د. ليلى نقولا*

على الرغم من القدرة المعقولة للإتحاد الأوروبي على لملمة الجراح التي خلفتها السياسات الوطنية والحمائية التي اعتمدتها كل دولة على حدة في مواجهة أزمة “كورونا”، تعيش أوروبا اليوم على وقع تحديات ومشاكل متعددة، تتعلق بالإنكماش الإقتصادي المتوقع، وإفلاس الشركات الأوروبية الكبرى، والخشية من العودة إلى المطالبات اليمينية بسياسات أكثر “وطنية وقومية”، ما يهدد الإتحاد الأوروبي بمزيد من التشرذم والإنقسام.

وفي ظل هذا الوضع الصعب، تتحضر ألمانيا لرئاسة الإتحاد لمدة 6 أشهر، تبدأ في 1 يوليو/تموز 2020 وتستمر لغاية نهاية العام الحالي (2020)، ما يفرض عليها التعامل مع كل التحديات الآنفة الذكر، إضافة إلى التحديات التي تواجه الإتحاد في تصوره المستقبلي لعالم ما بعد “كورونا”، ولعالم متغير دولياً، حيث تشهد العلاقات بين ضفتي الأطلسي تشنجاً حقيقياً لم تعرفه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

في دراسة ملامح الإستراتيجيّة الأوروبية القادمة للتعامل مع التحديات العالمية، نجد اختلافاً بين النظرة الفرنسية الهجومية التي تريد أن ترسم إطاراً مستقلاً وفاعلاً لدور أوروبي عالمي، بغض النظر عن موقف الولايات المتحدة الأميركية، بينما يطغى التردد والحذر على موقف الألمان ورؤيتهم لهذا المستقبل.

يطمح الرئيس الرئيس، إيمانول ماكرون، إلى “حكم أوروبي ذاتي استراتيجي”، يتلخص في الإستقلالية الأوروبية الدفاعية، أي القدرة على الدفاع عن القارة من دون الإعتماد على الولايات المتحدة، وتفعيل “السيادة على المستوى الأوروبي”. وحدد الرئيس ماكرون رؤيته للأهداف الأوروبية في السنوات العشر القادمة بالإهتمام بما تريده الطبقات الوسطى، والسير بسياسة دفاعية فعالة، وموازنة مالية أكبر، وأسواق رأسمالية متكاملة، والتخلي عن حق النقض الذي يبطئ عملية صنع القرار في الهياكل الأوروبية العليا.

وكان ماكرون، في فبراير/شباط الماضي (2020)، قد دعا المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، إلى “حوار إستراتيجي”، لرسم سياسة مستقبلية للإتحاد، تأخذ بعين الإعتبار المستجدات على الساحة الدولية والتراجع الأميركي، لكن الألمان لم يرسلوا جواباً على الطرح الفرنسي، كما أعلن الرئيس ماكرون نفسه.

والمفارقة أن التردد والضعف الذي لمسه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، من المستشارة ميركل، جعله يندفع بسياسته الهجومية ضدها، فأعلن رغبته في سحب 9500 جندي أميركي من القواعد الأميركية المنتشرة في ألمانيا، الأمر الذي ردت عليه المستشارة ميركل بحذر أيضاً، فأكدت أن وجود الجيش الأميركي مفيد لألمانيا والقسم الأوروبي من الناتو بالتأكيد، ولكنه مهم ومفيد للولايات المتحدة الأميركية أيضاً.

وفي تحذير ناعم للأميركيين، قالت ميركل “لقد نشأنا على فكرة أن الولايات المتحدة أرادت أن تكون قوة عالمية. إذا رغبت الولايات المتحدة الآن في الإنسحاب من هذا الدور بإرادتها الحرة، فسنضطر إلى التفكير ملياً في ذلك.”

إذاً، تتباين دول الإتحاد الأوروبي الكبرى (فرنسا – ألمانيا) في نظرتها إلى مستقبل الإتحاد وعلاقته مع الولايات المتحدة الأميركية، بينما تتفق كل من نظرة ميركل – ماكرون إلى ضرورة الحوار مع الصين وروسيا، وأن قطع العلاقات مع الصينيين غير مطروح في قاموس الأوروبيين، كما أكدت ميركل نفسها.

وعليه، يبدو أن الإتحاد الأوروبي لن يحسم خياراته الإستراتيجية قبل انكشاف نتيجة الإنتخابات الأميركية، وذلك على الشكل التالي:

– إن عاد الرئيس ترامب إلى الرئاسة لمدة 4 أعوام إضافية، ستنتصر وجهة النظر الفرنسية، وسيكون هناك دافع قوي لدى الأوروبيين لمزيد من الإستراتيجيات الإستقلالية، وستطغى وجهة نظر الرئيس ماكرون على تردد المستشارة ميركل، التي ستجد نفسها مجبرة على الدفاع عن بلادها وعن الإتحاد. وهكذا ستؤدي سياسات الرئيس ترامب إلى مزيد من عزلة الأميركيين في العالم، وانفكاك العديد من الحلفاء من حولهم.

– أما إذا نجح جو بايدن في الوصول إلى الحكم، فسيكون رئيساً أميركياً تقليدياً يطبق سياسات الرئيس السابق، باراك أوباما، السابقة نفسها، وأهمها التركيز على التعددية، والتشبيك مع الحلفاء، وعودة السياسة التقليدية في الشرق الأوسط، ومواجهة روسيا، واحتواء الصين بطرق أقل هجومية، وسترتاح ميركل من اتخاذ خيار استقلالي هجومي لا تريده.

*أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية.

المصدر: الميادين نت.

مصدر الصورة: فرانس 24.

موضوع ذا صلةتقييم السياسة الخارجية الفرنسية في عهد ماكرون