د. عبدالله الأشعل*
تردد هذا المفهوم بشدة في مختلف الدول العربية وبين الكثير من نخبها وتحت عناوين مختلفة. العنوان الأول، أن الشعوب العربية لا تصلح للديمقراطية ولذلك فإن الحكم المستبد هو الأصلح لها لأنها لا تزال قاصرة لا تعرف مصالحها وليست ناضجة حتى تمارس الحرية ومتطلبات الديمقراطية وأن يملك كل مواطن صوته ويعرف كيف يتعامل معه. فالمواطن يعطى صوته في إنتخابات شكلية لمن تريده السلطة أو لمن يدفع له حوافز أكبر ولمن إرتفعت وعوده حتى أدخلت الناخب إلى مرحلة الأحلام.
وتفكيكاً لهذا “الإفك” السياسي، دعنا نحلل الأسباب التي تعوق الديمقراطية، حيث تشير كل الدلائل على أن السلطة هي التي تقوم بالتزوير من كل نوع، تزوير إرادة وبيانات ومعلومات حتى تزوير في الترشيح وكبت حريات المرشح والناخب، ويعد هذا الإفتراء بمثابة تحميل الضحية المسؤولية بينما الجاني الحقيقي أي السلطة.
أما العنوان الثاني من المقولة فيتمحور حول سلوكيات السلطة العربية، التي تعتبر الشعب مجموعة من “القطيع”. فإذا إختير أحد أبناء الشعب عضواً في “العصابة” (أقصد وزيراً في الحكومة)، فلابد أن يكون له تاريخ حافل بالفساد والجهل والإنحراف بحيث يكون قدر الوزير في الوزارة ورتبته بقدر فساده وإسهامه في تلك المنظومة الفاسدة.
فقد تغنى اللواء عمر سليمان، مدير المخابرات في عصر الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، بهذه المقولة وصارت حكمة يرددها الكثيرون دون أن تفطِن النخب إلى أن البديل عن الديمقراطية هو إستمرار الإستبداد والفساد. وهذا البديل، هو تبرير للدكتاتورية التي تجبر الشعوب على تغيير خصائصها، فتقتل في الفرد إنسانيته ويصيح ضمن عداد الإنسان بالإسم، في حين أنهم يتحولون إلى حيوانات بيولوجية.
والغريب أنني لم أجد تعليقاً على هذه المقولة، ولم يقل لنا أحد ممن يفرضون هذا الإتجاه، ومن إرتكب جريمة أن الشعب لم يعد يصلح الديمقراطية، وهل خُلق الشعب هكذا أم أن الشعوب جميعاً تولد في ظروف مختلفة ونُظم الحكم هي التي ترتكب هذه الجريمة، وما كان لأحد ممن يبررون جريمتهم أن يستمر في منصبة لولا إتخاذه كل التدابير التي تقمع المواطن و”تستبقره”، وفق مصطلح الشاعر السوري الراحل نزار قباني. فصار الشعب مستقراً، والحاكم يركب البقر تكرماً منه ووفاء لهذا الشعب المستبقر. “كلما فكرت في أعتزال السلطة ينهاني ضميري”، هكذا يقول الحاكم لنفسه. يا ترى من يركب البقر ويصلبهم ويعذبهم ويشنقهم، يبقى إنشغاله في إيجاد خليفة له ليركب البقر؟
لقد “تفلسف” رجال هذا الإتجاه الظالم فأشاعوا أن بعض الشعوب، لا المنطقة، لا يصلح معها سوى الحكم الضعيف الظالم. قالوا ذلك عندما سقط الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، ومات الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، بل برر هذا الفريق الحكم الدموي العسكري لأن السياسة واللين مع الشعوب يؤديان إلى الفوضى. ولكن هل يصلح “الحكم المستبد” لتدريب الشعوب على الحكم الديمقراطي وهو نفسه يحتاج إلى طبيب نفسي بعقده وإخفاقاته؟
في هذا الشأن، لو كان الرئيس عبد الناصر إستولى على السلطة وسلمها لحكم مدني رشيد، لأثمرت التجربة الديمقراطية بعد كل هذه السنوات. لكن الرئيس الراحل، أنور السادات، إدعى زوراً أنه ينشئ نظاماً ديمقراطياً وهو نفسه لم يتربى تربية ديمقراطية، و”فاقد الشئ لا يعطيه”. الثابت لدينا أن دساتير العهد العسكري تحدث عن الديمقراطية بأريحية شديدة، لكن الواقع لا يزال يكذب النصوص.
لقد زعم بعض من النخبة، التي بررت الإستبداد وأجلت تحقيق الديمقراطية، أن الشعب يحتاج إلى إستعداد لتقبل قيم الديمقراطية. من هنا برر هذا الفريق الإستبداد بالشعوب العربية وهذا راجع إلى أن الحاكم العربي، أياً كان، لم يعتد بالشعب، فهو يأنف أن يختاره بل يأنف أن يخرج منه من يرشِّد الحاكم ويشير عليه. وفي مرحلة لاحقة، إخترع هذا الفريق العربي أُساساً للحكم، إذ أن الحاكم إختاره الله. فإن أحسن، فذلك بسبب عمل الشعب، وإن ساء إليه فهو “يد” الله التي يعاقب بها هذا لشعب المعتاد على الخطايا.
هذه النظرية إعتنقها الحاكم العربي على إمتداد الوطن رغم أنه لا يكف عن ترديد أن “الشعب مصدر السلطات” وأنه “خادم” لهذا الشعب. لكن هذا الحاكم نفسه يرفض لغيره نظرية “القدرية” ويكرسها لنفسه، والنتيجة أنه “يملك الأرض والشعب”، وهو حر فيما يجريه فيها، وهي قاعدة يطبقها الحاكم العربي ضمن نُظم الحكم الثلاثة.
لا يوجد هناك فرق بين هذه النظم الثلاثة حتى لو سمَّت نفسها نظماً جمهورية، فليس فيها شيء من خصائص النظام الجمهوري، والحاكم يفهم الحكم الجمهوري لنفسه ولا يُطلع أحداً على فهمه. النظام الأول، هو نظام الأسرية الذي يؤمن بأن الأسرة تملك البلاد والعباد وأن الحكم وراثي في داخلها لأن الله إختارها لحكم البلاد إلى قيام الساعة. النظام الثاني، النظام العسكري وكان يشمل معظم الدول العربية، مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر والسودان، أما لبنان فيحكمها عسكري لكن على مبدأ التوزيع الطائفي. فالعسكري الحاكم يختلف في ثلاثة مواضع إختلافاً جذرياً، فالحاكم العسكري المصري يختلف عن الحاكم العسكري الإسرائيلي والحاكم العسكري الطائفي في لبنان، وهذا تفصيل له مجال آخر. أما النظام الثالث، فهو حكم الأحزاب الموالية للحاكم وليس للعمل السياسي، خصوصاً بعدما تم تجفيف الحياة السياسية.
ختاماً، المهم أن المقولة فاسدة ويروج لها من قِبل مرتكبي هذه الجريمة، كما أن الشعوب العربية هي كسائر شعوب الأرض تصلح لجميع النُظم خاصة النظام الديمقراطي.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: رووداو – البيان.
موضوع ذا صلة: “مذهب ترامب”.. وعلاقة المذاهب بالنُظم الديمقراطية