الشيخ كامل العريضي*

لا أعلم لماذا يحاول البعض الفصل بين الدين والعلم، سواء من المؤمنين أم العلمانيين، بطريقة تجعلهما خطين متوازيين لا يلتقيان، أو كأنهما طرفا نقيض كالليل والنهار. حتى يبدو لي الالتزام الديني كنقيصة في قاموس العلماني، والتوجه العلمي يمثل “مذمة” في مفردات المؤمن.

إنها جدلية قائمة منذ القدم، ولن تنتهي بل تتجدد عبر العصور وتأخذ اشكالاً وأنواعاً مختلفة من المواجهة. وبالنسبة إليَّ، إنها “حرب فاشلة”، وأضرارها جسيمة على المجتمع. وكيف يكون لأي متعصب أعمى أفق في خدمة الإنسانية ولو تزيّا بثوب الدين أو العلم؟ فالتعصب يُعمي العقول والنفوس ويهدم المجتمعات ويشتت طاقة الأمة لاسيما شبابها.

المتعصب بإسم الدين، يفرح لتفجير نفسه أو قتله جماعة كافرة، برأيه، ويظن أنه بفعلته هذه سيدخل الجنة وينال رضى الله، وهو يرضي إلهه الذي خلقه هو لنفسه، أو يرضي هوى من أرسله وعبّأه ومخططاته. والمتعصب بإسم العلم، لا مشكلة لديه في فناء نصف البشرية حيث موارد الأرض لا تكفي لهذا العدد من الناس، أو في أن يرسل جنوده وطائراته ودباباته لإحتلال أرض آمنة وسرقة خيراتها وإبادة شعبها لإشباع غريزة الظلم لديه وتجبره وطغيانه.

ومن نافلة القول إن هذه المواجهات تحتدم عند كل استحقاق، فيدلو كل فريق بدلوه لتبيان عجز الآخر. المؤمن يشرع بتسفيه الاختراعات وضعف العلماء عن إيجاد الحل الناجع لهذه المشكلة، كما يحصل الآن في وباء “كوفيد – 19” مثلاً، والضياع العالمي الحاصل؛ إذ إنّ جرثومة غير مرئية أرعبتهم وشلت الكون. والعلماني انبرى إلى مساءلة المومنين عن نفع صلاتهم ودعائهم وعباداتهم في معالجة تلك المشكلة؟ وأين العدل الإلهي فيها؟ لا بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك، إلى حد القول “اذا كان إلهكم أيها المؤمنون موجوداً، فلماذا لا يتدخل ويمنع ما هو قائم؟ وليتفضل المؤمن بإيجاد علاج، كلقاح “كوفيد- 19″، على سبيل المثال لا الحصر.

وفي خضم تلك المعارك، يلجأ المتخاصمون إلى استعمال أسلحتهم كافة، ولعل أشدها قوة وتأثيراً الاستشهاد بآيات من الكتاب الديني المقدس لكل جماعة مؤمنة. فهناك آية قرآنية مباركة في سورة لقمان تقول ” هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين”، وهذا الكلام قاله رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم في دعوة كفار قريش إلى عبادة الله الأحد الذين كانوا عابدي الأصنام والأوثان، فقال لهم إن الله سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما والإنسان والحيوان والنبات، كل هذا خلق الله فأروني ماذا خلقت أصنامكم؟ اذاً، يبدو جلياً وواضحاً سبب نزول هذه الآية الكريمة ومكانها ومناسبتها. إنها مبارزة بين أنصار إلهين، إله أول خلق كل هذا الخلق، وإله ثانٍ مزعوم لم يقدر على فعل أي شيء. واللافت أنه يتم استعمال هذه الآية كثيراً عند تلك المواجهات وغيرها كقوله تعالى “إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له”.

الزاوية التي أود الإضاءة عليها هو تعميم هذه الآيات عند كل اكتشاف علمي يدل على عظمة الخلق، مثل خلية الجسم أو دقة سير الكواكب، أو القدرة الهائلة في خلق الذبابة أو البعوضة وما في جسمها من نظام وأعضاء متناهية في الصغر وتعمل عملاً تعجز عنه أعظم الإختراعات الآلية. نعم ،إنه خلق الله القادر تعالى، فهو على أتم ما يكون من الكمال والتمام. وكلما غاص الإنسان أكثر في هذه الخلقة، فسيجد ما يبهره ويدهشه.

لكن القصد من استعمالها أحياناً تحقير الانجازات العلمية وتسخيفها، علماً أننا نكتشف تلك العظمة بآلات هؤلاء العلماء ونتناقل صورها ومعلومات عنها بإختراعاتهم من كمبيوتر وهاتف وإنترنت، ونطّلع على تلك الذرة المكبرة ملايين المرات بمكبرات هم صانعوها. والأكثر إيلاماً من كل ذلك، أنه عند أي اكتشاف جديد يطفق بعضهم بالقول “ما فعل العالِم فلان؟ ما تكلم عنه واكتشفه موجود في كتابنا الديني منذ مئات أو آلاف الأعوام!” جيد جداً، ونحن نؤمن أن الكتب السماوية فيها إشارات ودلالات للكثير من الاختراعات وما خفي من معناها يزيد عما ظهر. ولكن السؤال المنطقي: لماذا لم يستطع أي مؤمن استنباط هذا الاختراع او الاكتشاف من كتابه ما دام موجوداً ومعلوماً وظاهرا لهذه الدرجة؟ إذا ليست المشكلة في الكتاب، بل لدى القارئ لأن قراءته لكتابه غير كافية، فعليه تغيير طريقة القراءة كي يتمكن من استخراج المعاني والأفكار التي تفيد الإنسانية روحياً ومادياً، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، أؤكد أن تلك الآية الكريمة، كما قلنا، نزلت في قوم كفار يعبدون الأصنام التي لا تضر ولا تنفع. أما في عالمنا الحاضر فمن يقول إن كل العلماء غير مؤمنين بدين ما؟ وهل كل العلماء يتحدون العزة الإلهية بإكتشفاتهم؟ لا بل الكثير منهم مؤمن بدين ما، وبعضهم كان ملحداً وأصبح مؤمناً بعد ما شاهده من عظمة الخلق فإستدل من خلاله على وجود خالق عظيم غير محدود.

هنا، أسمح لنفسي أن أقول للمؤمن المتعصب الذي لا يحترم العلم، عليك تقدير جهد وعمل هؤلاء العلماء والأدباء والفلاسفة وتضحياتهم، فهم يأتون بأختراعات واكتشافات وأفكار تخدم البشرية بشكل إيجابي، ونحن اليوم بفضلهم وفضل الله سبحانه أولاً، نتنعم بحضارة كبيرة جداً، وأنت لا تستطيع العيش من دونها دقيقة واحدة. فهل يمكنك العيش من دون كهرباء، او سيارة، أو هاتف، أو عدم تناول عقاقيرهم؟.. بكل تأكيد لا.

أيضاً، أتوجه للعلمانيين الحادين بالقول إن هؤلاء العلماء لولا وجود مكون لهم لما كانوا موجودين أصلاً؛ فلولا نعمته عليهم بالعقل والفهم والادراك، لما استطاعوا الإتيان بأي عمل. واذا كنت لا تؤمن بوجود إله لهذا الكون، فالعلماء الذين تجلهم والمخترعون، كثير منهم مؤمنون ويرجعون كل ما أُتوا به من علم ومعرفة إلى الله سبحانه وفضله وتكرمه. فما بالك أنت تحاجج وتحاول حثيثاً نفي وجود الله وترجع القوة والقدرة إلى علمهم ومعلوماتهم وأبحاثهم فقط، وهم بأنفسهم مؤمنون بالخالق ومنهم رجال دين أيضاً، وكلما ازدادوا علما ازدادوا تواضعا للعزة الإلهية؟

إنني أرى العلم النافع للإنسانية بحق، والمعتمد على الفضيلة الحقيقية بصدق، والمراعي للذمة، والباعث للإنسان على معرفة ذاته، وجها آخر للدين الراقي، القائم على الفضائل ومكارم الأخلاق، الداعي إلى تطهير النفس من المعاصي والآثام، والحاث لها للمضي قدماً لمعرفة ربها، باري الأكوان وموقّت الأزمان، الذي أوجد العالم على أبلغ صورة سبحانه وتعالى عما يصفون علواً كبيراً.

*مدير ثانوية الإشراق (المتن) – لبنان.

مصدر الصورة: New Haven Register.

موضوع ذا صلة: مخاطر الصراع بين التيارات الإسلامية والعلمانية على القيم الثقافية