رفيق خوري*

“آلة الرئاسة سعة الصدر” كما قال علي بن أبي طالب. أما اليوم في بلدان عدة، فإن آلة الرئاسة هي سعة السجون والقبور.

يقول المؤرخ والمستشرق برنارد لويس “الدولة الاسلامية التقليدية أوتوقراطية لكنها ليست ديكتاتورية، لأن أعظم السلاطين كان خاضعاً مثل المحكومين للقانون الإلهي”. وهذا يفتح الباب لنقاش عميق، لماذا يزداد الضغط على الشعوب والتضييق على الأفكار بمقدار ما تتقدم الأزمنة؟ وما الذي يدفع الثوار بعد الوصول إلى الحكم لممارسة القمع والعنف بأقسى من ممارسات الأنظمة التي ثاروا عليها؟

الجواب على الأرض: الإيديولوجيا تبرر كل أشكال العنف والقمع ضد المعارضين، وحتى ضد أي تفكير خارج الصندوق بين الثوار أنفسهم. ومزاوجة الإيديولوجيا والتكنولوجيا تعطي المستبد قدرة على ممارسة دور “الأخ الأكبر” الذي يراقب كل شيء ويبطش بسرعة.

يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتاب “طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد”، إن “السياسة هي إدارة الشؤون العامة بمقتضى الحكمة، والإستبداد هو التصرف بالشؤون العامة بمقتضى الهوى”.

وإذا كان ليو تولستوي يقول “تصوروا جنكيز خان مع هاتف”، فإن الصورة من حولنا هي حكام يملكون أحدث وسائل الرقابة وأقسى وسائل القمع والعنف، حيث تتفوق الإيديولوجيا في الأذى على “الهوى” في إدارة السياسة.

القياصرة ظلموا وسجنوا وقتلوا، لكن لينين وستالين فعلا أكثر بكثير دفاعاً عن الإيديولوجيا والثورة. لينين قال لمفوض العدل “قتل الأبرياء يخيف الناس أكثر”.

ستالين لم يكتفِ بعزل تروتسكي، بل أرسل إلى المكسيك من قتله بضربة فأس، وقال لتشرشل” قتلت خمسة ملايين، وهذا مجرد رقم في حين أنني أحزن لموت رجل أعرفه”.

ملوك الصين لم يصلوا إلى ما فعله ماو تسي تونغ، الذي قتل عشرة ملايين، وماو لم يكن يملك تكنولوجيا مراقبة كل شخص، التي هي في حوزة شي جين بينغ.

الشاه ظلم كل أنواع المعارضة من دون أن يقضي عليها، لكن الخميني ضرب كل القوى التي شاركت في الثورة. وخامنئي يمارس من خلال “ولاية الفقيه” سلطة مطلقة أكبر بكثير من سلطة الشاه.

وبين سجناء الرأي رئيس الوزراء سابقاً والمرشح الرئاسي، حسين موسوي، الذي اعترض على “سرقة” أصواته لمصلحة أحمدي نجاد، وهو يرى “أن الديكتاتورية بإسم الدين أسوأ أنواع القمع”.

وتروي مريم أتاباك أنها تعرضت للقمع لأنها رفضت ارتداء الحجاب في الجمهورية الإسلامية، في حين أن جدتها تعرضت للقمع أيام والد الشاه لأنها رفضت خلع الحجاب.

أين ما فعله نوري السعيد بالعراق والعراقيين مما فعله صدام حسين الذي ألغى كل الأحزاب لمصلحة البعث في حين أنها كانت ناشطة أيام الملكية ونوري السعيد؟ وكيف تمكن المقارنة بين سوريا أيام شكري القوتلي وسوريا أيام أمين الحافظ وصلاح جديد وحافظ الأسد ونجله بشار؟

هل كانت الحياة السياسية أيام الملك فاروق ميتة كما صارت بعد ثورة الضباط الأحرار؟ ماذا عن النظام الشمولي في كوبا حيث حكم كاسترو نصف قرن وهرب ربع الشعب الكوبي إلى فلوريدا وعن النظام الشمولي في نيكاراغوا حيث الثائر القديم هو الرئيس الدائم الذي يمارس أبشع أنواع القمع، ويعين زوجته نائبة للرئيس، مقارنة مع كل سيئات الحكم الديكتاتوري أيام باتيستا وسوموزا؟

المسألة حتى أبعد من العنف والقمع. فليس في روسيا خلال العهد السوفياتي، ومن ثم في عهد بوتين سوى عدد قليل من الروائيين والشعراء المهمين، في حين أن العالم عاش ولا يزال على الأدباء الروس في الماضي؛ تولستوي، دستويفسكي، بوشكين، تشيخوف، غوغول وتورغنيف.

أين كتاب الجمهورية الإسلامية من سعدي وحافظ وبقية الكبار في الأدب الفارسي؟ أليس ما يفعله حكام الأنظمة الشمولية هو إتباع نصيحة ماكيافيللي في كتاب “الأمير” بـ “أن تكون مرهوباً أفضل من أن تكون محبوباً”. وهل كانت حنة ارتدت تتحدث عن خيالات عندما كتبت أن القادة التوتاليتاريين الأكثر نجاحاً في القرن العشرين “يحقنون تابعيهم بمزيج من السذاجة والكلبية لجعل الناس تصدق أي شيء ولا شيء، وتظن أن كل شيء كان ممكناً ولا شيء كان حقيقياً؟”

لكن التجارب أكدت أن الأنظمة الشمولية تسقط من حيث تتصور أنها قوية جداً وعصية على السقوط والتغيير. والتجربة في المعارضة علمت الرئيس التشيكي في ما بعد فاتيسلاف هافل “أن النظام أكثر ضعفاً والأفراد أكثر قوة مما يعرف كل طرف منهما، حيث قوة الذين لا قوة لهم”. حتى في الأنظمة الديمقراطية، فإن القمع له أشكال أخرى.

ففي كتاب “سخط الديمقراطية” يقول البروفسور في هارفارد مايكل ساندل “إن الديمقراطية اليوم غير ممكنة من دون السيطرة على قوى الإقتصاد الكوني، ومن دون ذلك ليس المهم لمن تصوت الناس لأن الشركات الضخمة هي التي تحكم.”

والظاهر، بعد الموجة الثالثة من الديمقراطية، أن العالم يحتاج إلى موجة رابعة.

* رئيس تحرير سابق – عضو في مجلس نقابة الصحافة وإتحاد الكتاب اللبناني.

المصدر: إندبندنت عربية.

مصدر الصورة: موقع درج.

موضوع ذا صلة: خطر “التجنيس السياسي” على الهوية الوطنية لشعوب المنطقة