حيدر مصطفى*
نجحت بعض الدول في الاستثمار بأزمة اللاجئين السوريين بشكل حول الآلاف منهم إلى أوراق سياسية تستخدمها تلك الدول لأهداف عدة في “المقايضات” السياسية على المستوى الخارجي أم الداخلي.
تركيا، على سبيل المثال، استثمرت ورقة اللاجئين في الضغط على الإتحاد الأوروبي وابتزازه غير آبهة بمعاناة الآلاف، من جهة. ومن جهة أخرى، عملت على توطينهم ومنحهم إقامات دائمة وبعضهم حصل على الجنسية وفق معايير حددتها حكومة أنقرة، وبحسب صحيفة “يني شفق”، المقربة من مركز القرار التركي وفي مقال نشرته في يوليو/تموز من العام 2016، فإن منح الجنسية للسوريين سيعمل عليه تدريجياً وسيحصل عليها مبدئياً ما بين 30 إلى 40 ألف سوري، وأن المجموع الكلي الذي سيحصل على الجنسية التركية من السوريين لن يتجاوز 300 ألف، وفي حال كان لديهم عائلات داخل تركيا، سيحصلون هم أيضاً على الجنسية.
وضعت تركيا محددات لحصول السوريين على الجنسية، فلن يتمكن التركي من أصول سورية الاقتراع في الانتخابات على مدى عام من حصوله على الجنسية، وأجرت حكومة رئيس الوزراء بن علي يلدريم تعديلاً على شرط المدة التي يقيم فيها الأجنبي داخل تركيا قبل حصوله على الجنسية بما يخص السوريين فقط، لتكون أقل من خمس سنوات متواصلة، إضافة إلى تسهيل حصول بعض الشخصيات المعارضة على الجنسية التركية بهدف حماياتهم والاستفادة منهم استخباراتياً، كما تقول الصحيفة ايضاً.
ومن الواضح والجلي أن الهدف التركي يذهب في طياته إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فعملية “التتريك” لم تقتصر على اللاجئين السوريين داخل الأراضي التركية، بل امتدت إلى مناطق الشمال السوري التي دخلت إليها أنقرة ونشرت فيها قواتها بالتحالف مع ميليشات متمردة تحت مسمى “درع الفرات”، تنتشر في مناطق شمالي حلب من حدود عفرين إلى جرابلس.
عملية ممنهجة لإفقاد المواطن السوري شعوره بالمواطنة واستغلال حالة الفراغ التي تركها غياب مؤسسات الدولة السورية، من خلال تعويضها بمؤسسات تتبع كليا لإدارة مشتركة سورية تركية، غير رسمية وغير قانونية، وبدأت المدارس والمستشفيات والمراكز الخدمية تعمل بإشراف مباشر من إدارات المحافظات التركية الجنوبية، تميهداً لإفقاد أبناء الشمال السوري لأي ارتباط بوطنهم الأم من خلال إغرائهم ببعض الميزات وبشكل يستغل مأساتهم الإنسانية وأزماتهم المادية، ومن خلال اللعب على وتر الطائفية، بشكل واضح ومكشوف وعلني.
بات السوريون، في الشتات خارج البلاد وداخلها في المناطق المنكوبة التي وضعت تركيا يدها عليها، خلافاً للمواثيق الدولية وبحجة حماياتهم كما تقول أنقرة، يرزحون تحت وطأة الضغوط وضيق الخيارات، وليس من باب التبرير لكن طبيعة متغيرات المرحلة منذ عام 2012 وحتى الآن فرضت عليهم الإنحياز والارتباط بالجانب التركي.
ولم تقتصر مسألة الاستثمار بمعاناة السوريين على تركيا فقط، بل عملت أطراف دولية أخرى على سلب السوريين حقهم في الارتباط بوطنهم. البحرين، على سبيل المثال، استغلت أوضاع الآلاف في مخيم الزعتري في الأردن وعملت على استقطاب نحو 5000 آلاف منهم، من خلال إغرائهم بالمال والسكن والعديد من المزايا مقابل دعم موقف النظام وتوسيع قاعدته الشعبية وتثبيت ركائزه التي أخذت تترنح مع تصاعد الثورة الشعبية عام 2011، وأوكلت مهمة التخطيط للجنة عسكرية بحرينية – سعودية، بحسب معلومات اوردتها صحيفة الأخبار اللبنانية قبل عدة أعوام، مهمتا العمل على اختيار مجموعة من العوائل السورية حصراً “السنية” وإقناعها بضرورة الانتقال إلى البحرين، ويروي العديد من البحرينيين انتشار السوريين في أجهزة الحكومة البحرينية الأمنية والعسكرية.
ويمكن وصف هذه العملية بعملية التجنيس السياسي غير المشروع، وهي إحدى أبرز السياسات أو الوسائل التي استخدمها الاستعمار في دول بلاد الشام والمغرب العربي، لعدة أسباب، وعبر خطط وضعت لاستقطاب أكبر العوائل أو العشائر المؤثرة ومنحها المزايا والمكرمات وجعلها ورقة ضغط على أي حركات معارضة أو توجهات شعبية مناهضة للاستعمار.
صحيح أن هيمنة الاستعمار الغربي المباشرة على الدول العربية، قد انتهت بمعظمهما، حدثت في سبعينيات القرن الماضي، لكن طبائعها وبعض أساليبها التي حكمت فيها دول المنطقة ورثتها لعدد من الانظمة العربية، التي ما زالت تكرر سيناريوهات كانت بعض الدول قد شهدتها في الفترة ما بين عشرينيات وستينيات القرن الماضي.
في العشرين من ديسمبر/كانون الأول من العام 1923، حاولت فرنسا تجنيس التونسيين فضلأ عن تجنيس الجاليات الأوروبية الموجودة في تونس، عبر إصدار قانون أتاح إمكانية الحصول على الجنسية الفرنسية لكل من يقدم طلباً يتبجح فيه للفرنسيين، وأرفق القانون بوعود للراغبين بالجنسية بالحصول على ذات المزايا التي يتمتع فيها المواطن الفرنسي. كان الهدف من عملية “الفرنسة” تلك للتوانسة، الإجهاز على الهوية الوطنية التونسية بشكل قانوني، لإتمام عملية الدمج والإتباع المفروض بالقوة.(1)
من هذه الخلفية التاريخية يمكن القول أن عملية “التجنيس السياسي” هي سياسة طالما اتبعتها الكثير من الأنظمة الفاقدة للشرعية الشعبية بما تعنيه الكلمة من معنى، سواء كانت أنظمة محلية ام عابرة لحدود الدول “أي الاستعمارية”، في محاولة لخلق قواعد شعبية وتلميع صورتها أمام الرأي العام والمجتمع الدولي، وتقديم نفسها بصورة تجمع في عناصرها صفاتها الدعائية الكاذبة، الديمقراطية، السعي للسلام، احترام مبادئ التعايش السلمي، واحترام حقوق الإنسان.
الى ذلك، تظهر العديد من التقارير أن دولاً صغيرة، كالبحرين وقطر ومعها الإمارات، مارست عملية التجنيس السياسي بكثرة في الآونة الأخيرة، ولم تصل بعد إلى حد إشباع مجتمعاتها بآلاف القادمين من أفريقيا وآسيا وغيرهم، بالرغم من محاولاتها الفاشلة لدمجهم في المجتمعات المحلية، ووفق استراتيجيات ضعيفة لم تحسب حساب التداعيات التي قد تتسبب بها عملية التجنيس السياسي:
– استقدام مواطنين وتجنيسهم في هوية معينة لا ينتمون إليها، يؤثر على الهوية الوطنية ويعرض المواطنين الأصليين في دول الخليج وغيرها لخطر كبير مع مرور الزمن.
– إن المواطنين الأصليين بدأوا يتلمسون خطر عملية التجنيس، نظراً لما تمنحه تلك الأنظمة من ميزات للمجنسين وتفضيلهم على السكان الأصليين في الوظائف والسكن.
– تحولت مسألة التجنيس من حق قانوني، نظمه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 15 منه والصادر عام 1984 ويقضي بأن لكل إنسان الحق في الحصول على جنسية، إلى وسيلة ابتزاز سياسي تضغط فيها الانظمة الشمولية على شعوبها المناوئة لها بالنسبة الأكبر.
– بعض الأنظمة الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط استخدمت ورقة المجنسين للضغط والابتزاز المالي والسياسي، فالكويت جنست في ستينيات القرن الماضي الآلاف من سكان بادية الشام والعراق والسعودية، بهدف قلب المعادلة على المعارضة التي كانت في أوجها آنذاك.
حديثاً، استخدمت قطر ذات الورقة، كما تتهمها الدولية الخليجية، بسبب تجنيسها لأعداد من البحرينيين وغيرهم، ومنحت الحكومة القطرية آلاف الأجانب والمقيمين العرب على أرضها الجنسية القطرية خلال العقدين الماضيين. البحرين أيضاً، شرّعت عملية التجنيس في قفزة من فوق القانون كما هو الحال في كل البلاد العربية، الحاكم يقفز كيفما يشاء وفي أي اتجاه يشاء، فقانون الجنسية لسنة 1963 يعطي الملك حق منح الجنسية لمن يأمر بمنحها له، في الحالات الاستثنائية، فالقانون ينظم عملية منح الجنسية للمقيمن لمدة 15 عاماً بالنسبة للعرب و25 سنة لغير العرب، إلا أن الإحصائيات تكشف عن وجود آلاف الحالات الاستثنائية في البحرين، وآخر الأرقام تتحدث عن وجود أكثر من 100 ألف مجنس في البحرين، وابرزها:
– مؤسسة القرن المقبل قالت إن البحرين جنست أكثر من 60 ألف عربي وأجنبي منذ 2001 وحتى 2011، إلا أن الرقم ارتفع أكثر من ذلك بكثير.
– السفير الباكستاني في المنامة جافيد ماليك، قال إن عدد الباكستانيين في البحرين يبلغ نحو مئة ألف وتشير مصادر إعلامية معارضة إلى احتمالية تجنيس معظمهم.
– يبلغ عدد السودانيين المجنسين نحو 7 آلاف سوداني بحسب القائم بأعمال السفير السوداني في المنامة محمد المعتز جعفر.
– البحرين جنست أيضاً نحو 30 ألف يمني، بحسب معلومات النشطاء السعوديين المتداولة في الآونة الأخيرة.
وفق هذه المعطيات، يمكن إدراك حجم الخطر القائم على الهوية الوطنية لدول المنطقة، بسبب سياسات بعض الأنظمة التي فضلت استخدام الوسائل غير المشروعة في مناكفاتها السياسية مع خصومها، عوضاً عن الحفاظ على حقوق مواطنيها الأصليين، في سبيل إجراء عمليات تغيير ديمغرافي ظناً منها بأن شراء الذمم قد يطيل أمد حكمها، وفي الواقع هي تزيد من حجم أعبائها الاقتصادية وتأزم أزماتها المجتمعية.
*كاتب واعلامي سوري
المراجع:
(1) الحركة العمالية في تونس 1924- 1956: نشأتها ودورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
(2) أنور الرشيد. منتدى حوار الخليج.
مصدر الصور: الغد – الوطن اونلاين – تركيا الآن – قناة العالم – دي دبليو الالمانية.