العميد م. ناجي ملاعب*

“قتلت القنابل آلاف المدنيين في الرقة ودُمرت المدينة. يصر المحامون الأمريكيون على أن جرائم الحرب لم تُرتكب، ولكن حان الوقت للنظر بصدق في الدمار الذي يصاحب الضربات الجوية “المستهدفة”.

إنها صرخة أطلقها الكاتب أناند جوبال بعنوان “الأيدي النظيفة” في مجلة “ذى نيويوركر”، في 14 ديسمبر/كانون الأول 2020، مضيفاً أنه “على مدى أربعة أشهر في عام 2017، ألقى تحالف تقوده الولايات المتحدة في سوريا حوالي 10 آلاف قنبلة على الرقة، عاصمة “الدولة الإسلامية” المكتظة بالسكان. تم تدمير ما يقرب من 80% من المدينة التي يبلغ عدد سكانها 300 ألف. زرت بعد فترة وجيزة من دحر داعش عن السيطرة، ووجدت صعوبة في فهم حجم الدمار: الصور الظلية الهيكلية للمباني السكنية المنهارة، والمدارس المتفحمة، والحفر المتفجرة. كانت حبال الغسيل مكشوفة بين أعمدة شاردة، دليل على أن الناجين كانوا يعيشون بطريقة ما بين الأنقاض. لا أحد يعرف عدد الآلاف من السكان الذين لقوا حتفهم، أو عدد الذين أصبحوا الآن بلا مأوى أو مقيدون على كرسي متحرك. ما هو مؤكد هو أن تدمير الرقة لا يشبه أي شيء شوهد في الصراع الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية.”

يشكل المدنيون الضحايا الرئيسيين لانتهاكات القانون الدولي الإنساني التي ترتكبها الدول وأطراف النزاع من غير الدول في النزاعات المسلحة المعاصرة. وما فتئت طبيعة تلك النزاعات تفرض تحديات حيال تطبيق القانون الدولي الإنساني واحترامه في عدة مجالات. وما سوف نتطرق اليه في هذه المقالة هو الجدل المفتوح في الإعلام الأميركي مع الوسائل الحديثة في القتال ومدى احترام حياة المدنيين اثناء العمليات القتالية سواء في سوريا أو في غزة أو افغانستان.

في مسلكية القوي: الغاية تبرر الوسيلة

إن فكرة أن الحرب يجب أن تحكمها القواعد هي فكرة قديمة، وتعود على الأقل إلى أوغسطين، الذي جادل بأن الحاكم الشرعي يمكنه شن الحرب عندما يكون لديه نوايا حسنة وقضية عادلة. في العصور الوسطى، حاولت الكنيسة حظر القوس والنشاب، وبذلت جهوداً لحماية الممتلكات الكنسية وغير المقاتلين من العنف في زمن الحرب. ولكن في القرن التاسع عشر فقط، حاولت الدول صياغة قوانين ومعاهدات لتنظيم السلوك في زمن الحرب.

حظرت اتفاقيات لاهاي الغازات الخانقة، لكن القوى العالمية استهزأت بالمعاهدات بالتخلي عنها في خنادق الحرب العالمية الأولى. تحظر الاتفاقيات فعلياً الاستهداف المتعمد للمدنيين، لكن المتحاربين في الحرب العالمية الثانية أدركوا الميزة العسكرية لقصف المدن والقرى، والمثال الصارخ أنه في العام 1942 منعت السياسة البريطانية الطائرات من استهداف المنشآت العسكرية، وأمرت بدلاً من ذلك بضرب مناطق الطبقة العاملة في المدن الألمانية، “من أجل زيادة الإرهاب”، كما قال ونستون تشرشل لاحقاً. كما أمطرت القوات الجوية الأمريكية والبريطانية، العام 1943 في عملية جومورا، النار والصلب على هامبورغ لمدة سبع ليال، مما أسفر عن مقتل 58 ألف مدني، حيث تركت حملات القصف الحضري الملايين من الألمان بلا مأوى وصدمت القذائف وهم يتجولون في الأرض المدمرة التي وصفها الكاتب الألماني جورج ماكسيمليان سيبالد لاحقاً بأنها “مقبرة لشعب أجنبي غامض، ممزق من وجوده المدني وتاريخه، وعاد إلى المرحلة التطورية للبدو الرحل.”

ثم جاءت القنابل النووية التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي، والتي أسفرت عن مقتل نحو 250 ألف شخص، ربما تسببت غارات الحلفاء المركزة في مقتل حوالي نصف مليون مدني. استمر النمط في الحرب الكورية، كذلك، وأشار وزير الخارجية الأميركي دين راسك في وقت لاحق إلى أن الولايات المتحدة قصفت “كل لبنة كانت تقف فوق بعضها، كل ما يتحرك”.

ويوثق الكاتب في مقالته أنه بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، أصدر الكونغرس تفويضاً لاستخدام القوة العسكرية، والذي تذرع به الرؤساء منذ ذلك الحين لتبرير ما لا يقل عن 37 نشاطاً عسكرياً في 14 دولة، بما في ذلك الحرب الأمريكية في سوريا، دون إعلان رسمي أو مناقشة عامة.

سواء تم إنتاج هذه الكومة من الأنقاض أو تلك بشكل قانوني، أو ما إذا كانت الأحذية الأمريكية تلامس الأراضي السورية أم لا، فهي ليست بنفس أهمية حقيقة أن الولايات المتحدة كانت حرة في هدم مدينة أجنبية دون مناقشة عامة أو مساءلة.

المدنيون ضحايا عمليات التحالف في سوريا

لكن الرقة لم تكن نورماندي. وعلى الرغم من أن العديد من السوريين قاتلوا ببسالة ضد تنظيم الدولة الإسلامية – “داعش” وفقدوا حياتهم، إلا أن الولايات المتحدة، باستثناء بضع مئات من القوات الخاصة على الأرض، اعتمدت على القوة الجوية الساحقة، وقامت بالحرب بأكملها من مسافة آمنة. لم يمت أي أمريكي.. فمعركة الرقة، التي حرب خاضتها غرف تحكم كهفية على بعد آلاف الأميال، أو من طائرات على ارتفاع آلاف الأقدام في السماء، هي الوجه الحقيقي للقتال الأمريكي الحديث.

يوثق أناند جوبال في مقالته مثالاً حياً من مشاهداته، أنه خلال صيف العام 2016 تجمع سكان بلدة توخار، وهي قرية صغيرة على ضفاف نهر الفرات في شمال سوريا، كل ليلة في أربعة منازل على حافة المجتمع، على أمل تجنب إطلاق النار والقنابل. كانت هذه أبعد نقطة عن خط المواجهة، على بعد ميل واحد، حيث كانت القوات المدعومة من الولايات المتحدة تشتبك مع مقاتلي “داعش”. في كل ليلة، تحلق طائرة بدون طيار فوق توخار، وتصور موكب القرويين من منازلهم المتناثرة إلى هذه المخابئ المؤقتة. أصبحت الأقبية مزدحمة بالمزارعين والأمهات وتلميذات المدارس والأطفال الصغار. في 18 يوليو/تموز، حوالي 3 فجراً، انفجرت المنازل. غطى الدخان الكثيف سماء الليل. تناثرت الأطراف عبر الأنقاض. دفن الأطفال تحت الجدران المنهارة.

أمضى سكان القرى المجاورة أسبوعين في انتشال الجثث. في غضون ذلك، أعلن التحالف أنه دمر “تسعة مواقع قتالية لتنظيم الدولة، ومركز قيادة وسيطرة للتنظيم، و12 مركبة تابعة لداعش” في المنطقة تلك الليلة. في النهاية، بعد ظهور تقارير عن مقتل العديد من المدنيين، اعترف التحالف بقتل 24 شخصاً. عندما زرت أنا وزميلي، والكلام ما زال للكاتب جوبال، بعد مرور عام على الغارة، وثقنا مقتل ما لا يقل عن 120 مدنياً، ولم نعثر على أي دليل على وجود أي من عناصر “داعش” بالقرب من المنازل الأربعة. أخبرتني إحدى الأمهات أن بعض الأطفال الصغار قد طمسوا ولم يتم العثور على جثثهم.

..واستهداف اسرائيلي ممنهج للمدنيين في غزة

على مدى عامين من عمر انتفاضة “جمعة الغضب” التي قادها الفلسطينيون من غزة بإتجاه الجدار العازل مع الوطن المحتل، دفع هؤلاء ثمناً باهضاً من القتل “بدم بارد” من جنود الصهاينة. وحتى الإعلام الأميركي لم يستطع السكوت عما حدث. فقد كتب الباحث الأميركي جون كاسيدي، 14 آذار/مارس 2018 على موقع جريدة “نيويوركر”، أن “إسرائيل تقتل العشرات من المتظاهرين العزل على طول السياج الحدودي الإسرائيلي مع غزة، خلال أحدث حلقة في سلسلة من الغحتجاجات في الذكرى السبعين لتأسيس إسرائيل، التي اقتلعت سبعمائة وخمسين ألف فلسطيني من وطنهم.”
وقال كاسيدي “في أكبر موقع احتجاج، شرق مدينة غزة، هناك الآلاف من الناس يتلاقون على الموقع، الرجال والنساء والأطفال في ما درجوا على تسميته جمعة الغضب. إنه مشهد سريالي حقا. هناك أناس يتجمعون، معظم الشبان والفتيان، بالقرب من الحدود حيث يوجد سلك شائك، وثلاث مجموعات من الأسلاك الشائكة. ويمكنك رؤية بضع مئات من الياردات، جنود إسرائيليون تحت هذه الستائر، على تلال من الرمال، وأحياناً في سيارات جيب. وهم يختارون الناس. القناصة حرفياً يختارون الناس. وعلى عكس الإسرائيليين، كان المحتجون الفاسطينيون في الغالب غير مسلحين، ولم ينجح أحد منهم في اجتياز الحدود. في الواقع، يبدو أن بعض ضحايا إطلاق النار كانوا على مسافة بعيدة من ذلك.”

ويضيف أن عدد الضحايا كان غير متماثل بشكل كبير. وتمثلت الغطرسة الإسرائيلية بقول اللفتنانت جوناثان كونريكوس، الناطق بإسم الجيش الإسرائيلي، إن أحد الجنود الإسرائيليين أصيب “بجروح طفيفة من جراء الشظايا”. أدانت الجماعات الإنسانية تصرفات القوات الإسرائيلية. في تغريدة، قالت منظمة العفو الدولية “إننا نشهد انتهاكاً بغيضاً للقانون الدولي وحقوق الإنسان. 38 حالة وفاة مؤكدة، من بينهم أطفال/قُصَّر، أصيب فيها ما يقرب من 2000 شخص في غزة. كثير من الإبلاغ عن إصابات في الرأس والصدر. أكثر من 500 مصاب بالذخيرة الحية. هذا الرعب يجب أن ينتهي الآن.”

ويوثق الكاتب أنه “بينما كانت الاشتباكات مستمرة، كان كبار أعضاء الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية يحتفلون بإفتتاح السفارة الأمريكية الجديدة في القدس. ووصف المبعوث الأميركي جاريد كوشنر الاحتجاجات في غزة بمثابة استفزاز متعمد من حماس، قائلاً: كما رأينا من احتجاجات الشهر الأخير وحتى اليوم، فإن أولئك الذين يثيرون العنف هم جزء من المشكلة وليس جزءاً من حل. إنها إبادة جماعية. غزة هي الغيتو (Warsaw) والجيش الإسرائيلي يتصرف مثل منظمة أس.أس SS الألمانية”، كما استخلص الكاتب.

أسلوب القتل العقيم والبيروقراطي له طابع العقاب وليس الحرب

في كتاب بعنوان “القتل غير المتكافئ: تجنب المخاطر، والحرب العادلة، وروح المحارب” – أكسفورد، يقول نيل رينيك، الباحث في العلاقات الدولية، إنه “عند تقييم إنسانية الحرب، يجب ألا ننظر فقط إلى مصير المدنيين، ولكن أيضاً إلى ما إذا كان المقاتلون قد عرضوا أنفسهم للمخاطر في ساحة المعركة.” ويرى رينيك أن “أسلوب القتل الأمريكي العقيم والبيروقراطي والمنفصل على نحو متزايد” له طابع العقاب وليس الحرب بأي معنى تقليدي.

ويجادل رينيك أنه في مسارح مثل أفغانستان، حيث ينشر الأمريكيون طائرات بدون طيار يتم التحكم فيها عن بعد لقتل أعدائهم بينما نادراً ما تطأ أقدامهم ساحة المعركة، لا يمكن للمتمردين على الأرض الرد، مما يعني أنهم، من حيث التهديد الذي يشكلونه، لا يختلف عن المدنيين. يقترح رينيك أنه سيكون من الخطأ عندئذ إطلاق صاروخ “هيلفاير” على مجموعة من المتمردين الذين يستقلون سيارات بيك – أب، كما سيكون الأمر بمثابة إبادة عائلة من ركاب سيارات البيك- أب في طريقهم إلى نزهة.

في مذكرات الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الأخيرة، كتب أنه، كرئيس، أراد إنقاذ “ملايين الشباب” في العالم الإسلامي الذين “شوهوا وأوقفهم اليأس والجهل وأحلام المجد الديني والعنف المحيط بهم”. ومع ذلك، يدعي أنه بسبب المكان الذي يعيشون فيه والآلات الموجودة تحت تصرفه، انتهى به الأمر “بقتلهم بدلاً من ذلك”. وبغض النظر عن تعميمات الرئيس أوباما الفجة، والتعبير للكاتب، يجادل رينيك بأنه كان بإمكانه بالفعل إنقاذهم، من خلال “تقييد شديد” للحرب البعيدة.

كتاب رينيك هو جزء من اتجاه أوسع للعلماء ونشطاء حقوق الإنسان الذين يتعاملون مع الدمار الناجم عن الصراعات الأمريكية الأخيرة في الخارج. تشترك دراساتهم في بحث أساسي: كيف يمكننا استخدام القواعد لجعل الحرب أكثر إنسانية؟ بينما يركز رينيك على القواعد الأخلاقية، فإن الكثير من هذا العمل الآخر يهتم بالقواعد القانونية.

ففي أعقاب معركة الرقة، قامت منظمة العفو الدولية ومنظمات أخرى بتفتيش الأنقاض، ووثقت بعناية ما إذا كان هذا القصف أو ذاك يتوافق مع قوانين الحرب. هذا العمل مفيد، لكن هناك سؤال مقلق يلوح في الأفق: في سعينا لإخضاع ساحة المعركة للقواعد، هل نتغاضى عن الحقائق الأخلاقية الأعمق حول طبيعة الحرب نفسها؟

ومع ذلك وعلى الرغم من أن النزاع المسلح لن يختفي في أي وقت قريب، فإن هذا لا يعني أنه يجب علينا اختزال الحرب في مسألة الانتهاكات القانونية وقواعد ساحة المعركة فقط. جادل إيمانويل كانط بأنه حتى لو لم نتمكن أبداً من إلغاء الحرب، يجب أن نتصرف كما لو أننا نستطيع، وأن نصمم مؤسساتنا وفقاً لذلك.

لقد قفز الجدل في أمريكا اليوم الى صفحات الجرائد، حيث يخلص جوبال الى السؤال “هل يمكننا العمل على عزل قرارات البنتاغون عن مقاولي الدفاع والمصالح الشخصية الأخرى؛ الأهم من ذلك، هل يمكننا إعادة قرار شن الحرب إلى السيطرة الديمقراطية؟”

*عضو الهيئة العلمية لمجلة “الدراسات الأمنية”.

مصدر الصور: عربي بوست – ساسه بوست.

موضوع ذا صلة: حقوق الإنسان من منظور القانون الدولي