أحزاب السلطة لهذا الحد من الاستهتار؟
*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.
المصدر: جريدة النهار.
مصدر الصور: أرشيف سيتا.
موضوع ذو صلة: تشكيل الحكومة في لبنان: أزمات بنيوية