لا يزال الغموض يحيط نسبياً بالسياسة التي ستنتهجها الإدارة الأمريكية القادمة للرئيس المنتخب، جو بايدن، إزاء سوريا. وقد ترسم معالمها خمسة عوامل متناقضة.
أولاً، لم تكن سوريا قط في الواقع من أولويات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ويبدو أن تجديد الإطار الدولي لوقف البرنامج النووي الإيراني هو الهدف الأول لبايدن في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، أدى التعهد المتكرر بـ “إنهاء الحروب التي لا نهاية لها” إلى خلق توافق آراء أمريكي واسع النطاق ضد وجود بصمة أكبر في الخارج، وستؤدي جائحة الفيروس التاجي إلى مزيد من التقليل في النطاق الترددي للبيت الأبيض فيما يتعلق بسوريا.
ثانياً، فقدت الولايات المتحدة نفوذاً كبيراً في سوريا بسبب سياسات إدارتي الرئيسين، باراك أوباما ودونالد ترامب. على سبيل المثال، عندما واجهت عملية تركية من عبر الحدود في الشمال الشرقي من البلاد أواخر العام الماضي 2019، إنسحبت القوات الأمريكية جزئياً، مما أدى إلى عدم وضوح الخطوط الأمامية التي كانت مستقرة سابقاً بين القوات الروسية والتركية والأمريكية.
ثالثاً، أشاد بايدن بموقف القوة المحدود الذي تتخذه الولايات المتحدة في شمال شرق سوريا. وعلى عكس الديمقراطيين البارزين الآخرين، يعتبر أن إستراتيجية “عبر، ومع، ومن خلال” المستخدمة ضد تنظيم “داعش” لا تزال نموذجاً جيداً عن عمل الجيش الأمريكي في الشرق الأوسط. وقد يشير ذلك إلى استعداده للإحتفاظ بوحدة صغيرة على أرض الميدان لدعم الشركاء المحليين.
رابعاً، تحدثت شخصيات بارزة في حملة بايدن، بمن فيها مرشحه الحالي لوزير الخارجية توني بلينكين، ومرشحه لمنصب مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، علناً عن الأخطاء التي إرتكبت في سوريا خلال إدارة الرئيس أوباما. ويجدر بالذكر أن بلينكين كان قد صرح بأنه لا يستطيع تخيل إعتماد سياسة إعادة التعامل مع (الرئيس) بشار الأسد.
خامساً، عندما أقر المشرعون الأمريكيون “قانون قيصر”، 2019، عملوا على بناء آليات تهدف إلى مقاومة التغيير من قبل الإدارات الأمريكية المستقبلية. لذلك، من المرجح أن تستمر العقوبات الإقتصادية التي تستهدف نظام (الرئيس) الأسد.
للوهلة الأولى، لا يبدو أن هذه العوامل تترك مجالاً كبيراً لإستراتيجية جديدة بشكل خاص تجاه سوريا، مما يشير إلى أن سياسة الوضع الراهن ستستمر. ومع ذلك، تتمتع واشنطن بنفوذ أكبر مما تدركه، طالما أنها مستعدة للتخلي عن منطق الغنهزام الذاتي الذي ساد في السنوات الأخيرة.
كيف يمكن لبايدن تغيير الوضع الراهن في سوريا؟
إن أحد الشروط الأساسية لكسر الجمود الدبلوماسي هو الإقرار بأن الولايات المتحدة لا تملك الوسائل أو الطموح لحل الأزمة السورية بمفردها، سواء من خلال التدخل العسكري أو عقد صفقة كبرى مع روسيا وتركيا. ومع ذلك، يمكن لواشنطن أن تحقق أهدافاً أكثر تحديداً، مثل تحسين الوضع الإنساني، وإعادة تشكيل إطار الأمم المتحدة للمفاوضات بين الأطراف السورية، ومنع الأعمال العدائية الجديدة في شمال البلاد.
ويتمثل الشرط الثاني بالجمع بشكل أفضل بين المصادر المتباينة للنفوذ الأمريكي. فالمشهد السياسي في سوريا مجزأ للغاية، لذلك سيتعين على فريق بايدن تقديم أداء أفضل من خلال الجمع بين الأمور المالية والقانونية والدبلوماسية والسياسية التي كان يتم التعاطي معها سابقاً بشكل منفصل أو تم تجاهلها.
الشرط الثالث هو إعادة إدخال بعض الطاقة الدبلوماسية في السياسة السورية. لقد تعهد بايدن بإستعادة القيادة الأمريكية، وإعادة بناء التحالفات، والعمل بشكل أوثق مع الشركاء الأجانب بشكل عام، وأحد الأشكال الواضحة للقيام بذلك في سوريا هو ما يسمى بـ “المجموعة الصغيرة”، التي تضم بريطانيا ومصر وفرنسا وألمانيا والأردن والمملكة العربية السعودية. وقد غجتمعت هذه المجموعة بإنتظام، لكن إدارة الرئيس ترامب كانت مترددة في الإستثمار فيها، محرزة القليل من التقدم الملحوظ في تنسيق جهد قوي رفيع المستوى لإصلاح عملية الأمم المتحدة أو التعامل مع روسيا وتركيا وإيران.
أجندة قصيرة الأجل لـ “المجموعة الصغيرة”
يجدر بـ “المجموعة الصغيرة” الإجتماع بسرعة بعد إقرار تعيين وزير الخارجية الجديد في إدارة بايدن. وفي ذلك الإجتماع الأول، من الضروري أن يعمل المسؤولون على تقييم مسؤولية روسيا وإيران وتركيا عن الوضع الميداني الراهن وجمود الأمم المتحدة. وبعد ذلك، عليهم منح الأولوية لـ “الصبر الإستراتيجي”، والتركيز في الوقت الحالي على تأكيد المواقف المشتركة التالية بدلاً من محاولة صياغة استراتيجية جديدة كبرى لسوريا:
1. تحديد موعد نهائي للجنة الدستورية. بعد أكثر من عام على قيام هذه اللجنة بقيادة الأمم المتحدة لم تسفر (أعمالها) عن نتائج ملموسة. وعلى الرغم من النواقص التي تشوبها وفرص نجاحها المحدودة، كانت فكرة إنشاء اللجنة تستحق التجربة ولو كان ذلك فقط لمنع روسيا من إستغلال العملية الدبلوماسية وإعادة نظام (الرئيس) الأسد إلى حالته الطبيعية دون معالجة أي من الأسباب الجذرية للحرب. ومع ذلك، عرقل النظام السوري بإستمرار جهود اللجنة لعدة أشهر على أمل أن يتمكن (الرئيس) الأسد من “الفوز” في الإنتخابات الرئاسية لعام 2021 بموجب الدستور الحالي. وما لم تحقق اللجنة تقدماً كبيراً خلال جلستها المقبلة (المقرر عقدها في 25 كانون الثاني/يناير 2021)، سيكون من الحكمة أن تحدد الولايات المتحدة وحلفاؤها تاريخ إنتهاء مهمتها، والدعوة إلى حلها إذا لم تتوصل إلى نتائج ملموسة في غضون بضعة أشهر.
2. حث الأمم المتحدة على إعداد آلية مراقبة محكمة للإنتخابات السورية في 2021، بالإضافة إلى توفير خيارات آمنة ومحايدة للسوريين في الخارج لكي يشاركوا في الإنتخابات. من غير المرجح أن يوافق النظام السوري على مراقبة الأمم المتحدة للإنتخابات، لكن إعداد مثل هذه الآلية أمر مهم لتوضيح ما تعنيه النتيجة. أي أنه إذا رفض النظام المراقبة، فإن ذلك سيقوّض شرعية “الفوز” المفترض لـ (الرئيس) الأسد؛ أما إذا سمح بها، فمن المحتمل أن توضح النتائج المسجلة أن الإنتخابات كانت مزورة.
3. تسريع المصالحة الكردية. في الآونة الأخيرة، إنخرط مقاتلون كرد سوريون في إشتباكات حدودية مع القوات الكردية العراقية. وتظهر مثل هذه الحوادث أن تحقيق الإستقرار في شمال شرق سوريا لن يكون ممكناً إلا من خلال بذل جهود على مستوى رفيع لحل الخلافات بين الفصائل الكردية المتناحرة وإستبعاد الأعضاء غير السوريين في قوات سوريا الديمقراطية – قسد. وقد أرسلت فرنسا والولايات المتحدة مبعوثين خاصين بشكل منفصل للوساطة بين “قسد” والمجلس الوطني الكردي، المدعوم من تركيا، لكن من الضروري (الاتفاق على) المزيد من التنسيق والضغط السياسي. وقد بدأ الوقت ينفد نظراً لخطر قيام تركيا بشن هجوم آخر، لذلك على “المجموعة الصغيرة” أن توضح لقادة “قسد” أنه يتعين عليهم الإمتثال في وقت قريب. ومن بين الضرورات الأخرى، يعني ذلك منح أنقرة ضمانات أقوى بأنها ستفصل “قسد” عن حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا.
4. الضغط على تركيا لإحتواء الجهاديين. في وقت سابق من هذا الشهر، أفادت بعض التقارير أن الجهادي البارز المرتبط بتنظيم “القاعدة”، عبد الله بن محمد المحيسني، التقى مع جماعة “فيلق الشام”، المدعومة من تركيا، في منطقة عفرين في شمال غرب سوريا. ومثل هذه الحوادث يجب أن تحفز “المجموعة الصغيرة” على معارضة أي تواطؤ بين شركاء تركيا والعناصر الجهادية بشكل علني؛ وخلاف ذلك، فمن الممكن أن تصبح أجزاء كبيرة من شمال سوريا ملاذات آمنة لمنتسبي تنظيمي “القاعدة” و”داعش”.
5. إشراك “قسد” في عملية الأمم المتحدة كجزء من المعارضة السورية. بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 2254، يميل المسؤولون إلى المساواة بين المعارضة والهيئة العليا للمفاوضات، التي يهيمن عليها الإئتلاف الوطني السوري. وقد دفعت هذه المقاربة بالمبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسن، إلى إستبعاد “قسد” من العملية الدبلوماسية التي ترعاها الأمم المتحدة. ومع ذلك، فإن الإئتلاف الوطني السوري و”قسد” بحاجة ماسة إلى التوصل إلى ترتيب يمكنهما بموجبه استعادة نفوذهما الدبلوماسي والإقليمي، وفي الوقت نفسه منع دمشق وموسكو من إرغام “قسد” على عقد صفقة مع نظام (الرئيس) الأسد. وقد سبق أن إستضافت مصر محادثات بين “قسد” وما يسمى بـ “مجموعة القاهرة”، وهي فصيل أقلية ضمن الإئتلاف الوطني السوري. كما تم أيضاً إشراك أفراد من المعارضة. بإمكان جهد مشترك من قبل دول “المجموعة الصغيرة” أن يساعد في تنشيط هذه العملية.
6. إصلاح إطار العمل الإنساني وزيادة المساعدات. إن (الدول) الأعضاء في “المجموعة الصغيرة” هي من بين أكبر الجهات المانحة الإنسانية للسوريين المحتاجين، لذلك لديها نفوذ كبير للضغط على المنظمات غير الحكومية الدولية ووكالات الأمم المتحدة في دمشق لمواجهة إختطاف النظام للمساعدات. عليها أيضاً إعداد بدائل مشتركة لإطار عمل الأمم المتحدة في حالة عدم تجديد القرار الخاص بالدعم الإنساني عبر الحدود في يوليو/تموز 2021. وعلى افتراض أن يتم إصلاح الإطار، يجب تشجيع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على توفير تمويل إضافي للعمليات الإنسانية (حتى الآن لم يتم تحقيق سوى 40% من هدف التمويل لعام 2020). بالإضافة إلى ذلك، من شأن التعاون الوثيق مع الجهات الفاعلة الإنسانية أن يساعد على التخفيف من مشكلة إمتثال المصارف المفرط للعقوبات. وعلى الرغم من أن “قانون قيصر” والإجراءات المماثلة تستهدف مسؤولي النظام وتشمل العديد من الإستثناءات الإنسانية، إلا أن المؤسسات المالية الدولية غالباً ما تخطئ عندما يتعلق الأمر بالحذر والإفراط في الامتثال لهذه القيود، مما يخلق بصورة غير مباشرة عقبات خطيرة للعمليات الإنسانية.
7. النظر في السماح بمشاريع “التعافي المبكر” في المناطق التي يسيطر عليها النظام وبذل المزيد من الجهود لإرساء الاستقرار في شمال سوريا. بدلاً من أن تركز الجهات المانحة حصراً على الإغاثة في حالات الطوارئ، عليها زيادة إمكانية تقديم الأموال إلى مشاريع أخرى استناداً إلى وضع كل منطقة. على سبيل المثال، إذا أثبتت “المجموعة الصغيرة” قدرتها على التوسط لإحراز تقدم بين “قسد” وتركيا، بإمكان الأعضاء الأوروبيين القيام بالمثل من خلال تعزيز مساهماتهم في جهود تحقيق الإستقرار في شمال سوريا، والتي تشمل الأراضي التي تسيطر عليها تركيا. وبالمثل، يمكن للأعضاء عرض تمويل إصلاحات البنية التحتية الأساسية في المناطق التي يسيطر عليها النظام إذا وافقت دمشق على تقليل هجماتها العسكرية وتدخلها في العمليات الإنسانية. وقد يكون هذا حافزاً جذاباً بشكل خاص للنظام في الوقت الذي حتى جمهوره الموالي يعاني من الأزمات الاقتصادية والصحية.
8. إعادة التأكيد على شروط إعادة الإعمار. لطالما اشترطت الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي تمويلهما لمشاريع إعادة الإعمار على إحراز تقدم ملموس في العملية السياسية، لكن روسيا تضغط على الدول الأوروبية لتغيير هذه السياسة. ولذلك ينبغي على”المجموعة الصغيرة” أن تجدد التزامها بالشروط.
9. تعزيز التعاون ضد مجرمي الحرب. تثبت قضايا المحاكم الأخيرة في ألمانيا أن بإمكان السلطات العثور على المسؤولين السوريين السابقين المتهمين بإرتكاب جرائم حرب ومحاكمتهم. وبالمثل، قررت هولندا تحميل دمشق المسؤولية القانونية عن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بموجب “إتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب”. وفي المرحلة القادمة، يجب على أعضاء “المجموعة الصغيرة” تعزيز التعاون القضائي وتوسيع الدعم للمنظمات غير الحكومية السورية التي تركز على جمع الأدلة ومساعدة الضحايا.
10. تذكير النظام بالإجراءات قصيرة المدى التي يمكن أن تكسر الجمود. على الرغم من أنه من غير المرجح أن ينخرط (الرئيس) الأسد في عملية بناء ثقة تدريجية نحو إجراء مفاوضات محتملة، إلا أنه مع ذلك يتعين على “المجموعة الصغيرة” أن توضح الخطوات التي يمكن أن يتخذها للإشارة إلى إهتمامه (بقرار) آخر غير الحل العسكري الفعلي والعزلة الدولية المستمرة. وتشمل هذه الخطوات إطلاق سراح السجناء السياسيين، ووقف إعتقالات اللاجئين العائدين، وإنهاء الضربات الجوية ضد المنشآت المدنية.
وفي النهاية، فإن التوصل إلى حل وسط مع روسيا هي الطريقة الوحيدة لتحقيق نتيجة تفاوضية في سوريا، بما أن موسكو اكتسبت تأثيراً كبيراً من خلال إطار “عملية أستانا” وعلاقاتها الثنائية مع تركيا وإيران. وحالما تعزز “المجموعة الصغيرة” نفوذها من خلال تنفيذ جدول الأعمال قصير المدى الموصوف أعلاه، (فعندئذ) يمكنها متابعة الهدف متوسط المدى المتمثل في دمج جهودها مع صيغة “عملية أستانا”. وقد يساعد ذلك المجموعة على فتح مفاوضات أكثر عالمية، وتنشيط عملية الأمم المتحدة، وتقييم ما إذا كانت مستعدة وقادرة على إستضافة محادثات جوهرية بين السوريين أنفسهم. ويمكن للتطورات على الجبهات الأخرى، ربما من خلال البرنامج النووي الإيراني، أن تسهل هذه العملية.
وستتطلب جميع هذه النقاط إجراء مفاوضات صعبة، لذا لا يمكن تحقيق تقدم سوى من خلال وجود قيادة أمريكية قوية قائمة على عملية حقيقية متعددة الأطراف. والخطوة الأولى في هذا الإتجاه واضحة، وتتمثل بإستخدام الزخم الذي منحه حفل التنصيب القادم للرئيس الأمريكي المنتخب للتأكيد لدمشق وموسكو وطهران بأن إستراتيجيتها الحالية المتمثلة بإنتظار تبلور الأمور في الولايات المتحدة لن تنجح.
*العنوان الأساسي: “أجندة دبلوماسية قصيرة المدى لِلُغز السوري”
**دبلوماسي فرنسي وباحث زميل زائر في معهد واشنطن.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى.
مصدر الصور: نيويورك تايمز – سبوتنيك.
موضوع ذا صلة: أي دبلوماسية أمريكية للكرد في سوريا؟