أحمد سلطان*

يوم 12 يوليو/ تموز الماضي، وقعت اشتباكاتٌ عسكرية دامية على الخط الحدودي الفاصل بين دولتي أرمينيا وأذربيجان، قتلت خلالها الأولى عدداً من ضباط وجنود الثانية، وقالت أذربيجان إنها ردت بقصف مدفعي مماثل، أدى إلى إيقاع خسائر بشرية في صفوف القوات الأرمينية، لكن، فيما يبدو، لم تكن موازين القوى ونتائج التصعيد في صالح أذربيجان.

سارعت تركيا خلال هذا الاعتداء الأرميني، وبعده، إلى إظهار وتأكيد انحيازها لأذربيجان في وجه أرمينيا ومن يدعمها، قولاً وفعلاً، ما طرح كثيراً من الأسئلة عن خصوصية التوازنات والعلاقات في هذه المنطقة.

الدعم التركي

كما رأى كل المتابعين، فإن الدعم التركي لأذربيجان اتسم بالنسقية والعلنية والسرعة والصرامة، كما لو كان الاعتداء واقعاً على أنقرة، وقد تناولته كل المستويات التركية: رئاسياً ووزارياً واستشارياً.

تحدث أردوغان وخلوصي أكار وفؤاد أقتاي وغيرهم من ممثلي الدولة التركية الحاليّة، مكررين ما يشبه “كود” التعامل مع الأزمة، الذي كان مفاده أن أنقرة تقف مع باكو في وجه اعتداء يريفان إلى النهاية وبلا تردد، وأن على العالم تسليط الضوء على معاناة الشعب الأذري، وأن استغلال فارق القوة، من طرف واحد، من شأنه أن يقوض حالة السلام الهشة السائدة في هذه المنطقة.

وفي نهاية يوليو الماضي، بدا أن الدولة التركية بلورت طريقةً لتحويل دعمها الخطابي الموجه إلى أذربيجان لقوة رادعة وتحركات عملية، حيث أعلن البلدان حينئذ عقد مناوراتٍ مشتركة، تبدأ يوم الـ 29 من يوليو/ تموز، تحت اسم “النسر التركي الأذري”.

لم تقل البيانات العسكرية الرسمية الصادرة عن وزارتي الدفاع في البلدين الكثير عن فعاليات المناورات، مكتفيةً بالإشارة إلى تدرب الجيشين على تطهير بعض المناطق الإستراتيجية من الأعداء الافتراضيين والدعم النيراني المشترك برياً والإنزال المروحي وتنفيذ المهام الجوية الأساسية: القصف الأرضي والاعتراض والهجوم ليلاً ونهاراً.

وبمزيدٍ من البحث، عرفنا أن قيادة الجيشين حرصت على فرض حالة من السرية على تفاصيل المهمات التدريبية المتفق عليها، وأن هذه المناورات، على هذا النطاق، جزء من اتفاقيات أمنية وعسكرية موقعة بين الثلاثي: تركيا وجورجيا وأذربيجان، التي تمت، على ضوئها، مناورات “الأخوة الراسخة” بين تركيا وجمهورية نخجوان التابعة لأذربيجان العام الماضي، بمشاركة مئات الجنود وعشرات الدبابات وعدد من الطائرات المقاتلة.

الخصوصية الأذرية

هناك عدد من الأسباب البرغماتية التي يمكن أن تفسر الهبة التركية لنصرة أذربيجان بشكل عام، وفي مواجهة أرمينيا بشكل خاص، لكن يبدو أن العلاقات بين البلدين، بطبيعتها، أكبر من هذه الأسباب، كما قال رئيسا البلدين في أكثر من موقف سابق.

فتركيا هي الدولة الأولى في العالم التي اعترفت بأذربيجان دولةً مستقلة، نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1991، بعد انفصالها عن الاتحاد السوفيتي، ومنذ ذلك الحين، وحتى عام 2010 فقط، وقع البلدان أكثر من 11 اتفاقية تعاون متنوعة، في الثقافة والاستثمار والعلاقات العسكرية، وبحلول عام 2019، بات دخول البلدين، ذهاباً وإياباً، ممكناً دون الحاجة إلى تأشيرة.

كما تعتبر اللغة الأذرية واحدة من أقرب اللغات إلى التركية، وينتمي الشعب الأذري، عرقياً، إلى الجنس التركي، ويشترك الشعبان في الإسلام عقيدةً وحتى في الجوانب الفقهية، ومنذ الاستقلال وحتى عام 2018، فقد تعلم أكثر من 125 ألف شاب من أذربيجان في مدارس تركيا وجامعاتها.

تعد أذربيجان بالنسبة لتركيا جزءاً مهماً في عدد من التحالفات الصغيرة والكبيرة التي تربطهم معاً أواصر الجغرافيا الثقافية، مثل المجلس التركي الذي أنشئ عام 2009 ليضم عدداً من الدول الناطقة بالتركية مثل طاجيكستان وقرغيزستان وتركمانستان وأوزباكستان وأذربيجان، والتحالف الثلاثي، شمال شرق الأناضول، الذي يضم أذربيجان وجورجيا بالإضافة إلى تركيا، والتحالف السداسي الذي يضم إلى جانب الثلاثي السابق إيران وباكستان وتركمانستان.

روسيا

يعتقد الأتراك أن الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، هو في حقيقته تجلٍ لصراع أكبر قديم بين روسيا وتركيا، وهو ما تبدا بوضوح في إرسال الطرفين، أنقرة وموسكو، رسائل دعم مبطنة لحلفائهما في هذه المعركة، كل على حدة، وفي إسراع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى الاتصال بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبحث الموقف.

وترجع جذور التضامن التركي مع أذربيجان في وجه الثنائي، أرمينيا وروسيا، إلى عام 1918، عندما أمر السلطان العثماني بإرسال جيش، بقيادة نوري باشا، تحت اسم “جيش القوقاز الإسلامي” لمواجهة البلاشفة وتحرير العاصمة الأذرية الحاليّة “باكو”، وهي المعركة التي شارك في الاحتفال بمرور قرن على اندلاعها الرئيس التركي أردوغان، في زيارته إلى أذربيجان، بعد انتخابه للمرة الثانية رئيسًا لتركيا عام 2018 مباشرةً.

وبحسب ماثيو برايزا، وهو دبلوماسي ووسيط أمريكي تاريخي في التفاوض بين أرمينيا وأذربيجان، فإن روسيا تستخدم الورقة الأرمينية بالفعل، لتهديد أذربيجان ومحاولة الهيمنة على هذه المنطقة، لإحياء نزعات إمبراطورية قديمة، عبر عدة كيانات وأشخاص انتخبت من أجل هذه المهمة.

الكيانان الأكثر أهمية في هذا السياق، بحسب برايزا هما: لجنة الدوما لرابطة الدول المستقلة، ويرأسها شخص متعصب يدعى قسطنطين زاتولين، المتأثر بتجربة جوزيف ستالين في ترسيم حدود البلدان السوفييتية، ثم “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” التي أنشئت عام 1992 لتكون نموذج محاكاة لحلف الناتو في منطقة “أوراسيا”، وصدر عنها تصريحاتٌ تصب في اتجاه إمكانية استخدام القاعدة 102 الروسية في أرمينيا ضد أذربيجان.

أرمينيا

يطرح هذا التصور بدوره سؤالًا جديداً، وهو: لماذا تقبل يريفان أن تكون ورقة في يد موسكو لتضرب بها باكو وأنقرة كلما أرادت إثارة الأوضاع في هذه المنطقة؟

بالإضافة إلى الهيمنة التاريخية وفوارق القوة المغرية لأرمينيا في مواجهة أذربيجان، والصراع المسيحي الإسلامي التقليدي، فقد رجح الرئيس التركي أن يكون الهجوم الأرميني على أذربيجان، الذي وصفه “بالمتعمد والمتهور” بعد أن استخدمت فيه الأسلحة الثقيلة، محاولةً لخلق بؤرة صراع جديدة.. فما بؤرة الصراع القديمة؟

تحتل أرمينيا بالفعل 10 محافظات أذرية، تمثل نحو 20% من أراضي أذربيجان، ويأتي على رأسها مرتفعات “قرة باغ”، حيث تمثل هذه الأخيرة حجر الزاوية في الصراع القديم بين البلدين، بالإضافة لمحافظات غرب أذربيجان.

وقد مهدت أرمينيا لفرض أمر واقع حيال “قرة باغ” عبر طرح النزاع بشأن هذه المرتفعات كموضوع جدلي، بمجرد استشعار ترنح الاتحاد السوفيتي، وتحديداً عام 1988، ثم عبر استفتاء غير شرعي على الاستقلال، رفض الأذريون المشاركة فيه، وصولاً إلى ضم المرتفعات الأذرية بالقوة عام 1993.

وخلال هذه المعارك التي أدت إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح نحو مليون شخص، ارتكبت القوات الأرمينية عدداً من المجازر ضد المدنيين، التي اعتبرتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، أنها ترقى لجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، مثل مجزرة “خوجالي” في قرة باغ، التي راح ضحيتها أكثر من 500 شخص، معظمهم من الفئات غير المحاربة كالأطفال والشيوخ والنساء.

وبحسب ما ذكره ماثيو برايزا وغيره من المهتمين بهذه القضية، فإن نتائج المفاوضات الثلاثية بين الولايات المتحدة وأذربيجان وأرمينيا، أيدت ملكية أذربيجان لقرة باغ، وهو ما أبدت أرمينيا موافقة ضمنية عليه، حيث شهدت تلك السنوات الماضية مفاوضات مضنية لإقناع يريفان بالانسحاب من هذه المرتفعات، وقد حققت هذه المفاوضات تقدمًا ملحوظًا كما قال مسؤولون في خارجية باكو مؤخرًا، لكن الأمور عادت للتدهور من جديد، لأسباب منها رغبة الحكومة الأرمينية في تخفيف حدة بعض المشاكل الداخلية، كما ذهب الرئيس التركي في قراءته للمشهد.

منطقة جديدة

منذ احتلال أرمينيا لمرتفعات قرة باغ، ورغم توقيع اتفاق سلام عام 1994 لإنهاء الحرب وإطلاق المفاوضات، فإن المناوشات الحدودية بين البلدين، وخاصة فيما يتعلق بقاراباغ لم تتوقف، التي كان آخرها ما جرى 2017.

لكن الجديد هذه المرة، أن هذه المناوشات وقعت في محيط منطقة “توفوز” الحدودية، وهو ما ألمح إليه أردوغان في حديثه عن رغبة أرمينيا “خلق بؤرة صراع جديدة”، وحديث مساعديه عمن يقف في الواقع وراء هذه الهجمة الأرمينية، في إشارة ضمنية إلى روسيا.

وبحسب محللين، فإن منطقة “توفوز” المشار إليها ذات أهمية جيوسياسية واقتصادية كبيرة بالنسبة لأنقرة، إذ يمر عبرها ثلاثة مشروعات إستراتيجية ضخمة: اثنان للطاقة، نفط وغاز، والثالث مشروع سكك حديدية عابر للقارات.

مشروع الغاز المشار إليه هو مشروع “تاناب” الذي دشن عام 2012، لنقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا عبر تركيا، ويهدف، في المقام الأول، إلى مساعدة أنقرة وأوروبا على الاكتفاء من هذا المورد الحيوي، بعيداً عن هيمنة موسكو، ويدخل، أيضاً، ضمن مشروعين آخرين، أحدهما مع موسكو للمفارقة، تحت مظلة خطة أنقرة للتحول إلى مركز إستراتيجي لتداول الطاقة في هذه المنطقة الخطيرة، وتحقيق أكبر استفادة ممكنة من موقعها الجغرافي المهم.

المشروع الثاني، هو مشروع نقل النفط من العاصمة الأذرية باكو، إلى تبليسي العاصمة الجورجية، ومنه إلى ميناء جيهان التركي جنوباً، الذي سيتولى تسويقه وبيعه إلى البلاد الأوروبية، وهو نفس الميناء الذي كان يستقبل النفط العراقي القادم من ميناء كركوك.

أما مشروع السكك الحديدية، فيبدأ من باكو ويمر من توفوز بطبيعة الحال، في طريقه إلى تبليسي، نحو وجهته الأخيرة، قارص التركية، التي تنوي أنقرة ربطها بالبحر المتوسط، ومد مزيد من خطوط السكك الحديد إليها، ويندرج هذا الخط ضمن مشروع “طريق الحرير” الصيني، ويستهدف على المدى البعيد إيصال حركة المسافرين والبضائع من الصين والجمهوريات القريبة من تركيا، بقارص، ومنها إلى أوروبا، حيث يتوقع أن يصل عدد المسافرين من خلاله إلى مليون مسافر وأكثر من 6 ملايين طن بضائع سنوياً.

لهذه الأسباب الأربع الأساسية، يرجح أن تركيا تحركت لدعم أذربيجان سريعاً وبشكل جاد، حيث تتداخل مصالحها ومصالح حلفائها في هذه المنطقة التي يتضخم فيها أيضاً نفوذ خصومها، ويبدو أن الرسالة التركية وصلت إلى أرمينيا وحليفتها روسيا، سريعاً، حيث اتفق البلدان أيضاً على عقد مناورات عسكرية متزامنة مع مناورات “النسر”، وسارعت يريفان للحصول على عتاد عسكري مشابه لذلك الذي حصلت عليه باكو من أنقرة، لكن من الشرق الأوسط، من الأردن هذه المرة، وما زال التنافس مستمراً.

*كاتب وباحث.

المصدر: نون بوست.

مصدر الصور: أرشيف سيتا + نون بوست.

موضوع ذا صلة: من المستفيد من الأزمة الأرمنية – الأذرية؟