د. عبدالله الأشعل*

في هذه المقالة، نريد تحديد وضع المقاومة ضد إسرائيل، بشقيها اللبناني والفلسطيني، بين العرب وإيران فى العقود القليلة الأخيرة لنخلص إلى نتيجة محددة لصالح المقاومة.

مرت المقاومة ضد إسرائيل بثلاثة مراحل:

المرحلة الأولى، كان العرب جميعاً، برغم ما فرقهم خلال الحرب الباردة، مجمعين رسمياً، على الأقل، على مناهضة إسرائيل حيث قادت مصر هذا الإتجاه بحيث كان صعباً على أي طرف عربي أن يرى غير ما تراه مصر، فهي أكبر الدول العربية وأكثرها حركة على المسرح الإقليمي. ولقد إشتبك نظامها “الناصري” مع الأطراف العربية وبعض الأطراف الأجنبية؛ ومع توزع الدول العربية بين محوري موسكو وواشنطن، كان واضحاً أن “معسكر موسكو” هو المعادي لإسرائيل وأن “معسكر واشنطن” يعادي إسرائيل نظرياً لكنه يعادي الفريق الآخر أكثر وإن كان خفية.

أيضاً، قبِل معسكر موسكو بالتعامل مع معسكر واشنطن، الداعم لإسرائيل، سراً والمتعامل معها خفية على أساس أن فريق واشنطن هو حلقه الصلة الوحيدة بين المعسكرين، وأنه يقوم بتوضيح عدالة القضية الفلسطينية ولا ندري هل كان معسكر واشنطن مقتنعاً أم أنه يعلن ذلك كي لا يفضحه إعلام الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، أمام شعبه. على كل حال، كان العرب جميعاً يعلنون أنهم مع الحقوق الفلسطينية، وكانت تلك عقيدة حازمة لا يشذ عنها إلا مارق، كما أدرك معسكر موسكو أنه صراع سوفيتي – أمريكي يدار بقواعد الصراع المحقق لمصلحة الكبار.

لكن “الحرب الباردة” العالمية إنعكست على الصفحة العربية، فإستعرت حرب باردة عربية بسبب الإنتماءات وخاصة بسبب هجوم معسكر موسكو، الذي لقب نفسه بـ “القومي التقدمي”، على معسكر واشنطن، الذي إتهمه بالعمالة والرجعية ومعاداة العروبة خاصة وأنه رفع “راية الإسلام” لكي يكفر الفريق الإشتراكي العروبي فأسس ذلك للصراع بين العروبة والإسلام رغم أن الإسلام روح والعروبة جسد، كما قال مؤسسا اليسار العربي من المسيحيين، لا سيما ميشيل عفلق. هذه المرحلة، إمتدت من أوائل الخمسينيات وحتى العام 1967 وإستطالت جزئياً وصولاً إلى العام 1973.

في العام 1965، عملت مصر على إنشاء حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وتحولت إلى المقاومة المسلحة، لكن الأخيرة تسللت إليها الصراعات العربية فحاولت كل دولة الإستحواذ على فصيل موالٍ لها فيها حيث كانت فلسطينية صرفة، إذ لم ينضم إليها حزب الله إلا بعد إحتلال إسرائيل لبيروت وظهور إيران. أجمع العرب، رغم فصائلهم وقبائلهم، على التمكين للمقاومة الفلسطينية، ووقفوا ضد لبنان والأردن حين حدث الصدام الفلسطيني – الإسرائيلي عبر حدود الدولتين، فإضطر الرئيس عبد الناصر للضغط على حكومة لبنان من أجل القبول بعمل المقاومة، بحسب “إتفاقية القاهرة” العام 1969، رغم تهديد إسرائيل، ثم كانت آخر معارك الرئيس عبد الناصر يوم وفاته، في 28 سبتمبر/أيلول 1970، التي كانت إنقاذاً للمقاومة وأنهت الصدام مع الجيش الأردني، في “أيلول الأسود”.

لقد تداخلت خطوط الصراع العربية داخل صفوف المقاومة، فأضعفتها وأوجدت مشاكل بين قياداتها مما دفع الشعب الفلسطيني ثمنه من قضيته ودماء أبنائه ومقاتليه، بالإضافة إلى عمليات الاغتيال الإسرائيلية لكبار قادتها فى بيروت وخارجها. وكانت مأساة العام 1967 التي كشفت الموقف العربي بإنكسار مصر وإحتلال إسرائيل لكل فلسطين، بما في ذلك منطقتي قطاع غزة والضفة الغربية اللتين كانتا جزءاً من الأردن منذ العام 1950، حيث أشارت إسرائيل إلى أنها أولى بفلسطين من العرب الذين إقتسموها قبل أن تستولي هي عليها خارج “قرار التقسيم”.

ظل العرب متماسكين نسبياً حتى وفاة الرئيس عبد الناصر وخلفه الرئيس أنور السادات، الذي كان سبباً في خلط الأوراق على الساحة العربية من خلال تقاربه مع إسرائيل بدء من إتفاق “فك الإشتباك” مروراً بزيارته للقدس وإنتهاء التداعيات العسكرية لـ “حرب أكتوبر”، 1973، حيث شكل ذلك ضربة قاصمة للمقاومة التي كانت تجد في الرئيس عبد الناصر سنداً لها.

بذلك، إنتهت المرحلة الأولى فعلياً عام 1979 بخروج مصر من الفريق العربي، لتبدأ المرحلتين الثانية وثم الثالثة،التي نعيشها اليوم وهي التسابق العربي للتطبيع مع إسرائيل. والملاحظ أنه حتى العام 1971 لم يكن الخليج على المسرح العربي، كما أحدثت حرب اليمن طاحنة بين مصر والسعودية ما سمح بتسلل إسرائيل إلى الصفوف العربية.

المرحلة الثانية، بدأت بإحتلال إسرائيل لبيروت، يونيو/حزيران 1982، فقد أشار هذا الحادث إلى تغير جوهري في مشهد الصراع العربي – الإسرائيلي . في فبراير/شباط 12979، قامت الثورة الإسلامية في إيران، فأسرعت واشنطن إلى جمع مصر وإسرائيل ليضعا خاتمة لمسيرة التقارب وتجسيدها في صفقة السلام، برعاية أمريكية، وذلك بعد قيام الثورة الإيرانية بستة أسابيع.

هكذا، تغير كل شيء ذلك أن الثورة الإيرانية بدأت معادية لإسرائيل، إذ بدلت سفارة إسرائيل وجعلتها سفارة لفلسطين. تلك هي اللحظة التي تخلت فيها مصر عن دورها القائد في القضية، فسارعت سوريا إلى تعويض خسارة مصر بالتحالف مع إيران ومساندة المقاومة الفلسطينية، ولو نظرياً، مما سمح للرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، بأن يستند إلى سوريا وإيران وليبيا والجزائر والعراق، ومن خلفهم موسكو، لتكوين جبهة رفض “كامب ديفيد” ما زاد الرئيس السادات بعداً عن المقاومة وداعميها.

أما النقطة الفاصلة فكانت إحتلال إسرائيل لبيروت على مرأى الدول العربية، ثم إصرارها على الجلاء بعد رحيل المقاومة الفلسطينية إلى خارج المنطقة. وخلال مرحلة الإحتلال القصيرة لبيروت، إرتكبت إسرائيل وأعداء المقاومة من الأحزاب اليمنية المسيحيية اللبنانية والعرب، خاصة سوريا، بتصفية الحسابات مع المقاومة قبل خروجها وذلك بترتيب سعودي – أمريكي – مصري.

في تلك الفترة، ولد حزب الله من جانب إيران لتعلن الأخيرة رسمياً أنها داعمة للمقاومة وميلاد الشق اللبناني إلى جانب المقاومة الفلسطينية المنفية حتى ميلاد حركة “حماس”، بعد إنتفاضة الحجارة العام 1987. من هنا، كان “إتفاق أوسلو” النهاية الرسمية للمقاومة، كما بدأ العرب بالقول أن السلام مع إسرائيل خيار إستراتيجي، متأثرين بـ “كامب ديفيد”، ليأتي إحتلال العراق للكويت، العام 1990، وتأييد الرئيس عرفات له كضربة قاصمة للمقاومة والقضية بأكملها، ما سمح للأطراف العربية بالتخلي عما تبقى من حياء تجاه المقاومة.

عندما نشأت السلطة الفلسطينية على أساس “إتفاق أوسلو”، قامت المقاومة في غزة ضد السلطة وإسرائيل، فإصطف العرب وراء السلطة ومعادين لإيران والمقاومة حتى إخترع البعض أسطورة الصراع الإيراني – السعودي، حيث دعمت إسرائيل موقف الرياض ضد كل من إيران وحزب الله. من هنا، صارت المقاومة، بشقيها الفلسطيني واللبناني، تارة مرتبطة بإيران وطوراً بالعرب، حتى وصلنا إلى لحظة قرر فيها العرب، ضمن الجامعة العربية، إعتبار المقاومة حركات إرهابية.

في تلك القمة، تخلى العرب عن القضية الفلسطينية بحجة الصراع الإيراني – السعودي، وهو في الواقع صراع إيراني – أمريكي – إسرائيلي. كان يجب على العرب، لو صحت عزيمتهم وإستقلالهم عن واشنطن، أن يدعموا إيران والمقاومة ضد العدو الذي التهم فلسطين، لكن إيران حلت محل إسرائيل عند العرب كعدو على إستحياء ودون إجماع، وما كان للجامعة العربية أن تصل إلى هذا المستوى لولا تراجع مصر ودورها وتقدم الخليج لقيادة الدفة العربية لصالح إسرائيل.

المرحلة الثالثة، وهي التي نعيشها اليوم من تسابق إلى التطبيع مع إسرائيل، خصوصاً بعد أن قامت الأخيرة بتطويع النُظم العربية، بمساعدة واشنطن وإداراتها المتعاقبة، على مدى عقود حيث بات العرب “تُربة صالحة” خصوصاً بعد الأحداث الكثيرة والمتشابكة التي مرت بها القضية الفلسطينية ومقاوماتها.

الخلاصة، في مرحلة قيادة مصر للعالم العربي كان العرب مجمعين على دعم المقاومة، وكانوا يعادون “إيران الشاه” لتحالفها مع إسرائيل. فلما حل الخليج محل مصر بعد صفقة “كامب ديفيد”، صار الأول زعيماً للعرب في التخلي عن فلسطين لإسرائيل ويهود العالم.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: موقع رام الله الإخباري – العرب الجديد.

موضوع ذا صلة: تفاصيل المخطط الإسرائيلي لإشعال الحرب الأهلية في لبنان