إعداد: مركز سيتا

شهدت فرنسا في السنوات الأخيرة تحولاً كبيراً في سياستها الدولية، وهو ما تمخض عنه وصول الرئيس إيمانويل ماكرون إلى سدة الحكم، والذي كان سبباً رئيسياً في تغيير الخارطة السياسة الفرنسية، رغم أنه لا يتمتع بأية ميزات تجعله أفضل من أسلافه، فما هو إلا مرشح توفرت له الإمكانيات وأحسن إستخدامها في إقناع الشعب وإنتخابه رئيساً.

تفرد بالقرار

قد يكون الرئيس ماكرون الرئيس الأصغر سناً، لكنه الرئيس الوحيد الذي لا يتمتع بأية خبرة سياسية، فهو يميل إلى نوع من الدبلوماسية التي تخلق ردود الفعل، بحيث أغاظت بعض الجيران والحلفاء، أو لم تؤت ثمارها بشكل سريع، والأمثلة كثيرة في هذا الصدد؛ فإستقباله للمشير خليفة حفتر ورئيس حكومة الوفاق، فائز السراج، في قصر فرساي من دون استشارة أو إطلاع البلدان المعنية بالصراع في ليبيا أغاظ عدداً منها وأبرزها إيطاليا التي توجست من هذا التفرد الفرنسي.

يضاف إلى ذلك، الدور الفرنسي الحازم والحاسم في إخراج رئيس الحكومة اللبناني، سعد الحريري، من “الإحتجاز” السعودي، وإعادته إلى بلده ومنصبه وهو ما منح فرنسا ورئيسها هالة مهمة، وتقديراً دولياً وشعبياً كبيرين، كما إعتبره العديد من المراقبين بأنه “قطيعة” مع الجمود الذي عرفته السياسة الفرنسية خلال الفترة الماضية. وقبله كان للموقف الفرنسي النشط في التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” الإرهابي، دور كبير في محاصرة هذا التنظيم، الأمر الذي لا يزال قائماً.

من الجانب الأفريقي، إن الحضور السياسي في منطقة التأثير الفرنسي التاريخية يزداد ويترسخ. فبالإضافة إلى زيارات الرئيس ماكرون، بعيد توليه الحكم، إلى العديد من الدول فيها، لا سيما منطقة الساحل والصحراء لتفقد جنوده، كشفت عن استمرار الحضور العسكري لسنوات طويلة مقبلة كما أعلن العديد من قادته العسكريين، في حين ينظر بعض المحللين إلى أن تلك السياسة سببت كوارث للقارة ولا تزال تأثيراتها حاضرة خصوصاً عبر تثبيت أنظمة دكتاتورية ومستبدة، أو التخلص من بعض المناهضين لسياساتها.

تقلب سياسي

إذا كان الرئيس الفرنسي، الأوروبي الهوى، لم يخف ابتهاجه لعودة الإستقرار السياسي في برلين، وعودة القاطرة الألمانية للسير على سكة الإتحاد الأوروبي، والإنغماس في الشأن الداخلي للقارة لا سيما موقفه العلني المنحاز لسلطات مدريد في صراعها مع انفصاليي كاتالونيا، منح وضوحاً أكبر للسياسة الفرنسية.

في المقابل، إن المفاجآت الأميركية دائماً ما تكون بالمرصاد خصوصاً النزعة المتزايدة للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نحو نوع من الحمائية التي لن تكون في صالح الأوروبيين. والسؤال هنا: ما الذي ستفعله الدبلوماسية الفرنسية، التي تحرص دائماً على التذكير بالصداقة الفرنسية – الأميركية وعلى دور الجيش الأميركي في تحريرها من النازية، إزاء ضغوط واشنطن على الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي – الناتو من أجل تجهيز جيوشها بالسلاح الأميركي، ليس فقط مقابل الروسي، كما هو الشأن برغبة تركيا بشراء أنظمة دفاع روسية، بل وأيضاً مقابل السلاحين الفرنسي والألماني؟ فهل يكون يكون الحل بالخروج من الحلف بعدما قال الرئيس ماكرون أنه في “حالة موت سريري”؟

تناقضات وطموح

إن طموحات الرئيس الشاب ومبادراته لم تنجح في إحداث أي إختراق ملموس على الصعيد الدولي، حيث إعتمد الرئيس ماكرون على مقاربات نظرية تتصل بالسياسة الخارجية والتوازنات العالمية، حيث قال في مؤتمر السفراء الفرنسيين “إننا نعيش نهاية عصر الهيمنة الغربية على العالم وصعود قوى مثل روسيا والصين والهند”.

وعشية الذكرى السبعين لتأسيس حلف شمال الأطلسي – الناتو، اعتبر ماكرون أن الناتو في حالة “موت سريري”، محذراً من وجود أوروبا على حافة الهاوية، متحدثاً عن إحتمال اختفائها عن مسرح اللعبة الدولية إذا لم تتمكن من استعادة مقومات القوة وتبلور سياسة دفاعية وخارجية متماسكة.

ففي ظل الفوضى الدولية، سعى الرئيس الفرنسي للإقتداء بالرئيسين السابقين، كالجنرال شارل ديغول وفرنسوا ميتران، وتقليدهما استناداً إلى تاريخ فرنسا في مجمع الأمم، لكنه حاكى أيضاً سيرة الإمبراطور الشاب نابليون بونابرت ودوره في صناعة الأمجاد الفرنسية الغابرة.

لذلك، لم يكن مستغرباً أن يلمح الرئيس ترامب من الخلط المقصود بين ماكرون ونابليون، ليس لأنه مولع بإستخلاص مقارنات تاريخية، بل للرد على انتقادات الرئيس ماكرون له حول الإنسحاب من سوريا وترك الكرد لمصيرهم بعد قتالهم مع “التحالف الدولي ضد داعش”، إذ يبدو أن نهج الرئيس الفرنسي وسياساته “المتغطرسة”، حسب البعض، لا يلقيان الترحيب ولا يحصدان النتائج عند غالبية المعنيين.

ما بين ضفتي الأطلسي

لم يتردد الرئيس ماكرون في وضع الإصبع على الجرح لا سيما رأيه بكيفية تعامل الرئيس الأمريكي مع “حلف الناتو” الذي يعتبره “مشروعاً تجارياً”، وأنه مقابل المظلة الإستراتيجية والأمنية التي توفرها الولايات المتحدة لأوروبا، تطلب واشنطن الهيمنة التجارية والإقتصادية.

وبالرغم من دعوته إلى إقامة ركيزة أوروبية لحلف شمال الأطلسي في ظل أحادية وانعزالية أميركية ترتسم في الأفق، لاقى تقييم الرئيس الفرنسي الإستهجان والنقد من قبل مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، الذي لا يزال يشيد بدور الناتو، الذي عوِّل عليه بعد الحرب الباردة ليكون شرطي أو جندرمة العالم حسب الرغبة الأميركية.

فيما تحفظت ألمانيا عبر مستشارتها، أنجيلا ميركل، على الرؤية الراديكالية لماكرون، فيما أدانت بولندا وعدة دول أوروبية مقاربته تلك، بينما لا قى كلامه إستحساناً روسياً، وسجلت زيارته الأخيرة إلى الصين ناجحاً لافتاً في عدة مجالات، مع تقدم في العلاقات الفرنسية – الهندية.

أخيراً، يتضح أن الرئيس ماكرون يسعى للتأقلم مع تطور النظام الدولي في سياق إعادة تشكيله ويحاول الحفاظ على موقع فرنسا وأوروبا فيه. وعلى الرغم من إمتلاكها السلاح النووي والفيتو في مجلس الأمن، تكتشف أن تأثيرها، من دون الإتحاد الأوروبي والحليف الألماني، ليس كبيراً كما يحلم به الساسة الفرنسيون، وهي الحقيقة التي صرح بها، منذ عقود، السياسي الفرنسي العجوز، جان ماري لوبان.

يخشى الرئيس ماكرون من خيبة أمل فرنسا لرئاسته، فعلى الرغم من طاقته الدبلوماسية التي يعبر عنها بطريقة مثيرة للإعجاب، فإن الحقيقة المحضة تكمن في أن معظم جهوده وسياساته الخارجية فشلت فشلاً ذريعاً حتى الآن حيث حظيت بقائمة طويلة وعجيبة من الإخفاقات والنكسات على جميع الأصعدة، بما فيها مسائل عالمية وأوروبية مهمة، أبرزها خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي – “بريكست”، وإنتصار القوى “الشعبوية” في دول كإيطاليا والنمسا، وزوال الصفقة النووية الإيرانية.

مصدر الأخبار: سيتا+ وكالات.

مصدر الصور: صحيفة العرب –  عربي بوست – مونتي كارلو.

موضوع ذو صلةالأيوبي: الرئيس ماكرون بات مرغماً على القطيعة مع الولايات المتحدة