د. عبد العزيز بدر القطان*

بلد السلام ولم يعرف السلام يوما. بلد الحضارة والثقافة والتنوع بلد الأرز، وبلد العمالقة. بلدٌ كبير بأقلامه ونخبه في شتى الميادين. لبنان الأرز الشامخ يبكي اليوم فاجعة حارقةٍ أبكت كل العالم. ما من صاحب ضميرٍ إلا وتألم لألم بيروت، ودموعها وحزنها، وأراد أن يكفكف دمعها كيف ما إستطاع.

لا أؤمن بكلمة “مستحيل”. لولا العقل الذي وهبنا الله إياه، لغرقنا في غياهب المجهول، وما تميزنا إلا بعقلنا الذي يحلل المشكلة والأزمة ويوجد الحل. ما حدث في بيروت أوجع كل العالم، وهز كيان الجميع. وأي شخص لم يحرك ساكناً، فمن المؤكد أنه خارج سرب الإنسانية لا بل حتى الأخلاق.

هي طبقة واحدة تحكمت وأمعنت في ظلم لبنان. طبقة أنهكته وآلامته على مدى عقود. تغيرت الأسماء دون تغير في هذه الطبقة ذاتها. لماذا ولمصلحة مَنْ؟

لا انتخابات نزيهة، ولا إقتصاد قوي، ولا محبة داخل البيت الواحد. نُحرج ونخجل إن ذكرنا كلمة “الطائفية” لكنها حقيقة، “يحيى الزعيم” و”يعيش الزعيم”، وعندما تجوع أنت يكون آخر هموم الزعيم. ليأتي تفجير ويضع أكثر من 300 ألف عائلة مشردة بلا مأوى، كل ذنبها أنها وثقت بهذا الزعيم وإنتخبته، ليقوم بإمعان ذبحها بيديه. لا إستقالة حكومة ستنفع ولا حكومة جديدة ستغير الواقع، على العكس، الجميع شريك بمعاناة لبنان “الوطن”. والمفارقة العجيبة أنه حتى وفي عز ألمه، لم نسمع هتافاً واحداً عن لبنان، فقط عن الزعيم الأوحد والتيار الأوحد والحزب الواحد، يسارياً كان أم إسلامياً. أين لبنان منكم أيها السادة؟

كل ما حولنا منهك، لكنها ليست ذريعة في بلدٍ كلبنان. كل الحكومات التي تعاقبت إلى آخر حكومة هي شريكة في هذا التفجير. لماذا لم يفعل أي مسؤول شيء لتدارك هذه الكارثة؟ إنها جريمة بحق الإنسانية والمواطنة. فإذا لم تؤتمن دولتي على حياتي، فلمن ألجأ؟

قلما تتحدث إلى لبناني إلا ووضع الهجرة نصب عينيه. غرباء في الوطن، وأحياء ومواطنين في الغربة. هذه الحقيقة الوحيدة في زحمة كل هذه المعاناة. ورغم ذلك، خرج البعض وأجرم بحق هذه الأمة، مطالباً بالإستعمار. أيضاً هنا ومهما كانت الأسباب، لا أمجاد الماضي ستفيد حاضرك، ولا الإستعمار سيجلب لك السلام، “كنا وكنا وحررنا وحققنا وإنتصرنا ووو وإلخ”، لكن أين نحن اليوم؟ وماذا حققنا؟ عندما تهدد لقمتنا وخبزنا في خطر، عندما ترسل الدول مساعدات هزيلة لا ترقى بعظمة شعب لبنان، عندما تخرج الخطابات التنظيرية من أفواه بعض الساسة، وكأنها خائفة من الإنقضاض عليها، لتقول إنها غير مسؤولة أو غير معنية، فماذا ينتظر بعد؟

الجميع شريك في هذه الآلام، وليس قدر لبنان أن يعاني بل هم من يريدون “تخدير” الشعب كي يعتقد أنه بحاجة إلى هؤلاء الزعماء، والعكس صحيح، فلا زعامة بدون شعب، ولا هوية سوى اللبنانية، ولا علم سوى علم لبنان الشامخ.

عندما تسقطون أعلام الغير، وترفعون إسم بلدكم وعلمها، ستتيقنون أنكم على الطريق الصحيح. فها هي سوريا، وخلال زياراتي الأخيرة لها وفي عز حربها، لن تشاهد في شوارع العاصمة دمشق إلا العلم السوري. فهو رمزها ووطنيتها تتمثل فيه لا بمساعدات الغير، أو أو أو!

من هنا، علينا أن نعرف معنى الوطن، لنفهم ما هي المواطنة، ماهي حقوق الشعب، وواجبات الحكومة. الجميع يعلم أن الوطن هو البقعة الجغرافية التي ولد عليها الإنسان ويعيش فوقها. وهو المكان الذي يشعر به المواطن بالإنتماء والولاء له، لا لغيره. وهو الحضن الدافئ والحاضن له والمقر الدائم الذي يجب أن تتوافر فيه كل ظروف ومقومات العيش الكريم.

أما المواطنة قانونياً، هي الرابط ما بين الدولة والفرد، وذلك بموجب قواعد وأحكام القانون الدولي المواطنة، والذي يرادف مصطلح “الجنسية”، على الرغم من احتواء هذا المصطلح على معانٍ مختلفة وعديدة وفقاً للقانون الوطني.

من هذا المنطلق، أتت حاجة الأفراد لتشكيل مجتمع إنساني، ينخرط الأفراد فيه ضمن أطرٍ ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة ودينيّة. هذا الأمر يستوجب على الفرد إنتاج علاقاتٍ متنوعة ضمن هذا المجتمع. ومن هذا المنطلق أيضاً، ينتظم الفرد في مجتمعه ومؤسساته على اختلافها، سواء كانت مدنية أو رسمية، الأمر الذي ينقله من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، والتي تحدث فيه تبدلاً ملحوظاً، ليحل العدل مكان الوهم الفطري، وتصقل أفعاله بأدب كان بحاجةٍ له.

لنستيقظ، لنحاسب الفاسد، لننقذ هذا الوطن. لبنان لجميع العرب، ولنا منها حصة كما لكم. لكن مسؤوليتكم ومواطنتكم تدفعكم للقضاء على هذه الطائفية المريضة، فلن يشعر أحد بكم كما أنتم. هذا الإنفجار، مهما آلمكم ومهما كان قوياً، إجعلوه مدخلاً للبنان الجديد، للبنان الواحد، وليس لولاءات وإنقسامات، لن تشعر بكم يوماً كما يشعر وطنكم بكم!

إن إنتماءاتك الدينية المذهبية والعرقية والحزبية، كلها إنتماءات شخصية، أو على نطاق جماعة أو منظومة محددة، فلا تدعوها تعلو على حساب الوطن خاصة وأن دولنا هي دول مؤسسات يجب أن تكون بعيدة كل البعد عن المحاصصات الطائفية التي أفقدتنا أبناء أوطاننا وأوطاننا ذاتها.

من هنا، أقتبس من مسرحية “كاسك يا وطن” للكاتب السوري الراحل، محمد الماغوط، قولاً مؤثراً “اليمن صارت يمنين، ولبنان صار أربعة، و”إسرائيل” صارت قطر شقيق! الله وكيلك يا أبي، مو ناقصنا إلا شوية كرامة!”.

*كاتب ومفكر كويتي.

مصدر الصور: ميدل إيست أونلاين – إيران وير.

موضوع ذا صلة: لبنان بين الدويلات “العميقة” و”العقيمة” و”الغميقة”