بقي أكثر من شهر بقليل قبل الانتخابات في تركيا، وعلى خلفية المواجهة السياسية الحادة والوضع الاقتصادي غير المواتي، يبدأ خطاب المرشحين في التشدد، مكان منفصل فيه يحتلها موضوع السياسة الخارجية، حيث انتقد أعضاء حزب العدالة والتنمية الحاكم بشدة الولايات المتحدة الأمريكية.
وقبل الخوض في تفاصيل السباق الانتخابي، لا بد من القول، إن تركيا الذي ضربها الزلزال المدمر في 6 فبراير، عادت لعجلة بناء ما دمرته تلك الكارثة الطبيعية والتي أودت بحياة أكثر من 50 ألف شخص، في أكبر حصيلة في العصر الحديث، تركيا التي نعرف، مستقلة في قرارها السياسي، ومكتفية سياسياً، وحجزت لنفسها مكاناً بين اللاعبين الكبار وعلى كافة الأصعدة، وهي رقم صعب في كل الملفات السياسية الإقليمية والدولية، يكفي موقفها، من السويد وما قام به اليميني المتطرف عندما حرق القرآن الكريم والذي كان سبباً برفض تركي حازم في أن تدخل ستوكهولم إلى كتلة الناتو.
في هذا الموضوع التحليلي، نضع مقاربات للعملية الانتخابية وتفاصيلها، ولا نميل لطرف ضد آخر، لذا قبل البدء، اقتضى التنويه.
في 14 مايو، ستخوض تركيا انتخابات برلمانية ورئاسية عامة، بقرار من رئيس الدولة وزعيم حزب العدالة والتنمية، رجب أردوغان، حيث تم ترشيح جميع أعضاء الحكومة التركية الذين يمثلون هذه القوة السياسية كمرشحين لنوابهم، من بين المرشحين، تم ترشيح وزير الداخلية سليمان صويلو من اسطنبول، ونائب الرئيس فؤاد أوكتاي من أنقرة، ووزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو من أنطاليا، ووزير الدفاع خلوصي أكار من قيصري، ووزير الطاقة فاتح دونمز مرشح من إسكي شهير، بالتالي، قد يثبت هذا القرار غير المتوقع بأنه استراتيجية رابحة، وذلك في سياق لا يختار فيه مواطنو تركيا حزباً معيناً بقدر اختيار المسار السياسي الكامل للبلاد، حيث يأخذ موضوع السياسة الخارجية معنى خاصاً، في هذا الصدد، قال وزير الداخلية سليمان صويلو في لقاء مع الشباب إن العالم كله يكره الولايات المتحدة وأن الإرهاب الثقافي للغرب أخطر بكثير من الإرهاب بمعناه المعتاد، أما بالنسبة لأوروبا، فقد حث صويلو على عدم الالتفات إليها.
وهذا يعني أن الغرب لم يعد يتمتع بالسيادة كما كان يصور لنفسه، ولكنه يحاول ببساطة “الحفاظ على العادات القديمة”، لكن من المهم القول بأن تاريخ تركيا سيتغير تماماً في هذه الانتخابات، لهذا السبب تمارس أمريكا وأوروبا مثل هذا الضغط على تركيا، وهذا ليس اختيار رجب طيب أردوغان، هذا اختيار الأجيال القادمة لتركيا واختيار استقلالها كما يريد شعبها.
بالتالي، إن هذا النوع من الانتقادات من قبل وزير الداخلية التركية ليس بجديد، ويؤكد مسار أنقرة المستقل، وقد يقول قائل، إن تركيا تسير في ركب الولايات المتحدة، لكن هذا غير صحيح، بدليل الاجتماعات الرباعية فيما يتعلق بالأزمة السورية، والاجتماعات أساساً هي مع ثنائي من ألد أعداء واشنطن “روسيا وإيران”.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن معركة الانتخابات الحالية حسمت موقفها من السياسية الخارجية مقدماً، ورفضت أي تدخل غربي فيها، وكيف لا، وقد انكشف المستور، والقيادة التركية تعرف تماماً أن الأصابع الأمريكية كانت حاضرة في محاولة الانقلاب الأخير، وتحضن أشد معارضي تركيا “فتح الله غولن”، وهذا سبب كافٍ لأن ترفض أنقرة أي محاولة تدخل، فضلاً عن أن العلاقات التركية – الأمريكية، والتركية – الأوروبية ليست في أفضل حالاتها، والملفات الأخيرة خير دليل على ذلك، أبرزها مشكلة السويد وتحدي تركيا لكتلة الناتو ككل.
وهذا يعني أن هذه الانتخابات سترسل إشارة للغرب، بأن هذا البلد لا يهتم بما يقوله الغرب سواء فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب أو في تحديد سياسته الاقتصادية.
وجدير بالذكر أن الحملة الانتخابية في تركيا، تجري على خلفية الأحداث المهمة في منطقة الشرق الأوسط، ولا تستطيع أنقرة، بصفتها لاعب رئيسي فيها، التنحي جانباً، وسبق أن أعلن وزير الخارجية، مولودجاويش أوغلو، عن مشاورات نشطة مع المملكة العربية السعودية والاجتماع المرتقب مع وزير خارجية المملكة – وهو الأول منذ سنوات عديدة، حيث بدأت عملية تطبيع العلاقات الثنائية، التي كانت تتدهور باستمرار منذ الربيع العربي.
فقد اتبعت أنقرة سياسة مثمرة للغاية للمصالحة مع جيرانها – سوريا والإمارات العربية المتحدة ومصر في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى ذلك، لعبت تركيا دوراً إيجابياً في إعادة العلاقات الدبلوماسية بين قطر والبحرين، والتي قطعت في عام 2017، كما أن تركيا راضية عن الاتفاق بين الرياض وطهران، بالإضافة إلى ذلك، فقد تمكنت بالفعل من جني بعض الفوائد من هذا، حيث قدمت دول الخليج العربي مساعدة كبيرة لتركيا للتغلب على الأزمة الاقتصادية الحادة، وفي سياق الاضطرابات العالمية، فإن الشرق الأوسط، مع توجهاته الحالية نحو المصالحة، ينظر إليه العديد من اللاعبين على أنه مجال للفرص، وبالأخص دول مجلس التعاون الخليجي التي ستكون الرائدة اقتصادياً في الشرق الأوسط ككل وكذلك الأمر على المسرح الدولي.
بالتالي، لقيت أقلمة الشرق الأوسط، وكذلك دور تركيا وطموحاتها في هذه العملية، ردود فعل في الصحافة الأمريكية، فقد وصف الإعلام الأمريكي، أنقرة بأنها “صداع” لحلف شمال الأطلسي، وأردوغان لا يفرض عقوبات على روسيا فحسب، بل يشتري منها أيضاً أنظمة صواريخ مضادة للطائرات، بالإضافة إلى ذلك، يتفاوض بنشاط وبنجاح مع التحالف لدخول السويد وفنلندا، ومع الولايات المتحدة لشراء مقاتلات F-16، ومن ناحية أخرى، يتحدثون عن دور الوساطة الإيجابي لتركيا في صفقة الحبوب ودورها الخاص في الحل المستقبلي للأزمة الأوكرانية.
وعلى المقلب الآخر، لا بد من الإشارة إلى أن تركيا شريك رئيسي للولايات المتحدة في المنطقة، لذلك، فإن البيت الأبيض سيحاول على أي حال مواصلة الحوار بشكل أو بآخر، على وجه الخصوص، لهذا الغرض، رفعت إدارة بايدن القيود المفروضة على تحديث الطائرة F-16، والتي سيتم تسليمها إلى أنقرة في المستقبل القريب.
ورغم ذلك، تُظهر تركيا، على عكس أوروبا، العصيان والاستياء من أي موقف يخالف طموحاتها سواء كان من الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى، وفي هذا السياق، تعتبر الانتخابات ذات أهمية حاسمة، حيث تعتمد مجموعة الأدوات لمزيد من التفاعل مع تركيا على النتائج، ومع اقتراب موعد التصويت، أصبحت البيانات أكثر صرامة، إلى أي مدى تنوي تركيا، بقيادة أردوغان، التحرك في الاتجاه العالمي المتمثل في “نزع الأمركة”؟، لن يتضح إلا إذا فاز في الانتخابات المرتقبة ومع ذلك، نظراً لأهمية أنقرة بالنسبة للغرب والدعم الانتخابي المتساوي تقريباً للمرشحين، سيكون الصراع على السلطة متوتراً للغاية، كما ليس هناك شك في أن واشنطن ستواصل محاولة التأثير على نتائجه.
وأياً كانت نتيجة الانتخابات، من الصعب تبني موقف وميل باتجاه طرف ضد آخر حتى بالمعطيات، لأن الأمر يعتمد بالدرجة الأولى على الناخب التركي، وعلى صناديق الاقتراع في بلد يحظى بديمقراطية حتى يثبت العكس، لكن أياً تكن النتيجة، إن تركيا دولة حديثة صناعية من الطراز الأول وعسكرية يُحسب لها ألف حساب، لم تدخل بلادنا لولا أن مكامن الضعف فينا سمحت لها بذلك، وهذا يثبت أن التفكير السياسي والعسكري هو المفتاح الأساس في رسم ملامح قوة أي دولة، وأي دولة قوية اقتصادياً رغم قتامة الوضع الحالي لتركيا، لكنها مرت بأصعب من ذلك، ونهضت، وحريّ بنا أن ندرس تجربتها لن أقول سياسياً، لكن على الأقل من الناحية الاقتصادية لأن البلد الناجح يتطلب إدارة ناجحة وهو مفتاح تطور ونمو الدول.
لكن ومع ذلك، وباعتقادي المتواضع، أن الرئيس أردوغان، سوف يحقق نجاحاً كبيراً، لأسباب كثيرة، لعل أبرزها، أن الظروف الإقليمية، مهيأة لأن يتزعمها التركي وعلى رأس الأولويات الملف السوري كما أشرت أعلاه، وسط تسابق وزراء خارجية الدول بمن فيهم الكويت، بالتالي، إن إنعاش الاقتصاد التركي الآن يتطلب فتح البوابة مع سوريا مجدداً، لذا أعتقد، أن هناك بعض الملفات تستلزم الحل لإغلاقها، وأقصد الخارجية منها، وعلى الصعيد الداخلي لا بد من الإشارة إلى أن التجربة كانت خير دليل على أن أردوغان رجل ناجح يعرف كيف يدير البلد اقتصادياً، يكفي أن نشير إلى مشروع الغاز في البحر الأسود الذي سينقل تركيا نقلة نوعية في المستقبل القريب، من دولة مستوردة للغاز إلى دولة منتجة ومصدرة له، هذا كله يعزز الثقة مع القيادة التركية، بالإضافة إلى تصحيح كل الأخطاء السابقة.
مصدر الصور: رويترز – جلوبال برس.
إقرأ أيضاً: دبلوماسية الاستخبارات التركية: تطوّرات الأدوار والمكانة في سياق عالم متحرّك
كاتب ومفكر – الكويت