محمد كريم الخاقاني*

تصدرت أخبار العراق وكالات الأنباء الدولية والعربية على مدى الأسبوعين الماضيين وذلك بسبب الزيارات الرسمية من وإلى بغداد، بالإضافة إلى الصدى الواسع لزيارة السيد رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، للعاصمة الأمريكية. مجمل تلك الزيارات، تُنبئ عن دور مرتقب للعراق في ظل تطورات الأوضاع في المنطقة وما أسفرت عنه من توقيع إتفاقيات مهمة في مختلف المجالات الأمنية والإقتصادية والسياسية وغيرها مما تعكس اهمية إستراتيجية للعراق في التفاعلات المقبلة.

فبعد زيارته إلى واشنطن وما تمخض عنها من نتائج على مستوى العلاقة الثنائية وتوسيع آفاق التعاون في الجانب الأمني والإقتصادي والتعليمي كمخرجات للجولة الأولى من الحوار الإستراتيجي الأمريكي المنعقدة في يونيو/حزيران 2020، أعلن الرئيس الكاظمي عن تجمع ثلاثي يضم فضلاً عن العراق، مصر والمملكة الأردنية الهاشمية، كاشفاً عن مبادرة “المشرق الجديد” كرؤية مستقبلية تضم تلك الدول وتكاملها إقتصادياً وأمنياً والإستفادة من تجارب بعضها في مكافحة الإرهاب وفي مختلف القطاعات وخاصة في قطاع الإعمار.

إن مشروع “المشرق الجديد”، الذي طرحه الرئيس الكاظمي، يؤسس لمرحلة مقبلة في التفاهم العربي المشترك ليكون نواة لتفاهم أكبر وأوسع، خصوصاً وأن العراق، عبر هذا المشروع، يطرح فكرة التكامل الإقتصادي والإقليمي ليكون أساس للتشابك العربي المقبل في جميع المجالات وإن اقتصرت على المجال الإقتصادي حالياً، إذ سيتم ربط كل من العراق والأردن ومصر بخط النفط الواصل إلى ميناء العقبة ومنه إلى مصر، وهذا يعني تشغيل الخط البديل لنقل النفط العراقي في حالة قطع إمداداته عبر الخطوط التقليدية؛ بالتالي، ستوفر مصادر تمويل وزيادة في الإنتاج، وسيعمل هذا الخط على تجنب التقلبات والعقبات التي قد تعمل على عرقلة وصول النفط العراقي عبر الخليج العربي، كالتهديدات المستمرة بغلق مضيق هرمز، الشريان الرئيس لإمدادات ونقل النفط للعراق ودول الخليج، ومن دون شك سيسهم ذلك في عملية تطوير وتفعيل الإقتصاد وتشجيع القطاع الخاص وأخذ دوره في عملية التنمية، فضلاً عن إستفادة الأردن من هذا التفاهم المشترك من خلال سد إحتياجاته من الوقود داخلياً، ونقل الطاقة الكهربائية إلى العراق. أما وبخصوص مصر، فسيساعد الإتفاق الثلاثي على تشجيع الشركات المصرية على الإستثمار في العراق ونقل خبراتها في المجالات المختلفة.

يأتي توقيت الإعلان عن الإتفاق الثلاثي في وقت تشهد المنطقة تفاعلات سياسية غير مسبوقة تمثلت مؤخراً في إتفاق التطبيع بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، وإنعكاساته على القضية الفلسطينية، مع أزمات متعددة ينبغي وضع الحلول بشأنها وبالخصوص في سوريا واليمن وليبيا ولبنان.

ومن أجل إستعادة المكانة التي يستحقها العراق في التفاعلات في المنطقة، يجب أن تؤمن الدول بإن العراق ليس ساحة للتنافس بين مختلف المحاور أي أنه ليس المكان المفضل للتصارع، وهذه النظرة ستكون الأساس في جعل بغداد تنطلق بمشروعها الجديد ليكون قادراً على تصحيح الأوضاع والوفاء بمتطلبات الإلتزامات المقبلة، وهي جزء من إيمان المجتمع الدولي بقدرتها على إداء الدور من دون إنحياز لمحور دون آخر.

إن الزيارات المكوكية تدل على نتيجة واحدة تتمثل في تأسيس واقع جديد يكون العراق فيه محور التفاعلات القادمة عبر إبتعاده عن سياسة المحاور. وتدعم عدة مؤشرات رؤية الرئيس الكاظمي في الإنطلاق لوضع مقررات المشروع الجديد موضع التطبيق، منها الدعم الشعبي الذي يحظى به منذ توليه رئاسة الحكومة في مايو/أيار2020، وخطواته الإصلاحية في هذا المجال ومنها محاربة الفساد، وكذلك الدعم العربي والإنفتاح الخارجي على العراق وذلك من خلال الزيارات الأخيرة، كزيارة وزير الخارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان مؤخراً إلى بغداد والتي تعتبر خطوة مهمة تترجم على أنها ترحيب عربي بعودة العراق ودوره الريادي في المنطقة، فضلاً عن زيارة وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، وهذا بالتأكيد يعطي جرعة مضاعفة لجهود العراق للعودة إلى محيطه الإقليمي وتأسيس مرحلة جديدة تكون عمادها النأي عن التدخلات والإبتعاد عن سياسة المحاور في المنطقة والتي انعكست عليه سلباً لا سيما على الواقعين الأمني والسياسي.

كل ذلك يعني قيام العراق بإنتهاج سياسة خارجية تتلائم مع متغيرات التفاعلات الحاصلة في المنطقة وبشكل يُمكن له ضبط إيقاع كل من تركيا وإيران بما يحقق التوازن المطلوب. ففسحة التوظيف الفاعل والإدراك العراقي لمحورية دوره ستضغط عليهما وهذا سيعود عليه بالنفع لجهود تحقيق مصالحه حيث أنه سيدفع كل من طهران وأنقرة إلى مراجعة سياساتهما تجاهه خصوصاً مع التدخل العسكري التركي على أراضيه والتلويح بورقة المياه، سواء من قبل تركيا أم إيران.

وبنظرة إقليمية، نرى بأن الوضع في المنطقة يتأرجح وهو مرشح للتصاعد. ففي لبنان، يتأرجح الوضع السياسي فيها، ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، خصوصاً لجهة مطالبة الشعب بجملة إصلاحات أساسية قد تعيد تشكيل الخارطة السياسية للواقع المتردي إقتصادياً، إذ تعيش البلاد تدهوراً على جميع المستويات لم تألفها منذ الحرب الأهلية، التي انتهت بتوقيع إتفاق الطائف العام 1989، لا سيما لجهة توزيع “مغانم” البلاد بين القوى والفصائل السياسية التي لا زالت مستمرة بنفس نهج التوزيع المحاصصاتي. إن الشعارات التي رفعتها الجماهير اللبنانية لم تكن إلا تجسيداً لما آلت اليه الأوضاع الداخلية وتدهورها في ظل أزمات صحية متفاقمة بسبب جائحة “كورونا”، فضلاً عن إنخفاض غير مسبوق في سعر الليرة وإمتعاض الجماهير من إداء الطبقة السياسية، جميعها من دون إستثناء.

يضاف إلى ذلك، تداعيات تفجير مرفأ بيروت الهائل، 4 أغسطس/آب 2020، والتي لا تزال خيوط اللعبة والأطراف التي وقفت وراء التخطيط والتنفيذ لمثل هكذا أعمال مبهمة حيث لم تتوصل التحقيقات الرسمية لنتائج قاطعة عن مسؤولية أي من الأطراف عنه مع تزايد نفوذ وتصارع غير مسبوق على البوابة اللبنانية خصوصاً دولية، كفرنسا التي تحاول إسترجاع إرثها الإستعماري في بيروت، وما زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلا دليلاً لتلك التحركات، ناهيك عن زيادة حدة الصراع الإقليمي بين دول المنطقة على تثبيت حدود نفوذها في بيروت إذ ينحصر الصراع بين إيران والسعودية من أجل تحديد مناطق النفوذ، مع سعي تركي حثيث لتدعيم نفوذه في سوريا ونقل حركاته المقبلة إلى لبنان وإتساع معركة تحديد حدود نفوذهم في شرق المتوسط مع إشارات مؤخراً بإكتشاف هائل للطاقة فيها.

كل ذلك، يعكس صورة ما يجري في المنطقة، سواء في لبنان أم في غيرها من الدول، لا سيما مع تزايد دخول الدول الإقليمية المتصاعد لتأسيس حدود جديدة ورسم خارطة لتقاسم النفوذ بينها، فضلاً عن تطورات في الأزمتين السورية واليمنية. إن تشابك الأوضاع يزيد من تفاقم المشكلات التي تعاني منها المنطقة؛ وبالتالي، كان لا بد من التفكير بحلول خارج الصندوق وبالطريقة التقليدية، فكان مشروع “المشرق الجديد” الرؤية التي تعتمد بالأساس على نوايا الدول المنضمة إليه، وهي حتماً ستؤسس لبدايات مرحلة مختلفة كلياً عما سبقها من مشاريع تتعلق برؤية موحدة للأمن الإقليمي وإنعكاساته مستقبلاً على أي منها، مع إحتمالية ضم دول أخرى في حالة نجاح المشروع.

*أكاديمي وباحث في الشأن السياسي – العراق.

مصدر الصور: وكالة بترا – راديو سوا.

موضوع ذا صلة: تفاصيل زيارة الكاظمي إلى واشنطن