على مسافة ثلاثة أشهر ونيف من الاستحقاق الرئاسي تبقى البلاد في الانتظار والاحتضار والانهيار. شلل وجمود وآمال معلّقة على حبال ترسيم الحدود.
أربعة عناوين كبرى تفرض مواعيدها وانتظاراتها على لبنان والأقليم. المفاوضات الأميركية – الإيرانية، الحرب الروسية – الأوكرانية، التطبيع العربي (الخليجي) – الإسرائيلي، الترسيم اللبناني – الإسرائيلي.
تحت هذه العناوين الكبرى تتحرك فرعيات وملحقات وتداعيات وانتظارات مثل الساحتين اللبنانية والسورية. من نافل القول أن لبنان يقع في أسفل سلّم الاهتمامات الدولية والعربية والأوروبية وهو لم يكن يوماً أولوية إلا بمقدار ما تؤثر أحداثه على إسرائيل وأميركا وأوروبا والغرب عموماً وفي الفترة الأخيرة من بوابتين: الجنوب وحزب الله والشرق والنازحين.
أميركا مهجوسة بأمن إسرائيل وأوروبا مهووسة بكابوس النازحين. المكاشفة الشجاعة الصادمة التي أعلنها اللواء عباس إبراهيم من طرابلس – أحد بوابات عبور النازحين واليائسين من لبنانيين وسوريين إلى أوروبا – لم يجرؤ مسؤول لبناني أو دولي على الجهر بها. قال اللواء إبراهيم، مدير الأمن العام اللبناني، أن المجتمع الدولي لا يريد عودة النازحين السوريين إلى ديارهم.
كلام اللواء إبراهيم يؤخذ على أكثر من محمل جدّ واعتبار. فالرجل تنكب مسؤوليات وملفات حساسة من بينها النازحين. هو من بين قلّة يملكون المعطيات التي تخوّلهم رسم خطوط بيانية تصاعدية أو تنازلية ومؤشرات واقعية وموضوعية للمواضيع والمسائل ذات الصلة بلبنان وسوريا والعراق والمنطقة بشكل أشمل.
لم يكن كلام اللواء إبراهيم الصريح الواضح أكثر من كشف أوراق وإعلان نوايا لأميركا وأوروبا ومعهم لفيف من العرب الذين اختباؤا طويلاً وراء معاناة النازحين واللاجئين ليجعلوها اليوم متلازمة مع مأساة اللبنانيين.
في السابق – أي منذ العام 1967 تحديداً – دخل العامل الفلسطيني لاعباً قوياً في اللعبة اللبنانية تحوّل بعد “أيلول الأسود”، العام 1970، إلى لاعب أساسي ومحرّك للموروثات والتناقضات الطائفية في لبنان. وقعت حرب التوطين، العام 1975، بين اللبناني والفلسطيني لكنها تحوّلت نهاية هذا العام المشؤوم إلى حرب طائفية بين المسلمين والمسيحيين، بعد “السبت الأسود” تحديداً. كان واضحاً أن أحد أبرز أهداف الحرب اللبنانية توطين الفلسطيني عبر أضعاف المسيحيين وإثارة المسلمين عليهم تحت عنوان المشاركة والشراكة والامتيازات المارونية. لم يكن عدد الفلسطينيين يومها – وحتى اليوم – يربو على الـ 200 ألف فلسطيني. وصار ما صار.
إقرأ أيضاً: ترحيل اللاجئين من تركيا: ضغط إقتصادي أم تنفيذ للتفاهمات؟!
اليوم وبعد خمسين عاماً، يدخل مليون ونصف مليون نازح سوري إلى لبنان. هم مسلمون سنّة في غالبيتهم. الاختلال الديموغرافي حصل بين المسيحيين والمسلمين منذ الحرب وحتى اليوم. لكن بعد الحرب السورية، الاختلال المذهبي يحصل بين السنّة والشيعة إذا بقي المليون ونصف المليون سوري في لبنان. هو مشروع حرب جديدة من توطين الفلسطيني إلى تجنيس السوريين تحت شعار الوطن البديل.
لم يعد المسيحيون بالقوة التي كانوا عليها يوم واجهوا الفلسطيني، العام 1975، ومنعوا التوطين. لن تكون المعركة بين المسيحيين والسنّة السوريين بل بين الشيعة والسنّة. الشيعة أقوياء بما يكفي لمواجهة إسرائيل والمطلوب استنزاف واضعاف وضرب هذه القوة بمواجهة مذهبية بدأت في المنطقة مع احتلال أفغانستان والعراق وتسعّرت في سوريا وامتدت إلى اليمن ووصلت اليوم إلى لبنان.
كل المطلوب نقل عنوان المعركة من إسرائيلي – عربي إلى عربي – إيراني (أو عربي – فارسي) ومن إسرائيلي – حزب الله إلى سنّي – شيعي داخل لبنان.
لم يكن الغرب مهتماً يوماً بمعاناة شعب أو مجموعة عرقية أو أثنية أو طائفية. تفرّج الغرب – وكان مساهماً أساسياً وفاعلاً ومتدخلاً ومتورطاً – في فييتنام وكوريا والتشيلي والأرجنتين والجزائر وفلسطين والعراق وسوريا ولبنان وتيمور الشرقية وميانمار والسلفادور وبناما ونيكارغوا وكوبا وفنزويلا وأجزاء واسعة من إفريقيا وسقوط الاتحاد السوفياتي وتوريط العراق في الحرب مع ايران ومن ثم اجتياح الكويت واكذوبة القاعدة والعوبة “داعش” واللعنة الكبيرة التي أصابت الوطن الصغير لبنان.
كل ما تريده أميركا الآن ويماشيها الغرب وتراعيها أوروبا التي تحوّلت من القارة العجوز إلى الرجل المريض (التسمية كانت للامبراطورية العثامية اعتباراً من القرن التاسع عشر حتى سقوطها) هو أمن إسرائيل – دأبها دائماً – لكن الهدف الأوسع والأكبر هو الطاقة ومنع “سور الصين العظيم” من التمدد شرقاً وغرباً. استراتيجيتها عزل الصين عبر تحييد ايران وإضعاف روسيا وتفتيت أوروبا وتقسيم الشرق الأوسط والشرق الأدنى وتوسّل التجويع والتطويع والتطبيع والتركيع لإخضاع شعوب المنطقة واختراع أعداء دائمين من أيام الهنود الحمر السكان الأصليين في أميركا الشمالية (والجنوبية) إلى الشيوعيين إلى الإسلاميين.
في العام 2007، قال السفير الأميركي السابق في لبنان، ريتشارد باركر، أن الإدارة الأميركية تخطط لخريطة طريق كبرى للشرق الأوسط تنطلق من تطلعات ممثلي الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية في الشرق الأوسط وتتطلع إلى إقامة أنظمة حكم فدرالية بديلة للأوطان والحكومات القائمة اليوم!!
في العام نفسه، قدّم سيناتور أميركي ديموقراطي توصية بتقسيم العراق إلى 3 مناطق فدرالية باعتبار أن تقسيم العراق هو المدخل الأساسي لانسحاب القوات الأميركية قبل الوصول إلى الفوضى (فلسفة الفوضى رائدها هو وزير الدفاع الأميركي الراحل دونالد رامسفيلد الذي أطلق مقولة أن “تحقيق الأهداف الأميركية ممكن عن طريق الفوضى”) – وقد استوحى السيناتور الأميركي الديموقراطي “اتفاقات دايتون” حول البوسنة التي أقرّت التقسيم بين المتخاصمين الصرب والكروات والبوسنيين – كما استند السيناتور يومها إلى دراسات استراتيجية إسرائيلية اعتبرت ان تقسيم العراق أساسي لأمن إسرائيل.
للتذكير، فإن هذا السيناتور هو اليوم الرئيس الأميركي جو بايدن الذي استقبلته السعودية بإعلان فتح مجالها الجوي أمام شركة “العال” الإسرائيلية واغلاق منافذ النجاة أمام الشعب اللبناني “الشقيق” إلى أن يقبل بترسيم الحدود وفق ما تراه تل أبيب ويستحسنه عاموس هوكشتاين، أو أن يقتل بعضه البعض ويتقاتل ويتذابح.
ولكن، هذه المرة التاريخ لن يعيد نفسه…
مصدر الصورة: العربي الجديد.
جورج ياسمين
إعلامي / مقدّم برامج – لبنان